رواية التاريخ: المعطيات المعرفيةالباب: مقالات الكتاب
أ.د. نادية هناوي العراق - بغداد |
بالارتهان المنطقي في الفكر والارتكان الجمالي إلى التخييل يكون التعالق بين الرواية والتاريخ متمثلاً فعليًا في صيغة كتابية ذات اتساقات ومقتربات تفصح عن رؤية نقد ثقافية هدفها الظفر بالحقيقة أو على الأقل السير في طريق البحث عنها. وهذه الصيغة هي (رواية التاريخ) وقد طرحتها لأول مرة في كتابي (السرد القابض على التاريخ) 2018 كمصطلح يتساوق فيه السرد التاريخي مع التخييل السردي وبفاعلية ذات وظيفة تمثيلية ضمن قالب روائي يتمتع بالمرونة.
واصطلاحية رواية التاريخ تجعلها تتعدى أن تكون مجرد نوع سردي ينضوي في جنس أوسع منه هو الرواية لسببين الأول استجابتها الطوعية ما بعد حداثية نحو التداخل بين التاريخ كفلسفة والتخييل كفاعلية جمالية، وثانيًا الانفتاح ثقافيًا على منافذ التمثيل كلها بما يجعلها قادرة على تجاوز التداخل متجهة صوب العبور الأجناسي الذي به يضم قالب الرواية حدود جنس أو نوع أو شكل أكثر من الأشكال السردية فينصهر فيها لتكون الرواية بالعموم جنسًا عابرًا للأجناس. وهذا ما ورد في كتابي الجديد (نحو نظرية عابرة للأجناس في بينية التجنيس والتمثيل).
وباحتوائية الرواية لرواية التاريخ تنفتح آفاق الأدب تصويريًا وتشخيصيًا على مستوى البنية النصية، وتمثيليًا على مستوى البنية ما بعد النصية. بيد أن التمثيل الذي أراده ميشيل فوكو نظيرًا لفاعلية الفكر ما بعد الكولونيالي سيصبح في (رواية التاريخ) هو الأداة الأهم كنوع من إرادة المعرفة التي تحفر اركيولوجيا في المغيب والمخفي والمهمش، مفككة المركزي والأحادي والفوقي والسلطوي وغيرها من المعطيات التوسعية التي تنطوي عليها الأدبيات الاستعمارية. وهو ما يجعل الوظيفة الجمالية أكثر اتساعًا فيجتمع المرجع / ما قبل النص بالتخييل/ داخل النص ليكون المتحصل هو التمثيل/ ما بعد النص.
ولتوصيف هذه الفاعلية التمثيلية في (رواية التاريخ) وبيان ومعطياتها المعرفية التي بعضها نظري يتعلق بالتطابق في المفاهيم، وبعضها الآخر إجرائي يتعلق بالتنافذ في ترسيم الحدود بين الأجناس، أو ثقافي يتعلق بتحشيد التداخل في المناطق القرائية أو التأرجح فيما بينها؛ فإننا سنستغور ثلاثة معطيات تنطوي عليها اصطلاحية (رواية التاريخ) وهي:
أولاً: معطى التطابق:
تتخذ (رواية التاريخ) من الرؤية الفلسفية قاعدة تبني عليها اصطلاحيتها العلمية، وهي تُمخيل التاريخ وتؤرخن المخيال فتتلاشى الحدود وتزول الحواجز حتى لا مجال إلا للالتصاق والتساند. وبتوغل السرد في التاريخ ينداح الإنسان في الزمان، لأن "بين كتابة التاريخ وعلم السرد طرف ثالث هو ظاهراتية الشعور بالزمان"1.
وهذا الطرف الثالث هو الذي يجعل كتابة (رواية التاريخ) تنبع من داخلها حيث لا يتغالب المؤلف وقارئه على البنية النصية شدًّا وجذبًا حسب؛ بل اللحظة شبه التاريخية للقصص هي التي تتبادل الأماكن مع اللحظة شبه القصصية للتاريخ أيضًا2، من أجل إعادة تصوير الزمان، وقد استمدت مقومات التجاذب فيها من داخل أنماط حبكها.
وبسبب هذه التبادلية الزمانية تعامل هايدن وايت مع المدونة التاريخية بوصفها جنسًا سرديًا هو أما مأساة أو ملهاة أو رومانس أو سخرية، مضفيًا الحيوية على هذه المدونة التي فيها يتم التعبير القصصي عن المادة التاريخية.
وما قطيعة التاريخ والقصص التي بها قال بول ريكور سوى توكيد للانقلاب على مستوى البنية العميقة للنص، فيتطابق إضفاء الصفة العينية مع ظاهرة الرؤية، ولا يقر ريكور بالتقاطع إلا لأجل التطابق؛ فالقول (أتخيل) لا يعني (أتوهم تمثيلاً) وإنما (أتمثل إيهامًا) لأن التفكير لا يترك التخييل يعمل لوحده بل يشترك معه في صنع التاريخ الجديد بانفصام عبارة (كان يا ما كان) عن القول (كأنما الماضي..) أو القول (تخيل كأن) لأن الشيء يصبح صورة لما هو متخيل. واستند ريكور في ذلك على طروحات هايدن وايت عن علم المجاز والوظيفة التمثيلية للخيال التاريخي، مقاربًا المجاز بالتمثيل والمماثلة بالمطابقة، فحينما (نتصور أن..) يعني أن الماضي هو ما كان يمكنني أن أراه وما كان يمكنني أن أشهده لو كنت هناك تماما كما أن الوجه الآخر للأشياء هو ما يمكنني أن أراه لو كنت أنظر إليها من الجانب الذي تنظر أنت إليها منه. وبهذه الطريقة يصير علم المجاز الوجه المخيالي للتمثيل3.
وهذه المقاربة هي ما تريده (رواية التاريخ) مؤدية وظيفتها التمثيلية من خلال جعل التخييل غاية في ذاته، به نردم التقاطع بين القصص والتاريخ معيدين تصوير الزمان، بعكس الوظيفة التصويرية للرواية التاريخية التي فيها التخييل أداة شعرية وواسطة استعارية تساهم في بلوغ الغاية التي هي التاريخ.
ومسألة استعادة تصوير الزمان جعلت ريكور يعيد فحص فلسفة هيغل الذي وجده (يحصر نفسه بالماضي مثل مؤرخ غير متفلسف) من باب ما سماه (الإغراء الهيغلي) الذي فيه التاريخ تاريخ المؤرخ وليس تاريخ الفيلسوف. ولأن روح العالم يوصل إلى ما سماه ريكور (مكر التاريخ) كونه يجعل ما هو غير مقصود مضمومًا في خطط روح العالم، استبدل (روح العالم) بـ(روح الشعب) حيث التاريخ السياسي مولود من روح شعب، وعندها لن يكون المكر في التاريخ نتاج اختلاف بين ماض ميت هو مقصد المؤرخ وماض حي هو مقصد الفيلسوف4.
وبغية ريكور من الوقوف إلى صف الشعب هي الحقيقة التي فيها السعادة التي يجدها عبارة عن صفحات بيضاء في التاريخ. أما الصفحات التي يخطها التاريخ ويسودها فلا تخدم إلا رجال التاريخ العظام الذوات الفاعلة في التاريخ كما يسميهم هيغل.
وفي (رواية التاريخ) تتحول هذه الصفحات البيضاء التي لم يخطها التاريخ الرسمي إلى سرود بأزمنة أو حقب جديدة هي عبارة عن تزمين أي "شبكة منظورات متقاطعة بين انتظار المستقبل وتلقي الماضي وتجربة الحاضر من دون الإلغاء في كلية يتطابق فيها العقل التاريخي مع واقعه"5. فيتماثل السرد مع ما يسرده ويكون التاريخ والرواية وجهين لعملة واحدة.
ثانيًا: أ: معطى التمثيل:
التمثيل اللغوي:
1. أن مفردة التاريخ في (الرواية التاريخية Historical Novel) ترد بصيغة وصفية، بينما ترد المفردة في (رواية التاريخ Novel Of History) بصيغة المضاف والمضاف إليه. ومعلوم أن الإضافة تحافظ على صيرورة الوحدة والتلاحم، وكل ما يتصل بذلك من توالد مترادفات تصب في الإضافة نفسها لتكون مفردة (الرواية) متقدمة ومحددة بتواز مع مفردة (التاريخ) بينما تقتضي الصيغة الوصفية في الموصوف الرواية Novel والصفة (التاريخية Historical) أن تكون الغلبة هنا للصفة لأنها هي البغية في حين تتبعها الرواية التي هي موصوفة بها وتابعة لمواصفاتها، وهذا بالضبط مقصد الرواية التاريخية التي قدمت التاريخ على الرواية وجعلت الأخيرة وسيلة للأول الذي هو البغية والمقصد والجوهر. ولأن الصفة تتبع الموصوف لذلك يكون التوالي والتتابع والاستلحاق مقتضيات بها ينحسر الاشتغال عند منطقة التخييل بينما يتوسع الاشتغال على منطقة الوقائع ويمتد بكثافة. وهو ما ترفضه أدبيات ما بعد الحداثة التي تناصر أي اشتغال يستبدل الاستلحاق والاستتباع بالتجريب واللانمطية في الاستغوار من خلال استلهام ممكنات الوعي التاريخي Historical Concusses وإلى أبعد الحدود.
2. أن اسنادية الرواية إلى التاريخ بطريقة الإضافة الاسمية تماثل ما أراده هيغل حين وجه النشاط الفلسفي الذي كان معتمدا في زمانه آنذاك على البحث في تاريخ الفلسفة historical philosophy فقلب هذا الفيلسوف ذلك الاعتماد متعاطيًا مفهوم فلسفة التاريخ history philosophy of وهنا يتوضح لنا الفارق الشاسع بين الصيغة الاسنادية مبتدأ وخبرًا والصيغة الاتباعية صفة وموصوفًا.
3. إذا كنا قد عهدنا إلى الإسناد تحقيقًا للسردنة التاريخية؛ فإن ما ستفضي إليه اتباعية الصفة للموصوف هو سرد تاريخي. والأول أي (السردنة التاريخية) هو مربط الفرس الذي به انشغل هايدن وايت لأكثر من خمسة عقود. وبحسب وايت تنزع سردنة التاريخ الأدلجة من التفكير التاريخي استنادًا إلى سياسات التأويل التاريخي من ناحية (الانضباط ونزع التسامي) متأثرًا في ذلك بفلسفة ماكس فيبر، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن السرد عند وايت هو المهيمن في الخطاب الأسطوري والتخييلي على حد سواء، بدءًا من الناريم narreme التي هي أصغر وحدة سردية6.
4. الصيغة المعروفة في اصطلاح الرواية التاريخية يسلِّم بثبوتية الفعل السردي مقابل امتدادية الفعل التاريخي بما يجعل السرد وسيلة تمثيل للحدث التاريخي الذي يظل هو الهدف والمبتغى، بينما تفكك (رواية التاريخ) هذه المواضعة وتعيد صياغتها في إطار تخييلي يرفع من فاعلية السرد محجمًا أرشيفية المادة التاريخية بالتمثيل. ولقد حسم كروتشه الأمر حين قال: "حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ" ووصف كونديرا تعامله مع التاريخ بالقول: "سلوكي بإزاء التاريخ هو سلوك المخرج المسرحي الذي يتدبر أمر المشهد بعدد من الأشياء"7. وهذه الإعادة في بناء التاريخ بعد تفكيكه هي التي تعطي للتاريخ حيويته وتجعله متجددًا ومتماسكًا غير هش.
ب التمثيل الاصطلاحي: ليست (رواية التاريخ) مجرد تسمية فيها نضيف الرواية إلى التاريخ؛ بل هي اصطلاح استدلالي فيه تتم عملية مطابقة الواقع التاريخي بالتاريخ الواقعي من خلال تمثيل القول التاريخي تمثيلاً يجعل القول الشعري مفسرًا له حتى لا حدود للتصديق والتخييل معًا. والأحداث كأقاويل تاريخية يتم تمثيلها بواحد من التمثيلات الآتية: التمثيل الشكلي والتمثيل العضوي والتمثيل الآلي والتمثيل السياقي8، وبالشكل الذي يجعل الرواية كما يقول ستندال أصدق قولا من التاريخ.
وبسبب هذا التمثيل لن يعود تعامل الروائي مع التاريخ كتعامل المؤرخ مع الوقائع فيكتب عن حقبة ويغفل متعمدًا حقبًا أخرى، ولا كتعامل الروائي في الرواية التاريخية وهو يراهن على تصوير الحدث وليس تمثيله؛ بل التاريخ في (رواية التاريخ) عام يعنى بالحركة التاريخية بعمومها فلا يهمل حقبة ويعنى بأخرى.
وبالتمثيل يتمكن الروائي من نقد التاريخ مهشمًا قلاعه سرديًا، كاشفًا عن نقاط ضعفه، عارفًا مواضع التخلخل فيه، مفسرًا علة الوجود والزمان. هكذا يصبح تمثيل القول التاريخي في (رواية التاريخ) سياسة ما بعد حداثية، عليها يتوقف الوعي الذاتي بالأشياء متشكلاً بالصورة والقصة والايدولوجيا9 من خلال واحد من أنماط السرد الحديث الثلاتة وهي: نمط الخطاب المحاكاتي ونمط الخطاب الإخباري ونمط فهم التقنية السردية الذي به يتم الاشتغال على الشكل لنستنتج أن الأحداث كانت وهما10.
من هنا لا تعنى (رواية التاريخ) بالتاريخ عناية مضمونية هي عبارة عن أحداث ووقائع حسب بل هي تعنى به أيضًا شكليًا وتقانيًا كأن تحفر فنيًا في المسميات محققة الإيهام السردي أو ما يسميه بول دي مان سلبية التخييل. وباتساع التمثيل في التعامل مع التاريخ، شمولاً للشكل وللمضمون تكون (رواية التاريخ) قد اكتسبت سمتها الاصطلاحية الجامعة المانعة.
ثالثًا: معطى العبور:
تستمد (رواية التاريخ) صيغتها الكتابية ما بعد الحداثية من نظرية التداخل الأجناسي لكنها تتعدى عملية التداخل بين السرد والتاريخ إلى عملية الانصهار في قالب واحد هو الرواية التي هي جنس عابر للأجناس، وقد استوعبت الفلسفة التاريخية المعاصرة معبرة عن ما بعد حداثيتها بالمساءلة والاستجابة والاستمكان والتأقلم والتضاد والاختلاف. وبالعبور تنداح (رواية التاريخ) في نسيج الروي لكن الاستقراء الفكري يظل أطروحة بحثية بها يقولب الكاتب وعيه الفلسفي معبرًا عن هوية سردية، فيستجلب وثائق ومستندات بلورها هو في شكل تاريخ جديد يقوض به يقوض به هيكلية التاريخ التقليدية الجامدة ويصادرها بعد أن يستنطق خفاياها ويبحث عن مسكوتاتها.
ويصف بول ريكور هذا التعامل السردي مع المعطى التاريخي، بأنه "عبور من فكرة علاقة سكونية إلى فكرة عملية دينامية تنطوي على إضافة فعلية إلى النموذج التصنيفي لأن يضفي عليه التعاقب الزمني"11، وأنّ العبور في السرد من خلال المستويات السيميائية (السطح والعمق والمجاز) لا ينتهي بقدر ما يتعرض للمقاطعة، وهو ما يجعل أشكالاً سردية جديدة تمر في طور الولادة، شاهدة على حقيقة أن الوظيفة السردية لا تزال قابلة للتحول ولا تعرف الموت12. ومن هنا رفض ريكور فكرة أفول السرد. وإذا كانت الميتارواية التاريخية ـ التي هي بحسب ليندا هتشيون ليست جنسًا سرديًا بل هي شكل من أشكال الرواية ما بعد الحداثية ـ قد داخلت بين التاريخ والميتاسرد؛ فلأنها رفضت مفاهيم الأصالة الجمالية والإغلاق النصي بالأدوات النظرية ما بعد البنيوية وبالاستراتيجيات الحكائية الخيالية التي تدفع نحو مساءلة التاريخ.
وما كان لهايدن وايت أن يستعمل الميتا ـ تاريخ إلا لكون التاريخ تركيبًا ذهنيًا مجردًا يريد من الروائي لا أن يتخيل حسب وإنما قبل ذلك أن يمتلك رؤية فلسفية، فليست المسألة وجود (متخيل تاريخي) وإنما قبله وجود (متفكر فلسفي) يبني عليه أساسات يستند عليها المتخيل التاريخي، فتجتمع الفكرية بالشعرية ويكون اللغوي التأويلي هو همزة الوصل بينهما.
والتأويل في (رواية التاريخ) منهج ينزع إلى مقاومة فكرة الاكتفاء بالتاريخ وحده. لأن ذلك يضاد الفطرة السليمة التي ينبغي أن تعبأ بالماضي من خلال الحاضر فهما للمستقبل.
وبالعبور من التاريخ إلى التخييل تكون رواية التاريخ قد انفتحت على الفن والفلسفة بلا انغلاق ولا تحكم في المعاني التي تظل دومًا مرجأة وليست نهائية. وكذلك اللغة ليست فردية خالصة في التعبير عن وقائع نستند إليها ونحن غير مطمئنين إلى حقيقتها، والعبور في (رواية التاريخ) ليس تحصيلاً تأويليًا يراد منه التصديق أو عدمه؛ وإنما هو تدليل signification الغاية منه التأويل الذي به يصبح الروائي مفكرًا وتغدو روايته استفزازية لذهن المتلقي بالتمثيل Representation الذي يجعل رواية التاريخ تتسم بالعابرية الفنية كتعبير عن موضوعية التزمين ما بين ماض هو حاضر وحاضر هو ماض وماض وحاضر يتشكلان في القادم (المستقبل) الذي هو الآخر ليس نهائيًا في ارتباطه بالماضي وارتهانه بالحاضر.
وقد تكون الاستفزازية متمثلة بديالكتيك التساؤل الذي به تتزحزح ثوابت التاريخ وتتخلخل مواضعاته، فيبدو كأنه متاهة لكن الذات تقف خارج فعله، متحررة من الخضوع له، ناظرة إليه كفضاء لا زماني بإرادة قوة نيتشوية وبتفكيكة دريدية وبجينالوجية فوكوية.
ولا يقتصر العبور في رواية التاريخ على التجنيس وإنما يشمل تداخل البعدين الكتابي والقرائي. الذي يجعل التأويل مدججًا بذاكرة مضادة وبرؤية مناورة وواعية، فلا يعود المقروء تركيبة كتابية واحدة هي مجرد واسطة بل تركيبة متشظية هي الواسطة والمرمى معا.
فتغدو الوظيفة التمثيلية في(رواية التاريخ) وظيفة تأويلية تتعدى الميتاتاريخ والميتاسرد عابرة إلى الميتا فكر مما تسميه وهتشيون ومارشال (التورط Complicity) الناجم عن اندماج المتخيل التاريخي بالواقعة السردية فيكون المتحصل إيهامًا سرديًا هو بمثابة تاريخ مستعاد. ولا يمكن لنا إعادة كتابة التاريخ ما لم نتعامل معه تعاملاً ابستيميا كوحدة معرفية نتحكم في زمانها منقحين ومسترجعين ومستبقين وكاشفين ومستحضرين وكل ذلك من دون تقليد أو خمود.
وفعالية المتخيل التاريخي لا تعتمد على منتجها ومتلقيها حسب؛ بل على قدرة المتخيل نفسه في المناورة بين الشكل والمضمون أيضًا، فيصبح الميتا تاريخ والميتارواية سواء بسواء، بمعنى أن الانحراف المعياري في الارتكان إلى عناصر السرد الروائي هو نفسه الانحراف المعياري في الاعتماد على المعطى التاريخي بحثًا عن فجوات أو ثغرات، منها ينفذ السرد إلى التاريخ فيظهر ما خبأه الأخير عن الأنظار.
من هنا تصبح (رواية التاريخ) كتابة منتفضة في بعديها السردي والتاريخي، ليس فيها تعال ولا حتمية بل هو تحشيد لا فرق فيه بين عمل الفكر وحتمية الصدفة واعتمال النسيان. فتتمكن من أن تتعدى خرق المنطق التاريخي إلى التمادي في التخييل السردي بوحًا وتفنيدًا ونفضًا وتضادًا. وعندها يكون الإيهام قد وصل بالتاريخ حدًّا تم فيه استجوابه بوصفه متهما يراد إثبات إدانته.
بانتهاج هذه المعطيات يكون مصطلح (رواية التاريخ) قد ولد ولادة طبيعية، كاستخلاص موضوعي لمجموعة رؤى نظرية وتصورات إجرائية. ومعروف أنّ لكل اصطلاح حاضنًا ثقافيًا يهيئ لاستقباله أما كشكلية أجناسية أو كموضوعية فكرية، والحاضن الذي ينطلق منه مصطلح (رواية التاريخ) هو نقض الثقافة المتروبولية مع المراهنة على نجاعة اللاتمركز في استعادة محورية الأطراف، لتكون ذات ثقل مادي ومعنوي يستنبذ الاستقطاب وما فيه من رؤى أحادية وتصورات فوقية منتزعًا استعلاءها ومستبدلاً ثقاقة الشمول بثقافة التنوع والانفتاح والتعدد حيث لا نخب ولا أصنام.
ضمن هذه الآفاق الرحبة والمستقبلية يستحضر مصطلح (رواية التاريخ) التاريخ من أجل تحويل صورته كعلم ينطوي على ما حدث فعلاً إلى صورته كسرد يحبك ما كان قد حدث كي لا يعود كما حدث فعلاً.
ولا غرو أن الاتفاق على اصطلاح بعينه أمر لا يتحقق إلا حين تكون الأطر الفلسفية قد حققت غايتها في توطيد مسارات الحفر الفكري في المتخيل التاريخي على وفق اشتغالات موضوعية وتقانات فنية تواكب متغيرات مرحلتنا الثقافية التي نعيشها وما تزخر به من منعرجات فكرية وانعطافات فلسفية لم تكن طارئة أو آنية، وقد انعكست في جملة كيفيات روائية محورت الفاعلية التقانية بأطر خاصة وجدولت طريقة التعامل مع المادة التاريخية في صياغات تجريبية غير معهودة لتقوم بتشكيلها وقد لبت متغيرات المرحلة ما بعد الكولونيالية وتماشت مع مقتضيات الرؤية النقدية ما بعد الحداثية.
وأهم متحصلات الاتفاق على اصطلاح ما لهذه الرؤية هو تجاوز اشتغالات السرد الحداثية بكل حيثياتها ومتبنياتها، بهدف الارتفاع بالمادة السردية على حساب النزعة الأرشيفية/التاريخية، وما يستتبع ذلك من تعد على مواضعات التعامل البنائي المعتاد وما فيه من محددات النظر الموضوعي للتاريخ.
وبالنظرية التاريخية المعاصرة يكون الفكر الفلسفي قد تحرر من إطاره المواضعاتي الضارب في الرسوخ والقدم إلى إطار صياغي غير ثابت أهم سماته أن المؤرخ صانع حبكات وليس ناقل وقائع. ولكي تتم استدامة هذا الفكر الفلسفي يحتاج ذلك من الروائي بناء رؤية فنية هي بمثابة إستراتيجية كتابية بها يدشن أنساقًا جديدة بديلة عن الأنساق التي كان قد تواضعت عليها الرواية الحداثية الواقعية منها والتاريخية وهي تداهن الفهم المتعالي للتاريخ بوصفة مدونة أرشيفية لا يطالها الشك صلدة وصلبة. والسرد ما بعد الحداثي يتخطى ذلك كله متسمًا بالتجريب الذي به ينقض التنميط ويضاد التعقيد وينفر من القاعدية مجربًا أنساقًا بديلة، تعلي الهامش وتهرئ المركز مستحضرة الذاكرة الجمعية التي فيها المغلوبون والمقموعون والمظلومون هم الصانعون للتاريخ الذين لهم دورهم الخطير المتمثل في مصائرهم المسفوحة ومعاناتهم القاهرة ومسراتهم الشحيحة.
الإحالات:
1 - الزمان والسرد، الزمان المروي الجزء الثالث، بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، راجعه عن الفرنسية د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2006، ص8.
2 - ينظر: المصدر السابق، ص298.
3 - ينظر: المصدر السابق، ص272 ـ278.
4 - ينظر: المصدر السابق، ص297ـ 302.
5 - المصدر السابق، ص313 التزمين مفهوم استعاره ريكور من كوسيلك.
6 - محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، هايدن وايت، ترجمة د. نايف الياسين، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط1،2017، ص53.
7 - فن الرواية، ميلان كونديرا، ترجمة بدر الدين عرودكي، الأهالي للطبع والنشر، سورية، ط1، 1999، ص42.
8 - metahistorical imagination in miteertucentury ,Hayden white, Europe the johns Hopkins press. Baltimore and London 1973,p13)
9 - ينظر: سياسية ما بعد الحداثية، ليندا هتشيون، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، مراجعة ميشال زكريا، بيروت، 2009، ص111
10 - نظريات السرد الحديثة، والاس مارتن، ترجمة حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998، ، ص234.
11 - الزمان والسرد، الجزء الثاني، التصوير في السرد القصصي، بول ريكور، ترجمة فلاح رحيم، وراجعه عن الفرنسية جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2006، ص104.
12 - ينظر: المصدر السابق، ص96 وص60
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجسد الأنثوي بين الانسلاخ وأدًا والبزوغ سردًا .. قراءة في قصة قصيرة لعلوية صبح
- الشك بين تصارع الأضداد والغوص في التساؤل .. قراءة في رواية «جمرات من ثلج»
- التداخل الأجناسي والتغاير الأسلوبي في القصة القصيرة جدًّا
- السرد الروائي بين التاريخي والتخييلي في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- القصة القصيرة وبروتوكولات السرد ما بعد الحداثوي معاينة في مجموعة سايكو بغداد لرغد السهيل
- التخصيب السردي في رواية (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيم
- التوحد السردي موضوعًا وتقانة في رواية ( الطيف) لهيثم بهنام بردى
- الكينونة المؤنثة بين أمل العودة وخيبة الضياع قراءة في قصيدة الأم والطفلة الضائعة
- رواية التاريخ .. معاينة في التمثيل الثقافي
- مسارب المبادرة في التصعيد الدرامي في قصص (حافات الحلم)
- الأخلاق بين أفلاطون والفارابي
- سطوة الحكاية وسرديات الاستعادة في رواية (في بلاد النون)
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- الحرج النقديّ في (السرديّة الحرجة) للدكتور عبدالله الغذاميّ
- الجنون بوصفه مهيمنة فكرية في قصص لطفية الدليمي
- طه حسين والبحث الحفري
- البعد الثالث للشخصية في قصص سعدي المالح
- جيرار جينيت والسرد ما بعد الكلاسيكي
- أحمد فارس الشدياق: ريادة سرديّة.. تُنقد بإتباعيّة
- تراثنا السردي: من التناص إلى الأقلمة
- ثلاثة مآخذ نقدية على برسي لوبوك
- قصص الأطفال والسَّرد غير الطبيعيّ
اكتب تعليقك