هل حقّاً كولن ويلسون كاتبًا دجالاً؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 01:49:17

ناصر بن محمد الزمل

حين أصدر كولن ولسون كتابة الأول والأشهر "اللامنتمي" عام 1956 كان في الرابعة والعشرين من العمر، وهو الكتاب الذي جلب له المال والشهرة العريضة وتُرجم إلى مختلف لغات العالم. في ذلك الوقت أبدى عدد من النقاد الإنكليز ازدراءهم واستخفافهم بـ (الجهد) الذي بذله المؤلف، واعتبروا جهده مجرد سياحة في سير ونتاجات قادة الفكر الأوروبي ودراسته مصادر وينابيع الفلسفات. ومحاولته إيجاد روابط بين سير هؤلاء المفكرين وما قدموه من نتاج، لكن القراء ضربوا بالحائط بكل صرخات النقاد ليضعوا الكتاب لسنوات على عرش الكتب الأكثر شهرة ومبيعًا وليتحول صاحبه إلى واحد من أبرز نجوم المجتمع البريطاني.

كان الكتاب قد كتب في إحدى قاعات المطالعة بالمتحف البريطاني، عندما كان ولسون ينام على فراش متنقل في شارع هامبستيد هيث في العاصمة البريطانية. كان ابنًا لعامل في أحد المصانع الصغيرة، وكان قد ترك دراسته في السادسة عشرة، ونجح في التهرب من الخدمة العسكرية بحيلة صغيرة. مارس في شبابه مهنًا غريبة ليتفرغ لقراءة كل ما كان ينشر في ذلك الوقت، ويواصل تسجيل ملاحظاته في سجل كبير استدان ثمنه من أحد الأصدقاء.

يحدثنا كولن ولسن في كتابه "رحلة نحو البداية " الذي ترجمه الناقد المصري الراحل سامي خشبة عن قصة كتابه الشهير هذا قائلاً: "قبل أن أنشر كتابي " اللامنتمي" فكرت وقلت لنفسي: ينبغي لهذا أن يعيد الأمور إلى نصابها ويعيدها إلى الحياة. ثم فجأة أصبحت في التلفزيون تحت الأضواء المركّزة، ألقى التشجيع لكي أتشاجر .. أو في افتتاح معرض للفن.. مع أحد اللوردات ألقى التشجيع لكى أناديه باسمه المجرد.. في حفلة يشير إليّ الضيوف بصفتي مثل الأعجوبة الطبيعية، أو يهاجمني ناقد .. فما علاقة كل هذا بكتاب "اللامنتمي"؟..لقد كان شيئًا لا يصدق، وكان أكثر غباءً وجنونًا من كل ما كان بوسعي أن أتخيله، ولم يكن على علاقة مطلقًا بأي شيء أهتم به. كان استعراضًا ساخرًا فكاهيًّا للنجاح.

في ذلك الصباح من يوم الأحد، حينما ظهرت أول عروض الكتاب، فكرت بيني وبين نفسى قائلاً، إنني كسبت وفزت وأحرزت هدفي. ثم حينما مرت أسابيع الدعاية، تبينت كل ما فعلته عدا ذلك، أنني لم أحرز هدفي. وأن المعركة قد انتقلت فحسب إلى جهة أخرى، وبدأت أكتشف حقيقة ما قاله سارتر "من أن الجحيم هم الآخرون"… وفي اليوم التالي ظهرت صحيفة "ديلى إكسبرس" بعنوان: (كولن ولسن يعترف بأنه مخادع) ونقل عني أنني قلت: "إن اللامنتمي قد كتب بناء على قصد زائف تمامًا".

ترجم كتابه "اللامنتمي"، الصادر عام 1956، حين كان ويلسون في الرابعة والعشرين من العمر، إلى العربية في منتصف ستينيات القرن الماضي عن دار العلم للملايين حتى أحدث دويًّا هائلاً. فنفدت الطبعة الأولى سريعًا، وهو أمر نادر آنذاك، وتوالت الطبعات منه.

لم يستطع ويلسون، انتزاع اعتراف المؤسسة البريطانية به قط، على الرغم من أنه أصدر لاحقًا نحو مئة كتاب، وظل هذا الأمر يعذبه طوال حياته. وكرد فعل على ذلك، تضخمت أناه إلى درجة مريعة. يقول في أحد اللقاءات معه: "لا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي يعتبرونني فيه محقًا"، و"بعد خمس مئة سنة، سيقولون إن ويلسون كان عبقريًّا، لأنني نقطة فاصلة في التاريخ الفكري"!

فعندما يكون الحديث عن اللامنتهي يكون الحديث عن كولن ولسون. وفي اللامنتمي وفي جل كتبه, لا تجد ولسون يكتب بلغة فلسفية منظمة, بل بلغة حية تواكب العاطفة ولا تعاديها, وتتكئ على الكثير من عمالقة الفكر ونجد في اللامنتمي: ديستويفسكي ونيتشه وهنري باربوس وكافكا وهمنغواي وغيرهم. وقد عبَّروا عن المشكلة اللاانتمائية بالكتابة عنها تارة, وفي عيشها تارة أخرى. فاللامنتمي إنسان يشعر بانعدام قيمة الحياة التي يعيشها, يشعر بتفاهتها وخلوها من المعنى, ذلك لأنه ارتفع إلى مستوى عالٍ من الإدراك, إذ إنه أكثر حساسية من غيره, ورؤيته للعالم أكثر عمقًا واتساعًا.

ولد كولن لعائلة فقيرة من الطبقة العاملة. تأخر في دخول المدرسة، وتركها مبكرًا في سن السادسة عشر ليساعد والده، عمل في وظائف مختلفة ساعده بعضها على القراءة في وقت الفراغ، بسبب من قراءاته المتنوعة والكثيرة، نشر مؤلفه الأول (اللامنتمي) 1956 وهو في سن الخامسة والعشرين. وتناول فيه عزلة المبدعين (من شعراء وفلاسفة) عن مجتمعهم وعن أقرانهم وتساؤلاتهم الدائمة، وعزا ذلك إلى الرغبة العميقة في إيجاد دين موضوعي وواضح يمكن له أن ينتقل إلى الآخرين، دون أن يقضوا حياتهم في البحث عنه. كان الكتاب ناجحًا جدًّا، وحقق أصداءً نقدية قوية، وجعل من الشاب الفقير كولن نجمًا في دوائر لندن الثقافية، وصارت أخباره الخاصة تتصدر أعمدة النميمة الصحفية، أثر ذلك على كولن كثيرًا، وصار يتخذ موقفًا من الصحفيين والنقاد، الذين سرعان ما بادلوه الموقف نفسه، وهاجموا كتابه على أساس أنه "مزيف" ومليء بالنفاق. برغم ذلك، لا يزال ينظر للكتاب على إنه ساهم بشكل أساسي في نشر الفلسفة الوجودية على نطاق واسع في بريطانيا.

كان ينظر إلى كولن ولسون، على أنه ينتمي إلى مجموعة "الشباب الغاضبين"، - وهم مجموعة من الشباب المثقف المتمرد قدموا عدة أعمال مسرحية في الخمسينيات- برغم أن قليلاً جدًّا كان يربطه بهم من الناحية الفعلية.

يقول كولن ولسن: " اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه.. إنه ليس مجنونًا ؟، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول.. مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية.. هو يريد أن يكون حرًّا ويرى أن صحيح العقل ليس حرًّا، ولا نقصد بالطبع الحرية السياسية، وإنما الحرية بمعناها الروحي العميق.. أن جوهر الدين هو الحرية ولهذا: فغالبًا ما نجد اللامنتمي يلجأ إلى مثل هذا الحل إذا قـُـيَّض لهُ أن يجد حلًّا..!"

ومن الغريب أن كولن ولسن قد حقق شهرة كبيرة في العالم العربي لأنه لا يكاد يكون معروفًا في بلدان أوربية عديدة ولم يعترف به ككاتب جاد أبدًا. اتجه بعد كتاباته الأدبية إلى الكتابة عن التصوف والسحر وعالم ما بعد الموت. يصنف كولن ولسن في الغرب بوصفه كاتبًا دجالاً.

كتابات كولن ولسون الروائية، برغم كثرتها (طقوس في الظلام، ضياع في سوهو، رجل بلا ظل، القفص الزجاجي، طفيليات العقل، الاستحواذ، الحالم، وغيرها) لم تمنح ولسون خصوصية التفرد السردي، لأنه كان يعيش هاجس اللامنتمي الذي ظل يلاحقه، ويفرض شروطه الحسية والنفسية عليه، ولأنه كان يعيش أيضًا الكثير من الطقوس الاستعادية للآخرين الذين يشاطرونه لعبة الاكتشاف، ففي رواياته نجد الكثير من خبرته المحدودة في المنظور الوجودي الفلسفي، أو تمثله للنزعة التجريبية الدائمة في الكتابة الروائية، خاصة في نماذجها الرائدة لمارسيل بروست، وجيمس جويس، ولأنه كان يؤمن أيضًا بأهمية عالم الرواية، بوصفه عالمًا للسرد الذي تفجره اللغة، وبوصفها أيضًا بنية حكائية تتراكب فيها الشخصيات مع الأحداث، خاصة الشخصيات المأزومة القلقة، والأحداث التي تشتبك فيها ثيمات الجريمة والخطف والخيانة والمرض النفسي، ولعل كتابه المميز عن فن الرواية يضع منظوره للرواية بوصفها التحول الأخطر في إعادة كتابة الحياة والتاريخ والانسان، وأنه يضعها المقابل الذي يواجه به مهيمنات الفلسفة المعيارية، حدّ أنه يقول بأن" الرواية قد غيرت ضمير العالم المتمدن وأن الرواية هي رمز للقوة المعرفية"، لكن برغم هذا فإن ما يميز روايات كولن ولسون ليس قوتها البنائية كما هي عند الروائيين الكبار الذين تأثر بهم، بل بنيتها النفسية، وخصوصية شخصياتها التي تعيش فكرة اللاانتماء،  والتي تجعل من هذه الروايات محتشدة بمكونات صراعية وأزمات تعيشها شخصياته المضطربة وغير المنتمية (لصوص، مجرمون، خاطفون، منحرفون وشواذ)، والتي هي الأقرب إلى ما يعيش تحت اضطهاده من الهواجس الحسية التي تجد أن فكرة اللانتماء هي مثاله الفلسفي والنفسي وحتى الديني، إلاّ أنه يضعها في مركّب نفسي، صراعي، فيه الكثير من الاسترجاعات، والانحرافات والتمرد، وبما يضع أبطال هذه الروايات وكأنهم الأقنعة المتعددة لهذا اللامنتمي الذي لا يرى العالم إلاّ تحت هذا الهاجس المتعالي والعصابي والحسي.


عدد القراء: 8122

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-