الجنون بوصفه مهيمنة فكرية في قصص لطفية الدليميالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 08:18:47

أ.د. نادية هناوي

العراق - بغداد

ليست كل ثيمة قابلة لأن نطبق عليها آليات التفكيك ومقتضياته؛ وإنما هي قدرة الكاتب على تحشيد طاقته وشحذ مخيلته باتجاه جعل تلك الثيمة محملة بحمولة فكرية قابلة لأن تصب سلبًا أو إيجابًا في أكثر من شكل وقالب على أساس أن الثيمة مادة أولية، منها يفصِّل الكاتب مقاسات كتاباته ليكون لها شكل محدد الحجم والمساحة. وكلما كانت الثيمة الموظفة في الأدب غنية وعميقة وجديدة تعصت على الاستهلاك ولم تنضب إمكانياتها في التعبير الإبداعي شعرًا أو سردًا، مانحة الكاتب براعة في توصيل فحوى أدبه إلى المتلقين بقوة ونضج.

والثيمات لا حدود لها فهي كما قال الجاحظ (مطروحة في الطريق) لكن المقصد ليس تصيّدها بقدر ما هو الإصابة في اختيارها والإبداع في تجسيدها وبحسب ما يمتلكه الأديب من موهبة ودربة وعطاء.

ويعد الجنون واحدًا من تلك الثيمات التي قلما عني بها الدارسون مع أن لهذه الثيمة في الفكر الانساني أهمية، ولها في الفلسفة ما بعد الحداثية مركزية بوصفها هي الضديد للعقل الذي عده ميشيل فوكو حماقة، تجعل الموت موضوعًا مركزيًا بينما يغدو الجنون موضوعًا هامشيًا بدل أن يكون الجنون واقعًا مفروضًا. أما الإنسان ككيان عاقل فعليه أن يتأقلم مع هذا الواقع المجنون، ولا يكترث للنهاية؛ فحقيقة الإنسان لا تبين حتى مع نهاية الأزمنة والعالم، وإنما تنامي الجنون واكتساحه الصامت هما اللذان يدلان على أن العالم قريب من كارثته النهائية.(1)

وكان سعي فوكو إلى نقض العقل منطويًا على رغبة في الانفلات من الكوجيتو الديكارتي باتجاه القبض على الجنون لتكون مقولة (أنا أفكر فإنه لا يمكنني أن أكون مجنونًا)(2) بديلة عن مقولة (أنا أشك إذن أنا موجود).

ولقد نفى فوكو أن يكون الجنون مرضًا عقليًا؛ بل هو عدم وتدمير وصمت وظلام يتأرجح في صرخة نهائية بها تضيع حقيقة العالم.(3)؛ فيغدو الصوت بديلاً عن الكلمة ويصبح الشعبي بديلاً عن الرسمي ويحتل الطرفي موقع المحوري مع نسف التطابق في المعنى والهوية وتقديم الأنثوية على الذكورية، وتفضيل الإدراك على العقل والروح على الجسد والسرد على التاريخ. وواحدة من الفرضيات الدريدية التي بنيت على مفهوم الاختلاف فرضية الكتابة أو الغراماتولوجيا التي تتكيء على اللاعقل وتنبثق من الصمت. وللجنون في الأساس شمولية تجعله يتعدى الفعل السلوكي الواقعي إلى الفعل الأدائي التخييلي الذي تختصره مفردة الأسطورة myth بكل ما تعنيه من السراب والحلمية والسحرية والتمزق والموت والبلبلة والالتباس والزيف واللعب والفوضى.

وكانت نقمة دريدا على التمركز حول العقل (اللوغوس) مبنية على رغبة صميمية في جعل هذا التمركز لا نهائيًا ولا متعاليًا، عادًا الجنون هو الممثل للفوضوية والتعددية وعدم الاكتمال واستحالة الاتمام والتجميع والانتهاء والتشييد. والجنون أيضًا هو الخطأ في غياب الحواس في العمل، وبغياب العمل لا يكون للعالم نهاية(4).

لكن السؤال هنا هو لماذا يغدو التحرر جنونًا ما دامت حقيقة الجنون هي العقل؟ بمعنى آخر هل المجنون شخص تقيد بالأغلال فتحرر؟ وإذا كان القيد هو بؤرة الفعل المتجه صوب التحرر فهل ستكون المرأة هي المعنية بالجنون أكثر من الرجل بوصفها الكينونة التي قيدها الرجل وفرض عليها وصايته؟

هذا ما تجيب عنه الكتابات الإبداعية والاجناس الأدبية التي وظفت ثيمة الجنون ومنها القصة القصيرة التي تنوعت أساليب كتابتها في تمثيل هذه الثيمة. ومن تلك الأساليب الهيمنة الفكرية على غيرها من الثيمات وذلك بوصف الجنون هو مرآة الوعي التي عليها تنعكس صورة الواقع حسيًّا وميتافيزيقيًّا. وسنتخذ من قصص الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي عينة تحليلية لما تقدم، محاولين الكشف عن موجبات الهيمنة الفكرية لثيمة الجنون وعيًا وتجربة، وكالاتي:

1) الجنون والمرآة

يتجلى هذا الشكل من الوعي بالجنون في قوة التفكير في العالم وانعكاس هذا التفكير في عملية تفكيكه، حيث كل "شيء يشير إلى المعنى الحرفي للمرآة والمشهد التأمل ولا يتعلق الأمر هنا بالقوانين الفيزيائية للانعكاس؛ بل بالمفارقات التأملية داخل تجربة القانون فليس هناك قانون بدون مرآة ولن نتمكن أبدًا من تفادي لحظة الإعجاب داخل هذه البنية العاكسة."(5)

ولا يتأتى الانعكاس المرآوي للذات على العالم إلا بوجود ضغوط نفسية كالحرمان والاكتئاب والوحدة مع عدد لا محدد من الاستجابات السلبية غير المنطقية التي تخلف ما يسمى انثروبولوجيًا (صدمة ثقافية Cultural shock) هي عبارة عن "استجابة نفسية لفرد أو جماعة نتيجة التعرض لبيئة ثقافية جديدة غير مألوفة سواء كان ذلك نتيجة الهجرة أو الغزو أو الاستعمار أو غيرها من مظاهر الاضطراب السياسي أو الاجتماعي."(6)

ومثلما المرآة تخشى الانكسار، فإن خشية الإنسان من الشرخ المتواري في داخله يحوله من ذات متعافية معقولة إلى ذات متشظية معلولة غير معقولة ككائن عجائبي لا مستحيل أمامه.

وتغدو تصرفات المجنون محكومة بسلطة رمزية للشيطنة والفتنة في بلوغ الحكمة التي فيها نهايته، يقول فوكو: "إن الامتياز المطلق للجنون أنه يتحكم في كل ما هو سيء في الإنسان."(7) والانكسار في الأصل ضوء وظل وهو ما يشكل سيميائية صور ضوئية سواء بالتنافر والتشتيت أو بالاتحاد والتوتر ويكون دور العين اقتفاء أثر الخطوط والحركات والتموجات في العالم المرئي والعقل يدرك أبعاد هذا الحقل المرئي(8) لكن ماذا عن استعباد العقل في ما تراه العين من صور ضوئية؟ هل يظل الضوء والظل شكلين للانكسار؟

تتشظى في قصة (الظل والموسيقى) شخصية سامية النعمان محاولة مساكنة الحزن وهي تقضي شهور الحداد، مواجهة الزمان الذي يتبدد والحياة التي تمضي والذكرى التي هي حية لا تنسى حيث المرآة هي الفاعل السردي الذي يدفع بالأحداث نحو التصاعد، فتتشظى الشخصية وتوتر وهي تجد العالم أمامها منقسمًا إلى حياة وموت. فأما الحياة فتفاهات وكلام عبثي وصخب مجلجل. وأما الموت فنهاية وهو والجنون شيء واحد.

وسبب هذا الجنون مرآة بيزنطية فيها يكمن السر الذي يبحث عنه الزوج فخري توركلي، متوهمًا أنه سيحقق حلمه الأثير في استرداد عرش أسلافه.

وتغدو المرآة معادلاً موضوعيًا لذلك الحلم الذي ينتظر الزوج تحققه بينما تنتظر الزوجة زواله، وما من طريقة لزواله إلا باخفاء كل المرايا وهو ما قامت به سامية نعمان فجمعت "كل المرايا البيزنطية والقت بها في مخزن وراء المبنى ثم بدات تزيل العفن المعشعش في البيت وتمحو آثار الحريق".

وبهذه التعادلية الموضوعية بين المرآة والحلم والتضادية الواقعية بين الزوج والزوجة يستبدل الموت بالجنون الذي هو في نظر فوكو العدم نفسه، فالموت "لا يشكل قطيعة بل يشكل انحرافًا داخل نفس القلق، فالأمر يتعلق هنا أيضا بعدمية الجنون"(9) الذي له صلة بالروح وليس الجسد، و"كلية الجسد والروح تتجزأ في حالة الجنون.. فتفصل الإنسان عن نفسه والواقع."(10)

والعقل الذي هو بالنسبة لفوكو حماقة، يجعل الموت موضوعًا مركزيًا بينما يغدو الجنون موضوعًا هامشيا ليكون الجنون واقعًا مفروضًا. والانسان كيان عاقل عليه أن يتاقلم مع هذا الواقع المجنون، فهل له بعد ذلك أن يكترث للنهاية؟

في الحقيقة ليس بالضرورة ذلك لكن نهاية الأزمنة والعالم ليست هي التي ستبين أن الإنسان مجنون - كما يقول فوكو- بل تنامي الجنون واكتساحه الصامت هما اللذان يدلان على أن العالم قريب من كارثته النهائية.(11)

وبالرغم مما للمرآة ذات الإطار النحاسي المطعم بأنياب ذئاب طوروس من قدرة على درء الشرور كما في المعتقد القديم فإنها تخيف سامية النعمان فتتخيلها ضبابًا رماديًا يموج بين سطح المرآة والطلاء اعتقادًا منها أنه بقايا دخان الحريق لكن جنونها بها هو الذي يجعلها تتخيل بؤرة قاتمة وسط هذه المرآة بثقب فضائي أسود تجذب كل الاجرام وتبتعلها وتذيبها في كثافتها.

وبالتداعي الحر تتكشف دواخل سامية وحيرتها إزاء ما يحصل وقلقها من المرآة التي بسببها تقع الأمور غير المعقولة فتتوهم وتحزن وتتساءل بلوعة وتهكم "أكل ذلك وهم؟ أتلك الرؤى والانخطافات وهم؟ كلا الألم ليس وهما.. ليس أكذوبة.. والحرائق ليست سرابًا".

وبغياب العقل يغدو الواقع صدى الزيف والجنون والتخوف والغرابة عبر تكرار عبارة (الإشارات الوامضة) التي تأخذ بالدنو من الشخصية حتى تطوقها كتيار كهربائي يسري في جسدها. فتقرر أن تغير البيت بالكامل فتبدأ بالستائر التي حولتها من ألوان قاتمة إلى أخرى شفافة ربيعية.

وما تتركه تلك الإشارات الضوئية من ظلال وأنوار يجعل التأزم ينفرج، وقد تراءى لسامية ظل هو رجل/حلم. وعندما أمعنت التحديق به وفي صلفه المعاند تبينت فيه مع فزعها ودهشتها هيئة شريكها الراحل فخري توركلي بقامته المديدة نفسها وترفعه البارد وعناده القديم.

والوعي بالظل رجلاً وشبحًا هو تعبير عن حالة الوعي التي تجعل المجنون يقول لنفسه: إني لست كائنًا حيًّا أو إنسانًا أو وعيًا، أنا الينبوع معنى الوجود المطلق لا يأتي ممن سبقني أو حتى من محيطي الطبيعي أو الاجتماعي لأنني أنا من يوجد بالنسبة لي. فالوعي إذن هو حقيقة الذات التي هي حقيقة العالم وقد نقل ميرلوبونتي عن القديس اوغسطنيوس أنه جعل القدرة في داخل الإنسان نفسه، فالتعرف على العالم يعني قبل ذلك التعرف على الذات. والإنسان هو العالم ولا يعرف ذاته إلا في العالم(12).

وهنا يأخذ اللاعقل بالتفاعل على حساب العقل، فيتناهى لسامية صوت نشيج مكتوم ميزت فيه صوت نحيب ليكون الشبح/الظل والرجل/الحلم هما أصداء كوابيس تباغتها. وتعي أن الجنون يداهمها نحو التخلص من كل ما هو تاريخي متهالك. وبذلك أدركت سامية حقيقة جنونها وأن ما مرت به من التشظي هو حصيلة صدمة فيها المرآة هي سبب الظلال والأضواء التي تعكسها فتتوهم أن هناك ذاتًا غيرها. وبوعي الشخصية لذاتها وادراكها أن العالم نفسه هو مجنون مثلها ينتهي التأزم وقد نفضت سامية الجنون والموت عن حياتها بالموسيقى التي بها تحدت المرآة. وتأخذنا قصة (مرايا بيزنطية) إلى ما قبل زمن القصة الأولى والزوج فخري تركلي ما يزال على قيد الحياة وهو يجمع المرايا، باحثًا عن سر أودعه الأسلاف فيها. وما جعل المرآة فاعلاً سرديًا هو هيمنتها على الأحداث والشخصيات والزمان والمكان.

ويستطرد السارد العليم في تعداد أوصاف الزوج سليل آخر ملوك بيزنطة والذي يعيش في الماضي حالمًا باستعادة مجد بيزنطة بينما تعيش سامية في الحاضر. وإذا كان الزوج يلوذ بالمرايا، فإن الزوجة تتضاد معه وقد قلبت المرايا حياتها تعاسة وعكست لها وجهها ومعها عشرات النساء اللائي لهن ملامحها القانطة. ولكي لا تفقد صوابها غطت المرايا بأستار وسدول وهو واعية أن جنونها عقل، وعقلها جنون. وما تعكسه المرايا من أشياء قبيحة وبلا جدوى، يخلّف اضطرابًا دائمًا في وعيها، فتختلط الجهات وتضيع الحقائق وتعم الفوضى.

ويبلغ التأزم ذروته حين تحاصر المرايا سامية وتعاندها، والمفارقة أن لعنة المرآة تتلبس الزوج الذي يصطف مع مراياه ضد سامية، ومؤكدًا حالة التشظي المجنون الذي تمر به سامية. وبسببه تغدو أشلاء جامدة وقد انسحبت من الحاضر نحو الماضي.

وتستكمل قصة (الحب في حضرة جلال الدين الرومي) القصتين السابقتين وقد أخذتنا إلى زمن سابق فيه ابتدأت قصة الحب بين سامية وفخري توركلي وهي تسرد هذه القصة بضمير الغائب.

وعلى الرغم من أن المرايا في بداية القصة ومنتصفها لا تشكل فاعلاً سرديًا، لكنها ستظهر في نهاية القصة بقوة على شكل مفارقة مجنونة فيها النزعة الصوفية ـ على عكس المتوقع ـ سبب في الاخفاق والسقوط، وقد أذعنت سامية لقلبها وأسكتت عقلها. وتكون مباغتة أصوات الناي وحركات الهيولي بمثابة المعادل الموضوعي للجنون. وما بين نداء العقل الذي تستشرف به حزنًا قادمًا وبين نداء العاطفة التي تتجلى لها صوتًا أنثويًا مقدسًا تجتمع المتناقضات في داخلها فتتشظى ذاتها ويزداد إحساسها أنها تعي واقعها الذي يجرها نحو ماض محنط هي فيه أميرة بيزنطية تسكن بيت المرايا.

وتتفاقم حالة الاحساس بالتشظي في قصة (فوبيا الحرائق) اليت فيها يتفاقم وهم الزوج بماض غابر وأرث مجد زائل وخرافة مكان قديم وكذلك ازداد مرض الزوجة وهي تكافح من أجل استعادة عقلها وإنهاء مأساة المرايا التي جننتها. والمفارقة أن المرايا التي طالما عكست أضواءً وظلالاً واهمة ستعكس لهبًا، يندلع على إثره شرر ويتطاير محرقًا البيت ومعه يحترق الحلم البيزنطي.

وتحفل هذه القصة بأكثر من مشهد درامي هو انعكاس لجنون الشخصية، كمشهدها وهي تحلم بطائر الرخ يطوف بها الجزر وشطآن الطفولة في ظلمة الرعب أو مشهد سامية وقد اجتاحتها نبوة السعال فتناهت إليها أصوات موسيقى سماوية تهمس لها "أن اطلبي النجاة مما أنت فيه"

وبالقصة القصيرة جدًّا (الأعجوبة الأخيرة) تكون (موسيقى صوفية) قد شارفت على الانتهاء وسامية مستسلمة للظل الشبحي الذي عكسته المرايا فتشظت ذاتها الواعية إلى حزن وموت وجنون. وبالتشظي أدركت مأساتها التي انتهت مع الأعجوبة التي اكتشفتها، وما إنزالها المرآة ووضعها باتجاه الباب سوى ترميز إلى أنها كانت تعي جنونها الذي تجسد أمامها رجلاً حلمًا، وسمعته يقول لها: "ها نحن معا يا سامية" وعندها تسقط المرآة وتتحطم لتكون الأعجوبة الأخيرة هي الصمت.

وبتوظيف المتوالية السردية في بناء القصة القصيرة تكون لطفية الدليمي قد برعت في توظيف ثيمة الجنون وبلورتها في مجموعتها المعنونة (موسيقى صوفية) التي وصفتها بأنها رواية قصيرة؛ بيد أن القصة القصيرة جنس عابر للأجناس ومن ثم هي قادرة على استيعاب حدود الرواية والرواية القصيرة والقصة القصيرة جدًا وتهجينها وصهرها داخل قالبها، مجسرة بذلك المسافة البينية بين الجنس ونوعه.

2) الجنون والأسطورة

لا يخفى ما للأساطير من دور جمالي في توكيد معطيات مادية وذهنية بالاستناد إلى ما سماه مالينوفسكي في نظريته عن الأسطورة بـ(الميثاق الاجتماعي social carter) الذي به تبرر عادات جماعة معينة ويتحدد سلوكها. وقد عد شتراوس الأسطورة نوعًا من أنواع التفكير في صياغة المبادئ العامة وعاملاً من عوامل تأمل التناقضات الإنسانية العامة أو الخاصة بثقافات معينة. وما دام الوجود في تغير دائم والدوال والمداليل في اختلاف وتجدد مستمرين يغدو الفعل الأسطوري حاضرًا دومًا جنبًا إلى جنب الفعل الواقعي، مسبغًا على الفواعل العاقلة وغير العاقلة طاقة رمزية هي بمثابة سلطة ثقافية باتجاه الظفر بالمعرفة وبلوغ الحقيقة.

وتتخذ الأسطورة في قصص لطفية الدليمي شكل عالم مجنون تجتمع فيه المتضادات (العمران والخراب، السلام والحرب، الحياة والموت) كما في قصة (الشجرة وسر الرقم الطيني) فالشجرة هي المجنونة بالحياة والحياة هي التي تمنح الشجرة جنونًا، به صارت عصية على الذواء وقادرة على مقاومة الحرب، وهي التي عاشت دهورًا من الشرور من أول إنباتها على ضفاف الفرات ما بين أور ولكش وإلى شيخوختها على ضفاف دجلة مقاومة الزمن تمتص الضوء وتلقي بالظل، لا تهزها الحروب ولا تنال من ثباتها النزاعات.

وهذا الصمود هو الذي جعل الشجرة بالنسبة للناس جنونًا يتجلى لهم كأعجوبة هي نفحة من قداسة وكشيء طوطمي هو حلم خارق وعقار عجيب يداوي ذوي الحاجات والعواقر ويشفي المرضى الذين عليهم أن يؤدوا صلواتهم سجودًا على أوراقها التي لها هالة غامضة من الطاقة في تفريج الهموم.

وجنون الناس بالشجرة عقلن رؤيتهم لها، فلم يصدقوا أنها وهي تذوي وقد نالها الفناء ستموت لأنها هي الحكاية التي اخترقت الآفاق كأسطورة فيها تكمن الحكمة. وتبريرهم أن في موت الشجرة حياتها يجعل الأسطورة بمثابة الخيط الذي يربط الجنون بالقداسة فتصبح الشجرة محرمة بأوراقها وغبار طلعها وأغصانها وجذاميرها التي فيها الخير والشفاء والدواء والنماء، وفي الآن نفسه فيها الكوابيس التي تقض مضاجعهم وتداهمهم في نومهم. ربما لأن فيها أودع السر في رقيم طيني عثر عليه صدفة في عصر فجر السلالات السومرية وكتبت عليه كتابات مسمارية ورموز آلهة. والجنون لا يصنع نفسه بل الإنسان يصنعه فيزداد جنون العالم، فتظهر شخصية رجل الرؤيا الذي عرف سر الشجرة وما فيه من القداسة والحكمة. وصار هذا الرجل قرين شجرة الحكمة التي يحتاجها أهل زمانه. وما دامت الأسطورة سارية في فعلها العجائبي في شكل رجل هو وريث الشجرة ورؤاها الأسطورية فلا حاجة إذن لمنطق يفترض أن وريث الشيء هو ما كان من جنسه، ومن ثم يكون انتقال حكمة الشجرة المقدسة التي هي مؤنثة إلى ما هو مؤنث، بل أن الجنون هو الذي يسوغ لرجل الرؤيا أن يكون الوريث مذكرًا، متحايلاً على المؤنثات الثلاث (الشجرة + الحكمة + القداسة).

وهو ما ستكشف عنه القصة القصيرة جدًّا (من أوراق رجل الرؤيا) التي فيها تتمظهر الشجرة/ الأسطورة من جديد كعرافة وغاوية وامرأة برية متوحشة وكاهنة أنثى وسيدة وطفلة نزقة تريد استعادة إرثها "نحن أحلام تتخذ لها هيئات بشرية تحاول أن تكون مخلوقات مجنحة تبحث عن الشجرة المخبوءة في أعماق الوعي أو أعماق الأرض".

والجنون الأكثر أسطورية من جنون الشجرة هو عقلية رجل الرؤيا الذي عثر على الشجرة في غرفة حجرية، فقرر أن يبني لها ضريحًا بجدران وسقوف. وبهذا الفعل ساهم في ذوائها وقد غطتها قشور القواقع وجلود الأفاعي والحشرات وغزت جذعها الطحالب فموهت ألوانها وبدت أغصانها متهدلة مثل أسلاك ذائبة، لكن المفارقة التي ستقلب مجرى القصة المتأزم إلى انفراج محتدم، هي أن الشجرة ستعود لها الحياة فجأة وقد تلقت نور الشمس ("فسرى الاخضرار إلى أطارف أوراقها وزهت فصمت الجميع أمام جلال اللحظة المجيدة.. وذابوا في صلاتهم تحت وهج شمس الضحى وخفق أجنحة اليمام البري").

فالأسطورة فعل يجمع العقل بالجنون والمنطق بالتخريف، ومن يرد تقييد الأسطورة بالعقل في شكل تقاليد وممارسات مقصودة ومتوارثة فانه بذلك يقضي على فاعليتها. وهكذا كانت حكمة الشجرة وقداستها تكمن في طبيعتها الأسطورية لكن الاستحواذ العقلي قضى على ما فيها من الحكمة والبراءة والسعادة فتهالكت وفقدت بساطتها.

ولا يخفى ما في هذه الدلالة من تماش مع النزعة الإنسانية التي شملت أغلب قصص لطفية الدليمي وفيها الطبيعة ملاذ والشخصية تتحصن بالتصوف والزهد من شرور الغواية والانحراف.

ولا يخرج العمل المعنون (أساطير ديكة الجن. العمل في رواية قصيرة) عن توظيف ثيمة الجنون كإحساس بالحيرة وفقدان التوازن، والعمل يجمع الكتابة السردية التي هي (أساطير ديكة الجن) بالممارسة النقدية التي هي (العمل في رواية قصيرة) فيغدو الفعل الإبداعي فعلاً اندماجيًا ينطوي على مروق وانزياح عن المألوف، ويصبح الفعل النقدي فعلاً عقلانيًا وفاعله ذات تشظت إلى ذاتين واعية ولا واعية.

ويؤدي اشتباك العامل الأسطوري بالعقلي إلى مستويين: فوقي هو العقل، وتحتي هو الجنون. ويتنازع المستويان في وعي الكاتبة فتنشطر ذاتها إلى ذاتين: ذات الساردة التي تخطت العقل وغرقت في الأسطورة، وذات الناقدة التي تخطت الأسطورة وانتهجت العقل.

ويرمز التناص مع قول الشاعر كافافي (الزلزال يغرق في نقطة دم) واستدعاء حكاية ديك الجن إلى الحيرة والتردد.. فتتأرجح الكلمات والأفعال تغرق في نقطة ثم تنحرف عنها، والمعنى يعيد إنتاج نفسه في متاهات واتجاهات، فتختمر الأسطورة في صور غرائبية سريالية متقاطعة، فيها العشق والقتل وبغداد وديك الجن الحمصي وظل من طمأنينة وعويل نساء وملاحم عن درب الصد ما رد.

وينتهي هذا العمل وصورة المجنون ديك الجن خارجة عن سيطرة الكاتبة، فيظهر مرة كأسطورة في شكل خبر مسرود وديك الجن غارق في الندم وقد قتل الحبيبة بيديه، ومرة أخرى يظهر كديك جن آخر عصري داخل نص نقدي فيه يتم تحليل مقاطع من شعر ديك الجن التاريخي وتأويلها.

3) الجنون والأنثى

تُبئِّر اركيولوجية الجنون التجربة التراجيدية بشكل عمودي داخل العقل، منطلقة من التخمين والعبث والهوى والسخرية والفنتازيا. فيغدو المجنون شخصًا لا يكشف عن نفسه من خلال كينونته، لذا فإن قوله عن نفسه (لست أنا ذاك) هو غير قول الآخرين عنه (هذا مجنون). وبقول الآخرين عنه أنه مجنون - كما يرى فوكو - يتجرد المجنون من سلطته.

فالجنون اختراع الإنسان لاختلالات سلوكه من أجل بلوغ اللاتناهي بوصف الجنون هو تحرر المخيلة والشهوة. من هنا تكون صلة الجنون بالعقل والكينونة بالجنون غير مدركة إلا بالعقل ولكن لماذا يغدو التحرر جنونًا ما دامت حقيقة الجنون هي العقل؟ بمعنى آخر هل المجنون شخص تقيد بالأغلال فتحرر؟ وإذا كان القيد هو بؤرة الفعل المتجه صوب التحرر فهل ستكون المرأة هي المعنية بالجنون أكثر من الرجل بوصفها الكينونة التي قيدها الرجل وفرض عليها وصايته؟

قد لا نبالغ إذا قلنا إن غالبية الشخصيات الأدبية هي ذكورية وما ذلك إلا لأنها أكدت نفسها بالجنون فتحررت من أسوار العقل وقواعده الأخلاقية الرتيبة كما في شخصيات أوديب ودونكيشوت وفاوست وهاملت.. بينما تكبلت الشخصيات الأدبية الثانوية التي هي في الغالب نسوية بالعقل مؤكدة ذاتها به.  ولو أتيح لها أن تؤكد ذاتها بالجنون لغدت ظاهرة بأدوار مركزية عظيمة كما هو الحال في شخصيات مثل عشتار وفينوس وشهرزاد وزنوبيا وكليوباترا ودزدمونة وجوليت وغيرها.

وكان دريدا قد اكد أن العقل أكثر جنونًا من الجنون، والجنون أكثر عقلانية من العقل، لأنه أقرب إلى المنبع الحي والصامت والهامشي الذي ينبثق منه المعنى، فيغدو القول:"أنا لا أتفلسف إلا داخل الرهبة أي الرهبة المعلنة بأنني مجنون".(13) وبالطبع يحتاج إثبات هذه المسألة أدلة منطقية تجعلنا نتيقن من أن الإنسان كائن مجنون يتسم بالانفلات. ولنا أن نتصور عندذاك فاعلية هذا الانفلات بالنسبة لكائن هو امرأة امتلكت حريتها فاستعادت سيادتها على حين غفلة.

وهو ما يتجسد في مجموعة (أخوات القمر) القصصية التي تضم خمسة نصوص هي (أخوات الشمس يدخلن منازل القمر/ أدخل المحاق/ مقاطع من قصة أخوات القمر/ اقتفاء الأثر) وهي تحفل ببنية رمزية ذات شفرات، قسَّمها عالم الاجتماع بازيل برنتاين إلى شفرات مقيدة وشفرات محكمة.. وهي شفرات اجتماعية في جذورها أكثر منها لسانية وبمجرد تعلمها يكون لها عواقب مختلفة على المتكلمين. وإذا كان مستخدم الشفرة المحكمة أكثر حرية وأقل تقيدًا وقدرة على التعميم وعلى الترميز؛ فإن مستخدم الشفرة المقيدة محدد في المعاني التي تتضمن الحالة الراهنة وهو يتلفظ ذلك أشاريا مستخدما كثيرًا من الضمائر والأشكال(14) وعلى وفق مفهوم الإرجاء في القبض على المعنى واستدعاء الفكر تبدو الغرابة في شفرات هذه النصوص أنها شفرات مقيدة بالجنون الأنثوي الذي يهدم الأسس الذهنية لليقين معيدًا بناءها من جديد، وبما يجعل القصص موصوفة بأنها قصص نسوية.

ومن جنونها تتشكل واقعية التخييل كاشتغال تقاني يموضع الشخصية المؤنثة في علاقات ذات وظائف وبتعاقب زماني ورابطة سببية محتملة أو ضرورية.

وتحفل أول القصص وعنوانها (أخوات الشمس يدخلن منازل القمر) بشفرات مقيدة تعبيرية وأخرى استعارية. والمهيمن في القصة هو الجنون الذي يجعل الساردة دكتورة هدى تتحرى العالم من حولها فتجده أنثويا مجنونا ممثلاً في (سلمى وحياة) بشكل خاص وفي النساء بشكل عام. ويصدم هذا العالم النسوي المجنون هدى فتهرب إلى الحلم حيث الشمس والقمر كائنان فيهما يكمن سر الأنثوية ومأساتها الأزلية.

وقد جاء في المعتقدات الميثولوجية القديمة أنّ للقمر تأثيرًا مائيًا وأنّ للشمس تأثيرًا ناريًا على المجنون. وقرابة القمر والشمس هي عداوة الماء للنار. وكانت العرب لغويًا قد عدت الشمس مؤنثًا والقمر مذكرًا، لكنها جعلتهما واحدًا في الدلالة الجمالية على المؤنث، فبهما تتشبه الغيد الحسان ومنهما تستعار أوصافهن. ولأن القصص تستل من الواقع، تغدو دلاليتها مرتهنة بالقارئ.

وقد وظفت لطفية الدليمي هذه الدلالة الجمالية للشمس والقمر مشفرة البعد الجنوني فيهما، فصارت الشمس رمز الأنوثة التي منها اقتربت (سلمى) واختارت (حياة) القمر وبينهما تدور الدكتورة هدى، فلا هي تبتعد ولا هي تقترب في فلك الوهم.

بالجنون تجاوزت سلمى وابنة عمها حياة واقعهما المأساوي الذي شوهته الحرب وعاشتا في دوامة الذهاب إلى الشمس والإياب من القمر كالمجنونتين، وقد التفت الشمس حول حياة ("كالثعبان وحملتها إلى ضفة النجوم") وغمر القمر سلمى بالماء حين صارت تتعاطى دواء مضادًا للعصاب، والساردة هدى تتأرجح بين رماد الشمس ومائية القمر. وهذا الدوران والتأرجح بين الشفرتين يشظي هدى التي يدهشها تشبث النساء بالشمس وهي التي تخلف الرماد. فتزداد حيرة وحزنا ويتعالى أنينها وتهذي وتتوجع وتهرب إلى المطر والموسيقى فالقمر وحده هو الذي يعيد لها السكينة التي وجدتها قبلها سلمى في اللاوعي.

وتتعقد الحبكة حين تقرأ الساردة رسالة حياة وفيها تعترف أنها قبضت على الرماد. وإذ يرمز رماد الشمس إلى الأنوثة التي نست أنها سليلة القمر الذي ليس معه حزن ولا رماد؛ فإن العالم الأنثوي صار مجدبًا واستحالت الرومانسية سوادًا والانتصار خسارة والبوح صمتا والعقل جنونا وهلوسة.

وما عرفت الدكتورة هدى هذه الحقيقة إلا لأنها ظلت في منازل القمر ولم تغادر إلى الشمس التي فيها. فتمرض سلمى وتتهلوس حياة وهما مصدومتان بالشمس. وتستكمل قصة (أدخل المحاق) ما قبلها. وفيها سلمى ما تزال تهلوس بالشمس بينما هدى تقاوم الانمحاء، وهي تصر على جعل الأفعال في القصة مضارعة كترميز للمداومة على الانجذاب للقمر الذي يظل مرافقًا دراميًا لها. وتقترب النهاية وسلمى ترى نفسها تفارق الشمس وتتخلص من سطوة جنونها وصار الرجل بالنسبة لها كيانًا شبحيًا هو هيكل عظمي طباشيري من رماد بينما (القمر يتقطر في دمي أسرعي إلي") وتبلغ سلمى في القصة القصيرة جدًا (اقتفاء الأثر) ذروة التعقل بالجنون وقد تحررت من الشمس واكتشفت أن جنونها هو الشمس. وتداوم الساردة على الزمن الحاضر انطلاقًا من رغبتها في تغيير التاريخ النسوي جاعلة إياه يبتدئ من الآن ليكون هو الأمس وغدًا.

ومعها تترقب سلمى القمر عاقدة مع الحياة اتفاقًا جديدًا وقد استعادت أمومتها ونقاءها وهدوءها ولم يعد للرجل سطوة عليها. وإذ صارت الأختان سلمى وهدى مأخوذتين بالجنون الشمسي القمري، فإنهما وصلتا إلى النهاية التي فيها عززت الأولى وعيها المائي الذي به صحت الثانية من جنونها الناري. وبالوعي والصحو قبضت النسوية على تاريخها وعادت إليها طبيعتها روحًا هي الأصل وجسدًا هو المبتدأ.

 

 

الهوامش والإحالات:

(1) ينظر: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد (المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006) ص38.

(2) ينظر: ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ص56 و135 و55.

(3) ينظر: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ص49.

(4) ينظر: جاك دريدا، إستراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا، ترجمة وتقديم د. عز الدين الخطابي (المغرب: أفريقيا الشرق، 2013) ص49.

(5) إستراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا، ص72.

(6) موسوعة علم الانسان المفاهيم والمصطلحات الانثروبولوجية، شارلوت سيمون سمث، ترجمة مجموعة من الاساتذ باشراف محمد الجوهري، المركز القومي للترجمة، مصر، 2009، ط2، ص361.

(7) تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ص44.

(8) ينظر: سيمياء المرئي، جاك فونتاني، ترجمة علي أسعد، دار الحوار، اللاذقيةـ سورية، ط1، 2003، ص48.

(9) تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ص37.

(10) المرجع السابق، ص251.

(11) ينظر: المرجع السابق، ص38.

(12) ينظر: ظواهر الإدراك، موريس مرلوبونتي، ترجمة د. فؤاد شاهين، معهد الإنماء العربي، د.ت، ص8.

(13) إستراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا، ص68.

(14) ينظر: اللسانيات والرواية، روجر فاولر، ترجمة احمد صبرة، مؤسسة حورس الدولية للنشر، الاسكندرية، 2009، ص174.


عدد القراء: 2734

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-