الكينونة المؤنثة بين أمل العودة وخيبة الضياع قراءة في قصيدة الأم والطفلة الضائعةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-10-11 19:42:28

أ.د. نادية هناوي

العراق - بغداد

نظم بدر شاكر السياب قصائد ذات بعد مؤنث تتغنى بالأم والجدة والبنت والحبيبة والمناضلة والمتتبع لدواوينه سيلمح هذا البعد بجلاء واضح بدءًا من قصائد (رثاء جدتي واذكريني وإليك شكاتي) من ديوان بواكير، ومرورًا بقصائد ديوان قيثارة الريح ( لامس شعرها شعري وقصيدة المحبوبة وقصيدة ثورة على حواء) التي تؤدي المرأة فيها دورًا فاعلاً.

 ووصولًا إلى دواوين المعبد الغريق ومنزل الاقنان وشناشيل ابنة الجلبي وأنشودة المطر التي يتعالى فيها الخطاب المؤنث لتغدو المرأة عنصرًا لا يكتمل النص السيابي من دونه، كما في قصائد (شباك وفيقة وأم البروم والأم والطفلة الضائعة والشاهدة،  خذيني، وإلى جميلة بو حيرد، وأحبيني والمومس العمياء وغدًا سألقاها وأغنية بنات الجن وجيكور أمي وأم كلثوم والذكرى وكيف لم أحببك وإقبال والليل) وغيرها وبمختلف التوجهات الأدبية كلاسيكية أو رومانسية أو واقعية أو رمزية.

ويتعالى البعد المؤنث في هذه النصوص لتحتل فيها المرأة مكانًا متميزًا فهي تارة الملهمة والحارسة الطيبة وتارة هي الضعيفة المغلوبة والمغيبة في المجهول ..

ويستلهم الشاعر من الكينونة المؤنثة حكاياته الشعرية مستمدًا منها مرجعياته الثقافية لكي ينطلق صانعًا نصه الشعري مضمنًا إياه تجاربه الذاتية والموضوعية. وتتباين الوسائل الفنية في التعبير عن الكينونة المؤنثة تبعًا لطبيعة الموقف الذي يستمد الشاعر منه خطابه نحو الآخر .وغالبًا ما تتجلى في شعره تراكمات الذاكرة الجمعية أو الجماعية؛ إذ يرتفع بالواقعة الفردية إلى مستوى الواقعة الإنسانية العامة ذات الطابع الأسطوري، مثلما يرتفع باللفظة العادية المألوفة إلى مستوى الكلمة الرامزة1.

بين لوعة الخيبة والبحث عن الأمل

تنتمي قصيدة (الأم والطفلة الضائعة) إلى ديوان المعبد الغريق الذي ضم خمسًا وعشرين قصيدة وأشهر قصائد هذا الديوان (شباك وفيقة وأم البروم والمعبد الغريق).

والمميز في هذه القصيدة "أن الرجل غائب والمرأة موجودة ودائمة الحضور"2  وهي تتمسرح على خشبة الحياة بضمير الأنا لتؤدي مهمة البحث عن فلذة كبدها طفلتها.

والقصيدة مذيلة بزمان ومكان أثيرين عند الشاعر فأما المكان فهو البصرة وأما الزمان فهو 6/10/1961 الذي به يكون قد مرَّ على ولادة ابنته( آلاء)  ثلاثة أشهر.

وإذا كانت القصيدة بعنوانها الإنساني العاطف بالواو بين الأم والطفلة كأشد علاقتين حميميتين على وجه الأرض؛ فإن القصيدة في الوقت نفسه قد خرقت تلك العلاقة الحميمية بأشد خطر يداهمها وهو الضياع لتصبح الطفلة المعطوفة ضائعة والأم المعطوف عليها هي المضيعة.

وما بين الفاقد والمفقود تتجسد دلالة العنوان في المسند والمسند إليه والصفة المؤسلبة (الضياع) فيتماهى النفس الشعري في إطار مؤنث، لينساح بالقصيدة دراميًا من نقطة بداية محددة إلى نقطة غير منتهية بنهاية وهذا ما يؤكده البناء الزمني الذي تناوب بين صيغتي الأمر والمضارع مع بعض الفعلية الماضوية ..

وقد أتاح البناء السردي للقصيدة أن تتعاضد حبكتها لتوصل إلى القارئ حزمة المشاعر الإنسانية المبطنة باللوعة في مكابدة الضياع وجلاً من الموت. 

والشخصية الفاعلة في القصيدة هي الأم التي تستهل حكايتها بأساليب الخطاب كلها فها هي تتواصل بياء المخاطبة وتنهر بلا الناهية وتنادي بياء النداء وما ذلك إلا لكونها خائفة من كل ما هو غامض وخفي وغير مرئي (الليل، الظلمة، العتمة، السواد):

قفي، لا تغربي، يا شمس.  ما يأتي مع الليل

سوى الموتى .فمن  ذا يرجع الغائب للأهل 

إذا ما سدت الظلماء

دروبًا أثمرت بالبيت بعد تطاول المحل؟3

وكأن ابنتها التي هي الشمس أو لعل اسمها شمس يخيفها مثلما يخيف الليلُ أي طفل في الكون بأشباحه السوداء وعتمته وظلامه ولقد تكررت لفظة الليل في النص ست مرات مشكلة ظاهرة قابلة للملاحظة:

وأن الليل ترجف أكبد الاطفال من أشباحه السوداء

من الشهب اللوامح فيه. مما لاذ بالظل

من الهمسات والأصداء 4

وتبقى الأم حاملة التوجس بالتساؤل تارة وبالاسترجاع تارة أخرى لتحكي وجلها مما  تخشى وقوعه وهو الموت الذي يستحكم عليها فلا تجد مناصًا منه إلا بالعدِّ والحساب والبكاء :

شعاعك مثل خيط اللابرنث يشده الحب

إلى قلب ابنتي من باب داري، من جراحاتي

وآهاتي

مضى أزل من الأعوام آلاف من الأقمار والقلب

يعد خوافق الأنسام يحسب أنجم الليل

يعد حقائب الأطفال، يبكي كلما عادوا

من الكتاب والحقل5

وتعاود الأم النداء لعلها تجد ردًا من طفلتها وهي المنبت والجذر الذي سيرغمها على العودة والمرتع الذي لا تستطيع أن تعيش من دونه والخيط الأسطوري الذي جعلها تنذر نفسها طعامًا ودمها ماءً.

وهذا ما يتعالق نصيًّا مع حادثة كأس العشاء الأخير وقد "أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا جسدي وأخذ الكاس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا"6  فكأن الأم وهي تفتدي نفسها في سبيل ابنتها تستحضر هذه الواقعة:

ويا مصباح قلبي، يا عزائي في الملمات،

منى روحي، ابنتي، عودي إليَّ فها هو الزاد

وهذا الماء .جوعي؟ هاك من لحمي

طعاما .آه !! عطشى أنت يا أمي؟

فعبي من دمي ماء وعودي  .. كلهم عادوا 7  

والعودة هي الرابط المعنوي الخفي الذي يدفع الأم إلى معاودة ذكره بالصيغة الأمرية (عودي وعبي وعودي) ونقاط الحذف بعد الفعل الأمري ( فعبي) تؤكد أن الأم لم تعد تقوى على هول الموقف، ولأنها لم تملك الشجاعة لإكمال جملتها لذلك تهرب إلى أول ضياع عرفته البشرية حين كابدت أول أم ضياع طفلتها عبر التعالق مع أسطورة اختطاف برسفوني Persephone  ففي الميثولوجيا الإغريقية أن هاديس شقيق زيوس إله العالم السفلي أعجب ببيرسفوني حين رآها تلعب مع أترابها فخرج لها دون أن تدري من الأرض وهو يركب عربته الذهبية وانقض عليها فأخذت تصرخ حتى سمعت صراخها ديمتر أمها وآلهة الطبيعة والنبات عند الإغريق فانفطر قلبها حزنًا على ابنتها وهامت على وجهها تبحث عنها في كل مكان8 ، وهذا التناص الأسطوري يفتح تعددًا دلاليًا يخلص الذات من تطابقها مع الخطاب الموصول ويهشم بنيات النص بشكل لا متناه في حركته المادية .. ولأنه يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه فإنه يبني لنفسه منطقة تعدد للسمات والتواصل9 .

وتجد الأم في هذه الأسطورة عزاءها كونها تشبهها في المعاناة فطفلتها هي بيبرسفون التي خطفها الوحش ولكن أم برسفون ليست مثلها فهي أقل ضنى وأوهاما لأنها كانت تعرف إلى اين مضت ابنتها .. أما هذه الأم فلوعتها أكبر لأنها تجهل مكان ابنتها ولا تعلم أين مضت:

 كأنك برسفون تخطفتها قبضة الوحش

 وكانت أمها الولهى أقل ضنى وأوهاما

من الأم التي لم تدر أين مضيت

                                         في نعش؟ 10

وتتوالى التساؤلات عن مصير الطفلة الضائعة في دواخل الشخصية الأم التي تستبطن مشاعرها وهواجسها باستعمال المونولوج :

على جبل؟ بكيت؟ ضحكت؟ هب الوحش أم ناما؟

وتستكمل الأم حكايتها مع الليل منتظرة انطفاء نار الليل ولكن الوسن والوهن يشتركان في زيادة ألمها وأساها:

وحين تموت نار الليل حين يعسعس الوسن 

على الأجفان. حين يفتش القصاص في النار11

وبقدوم سندباد وسفينته يأتي "الانبعاث الأسطوري في القصيدة عندما تبتسم آلهة الخصب"12.

وإذا كان سندباد في النص هو الحارس والمنقذ؛ فإن في الأسطورة يكون الكلب الأسطوري سربروس هو الحارس الذي يقيم عرش برسفون الهة الربيع13:

ليلمح من  سفينة سندباد ذوائب الصاري

ويخفت  صوته الوهن،

يجن دمي إليك ... يعصرني أسى ضارِ  14

وتعيد الأم استرجاع زمن مضى وزمن أتى وما بينهما صور مؤسلبة سوداودية صيغتها تتشكل في المضارع (أنادي، أسائل، أصغِّر) للدلالة على استمرارية الفعل الدرامي ومثلما أن برسفون ضاعت عشر سنين فكذلك الطفلة قد مضى على ضياعها عشر سنوات:

مضت عشر من السنوات، عشرة أدهر سود

مضى أزل من السنوات، مذ وقفت في الباب 15

  وإذا كان التناص "مصنوعًا من نصوص أخرى موجودة فيه بمستويات مختلفة"16 فإنه لا يقتصر على الأسطورة بل يكون للأمثال الشعبية حيز فيتعالق الموقف هنا مع  المثل الشعبي (الباب الذي تأتي منه الريح سده واستريح) إلا أن الأم لم تستطع غلق الباب الذي ظل مفتوحًا أمام الريح وهذا ما يمكن النص من أن يصنع فضاءً متداخلاً نصيًّا يحقق بدوره تعددًا نصيًّا حول المدلول الشعري17:

أنادي، لا يرد عليّ إلا الريح في الغاب

تمزق صيحتي وتعيدها..  والدرب مسدود18

 وهي ليست أية ريح إنها ريح عاتية مقدمها من الغاب وعلى الرغم من أن الأم تنادي على ابنتها إلا أن هول الرياح مزق صيحاتها وصراخها ولم يرجع منها إلا صداها .

ويظل الدرب إلى الحقيقة مسدودًا ولم يعد الليل يعني السواد حسب بل هو الآن عبارة عن دوامة  تخيم على المشهد فيذوب فيها النور ولا يعود في المشهد إلا الأشباح والظلال التي لا تجد الأم بدًا من أن تسائلها لعلها تعرف شيئًا عن ابنتها الضائعة :

بما تتنفس الظلماء من سمر وأعناب

وأنت كما يذوب النور في دوامة الليل

كأنك قطرة الطل

تشرَّبها التراب..  أكاد من فرق وأصاب

سائل كل ما في الليل من شبح ومن ظل 19

بل هي تسأل كل طفل يذكرها بابنتها بحوار منطوق (أسائل كا ما طفل) عن مكانها سائرة في الزحمة لوحدها باحثة عن وجهها..

 ولأنها تودُّ لو تراها مجتمعة ككل واحد لذلك تسترجع ملامح الطفلة فأما أجفانها فتشبه الشروق الذي يطرد الظلام عن الجداول وجبينها وضاء لا تعرف العتمة له طريقًا وهي كالنور الذي لا يغيبه إلا الظلام حين يلفه في دوامته وهي القطرة التي لا يضيعها إلا التراب حين يشربها :

أسائل كل ما طفل

"أأبصرت ابنتي! أرايتها؟ أسمعت ممشاها؟"

وحين أسير في الزحمه

أصغر كل وجه في خيالي: كان جفناها

كغمغمة الشروق على الجداول تشرب الظلمه

وكان جبينها ..وأراكِ في أيد من الناس

موزعة فآه لو أراك وأنت ملتمة! 20

وهذه التشبيهات للطفلة بالقطرة والنور والشروق إنما هي علامات للتواصل.. ومكون نشيط للحديث تعدله وتغير معناه النغمات والتقييمات والتضمنات الاجتماعية21.

وتغادر الأم مرة أخرى زمنها الاسترجاعي لتعود إلى اللحظة الحاضرة؛ فيا ترى ما الذي تخافه من حاضرها الآني بعد أن كبرت البنت وغدت في ريعان الشباب وسحره؟!.

إن الطفلة التي نمت وغدت فتاة وازدادت بهاء وهي تنشر الجمال من حولها أصبحت الآن تعيش الأضداد فعالمها الداخلي مثالي لكن العالم الخارجي كله جوع وألم وفقر ومرض وإن النور أضحى حلمها والعتمة عدوتها والنشوة في داخلها والشقوه  خارجها:

وأنت الآن في سحر الشباب، عصيره القاسي

يغلغل في عروقك، ينهش النهدين والثغر

وينشر حولك العطرا

فيحلم قلبك المسكين بين النور والعتمه

بشيء لو تحسد كان فيه الموت والنشوه

وأذكر أن هذا العالم المنكود تملا كأنه الشقوه

وفيه الجوع والألآم فيه الفقر والداء 22 

وتبقى هي الأمل الذي تتطلع إليه الأجيال بل هي المرتع الذي منه تستقي الأجيال قوتها وكل ما عداها مظلم ومسدود :

أأنت فقيرة تتضرع الأجيال في عينيك، فهي فم

يريد الزاد، يبحث عنه والطرقات ظلماء؟23 

وما هذا التوظيف للأفعال المضارعة والتغاضي المقصود عن توظيف الفعل الماضي؛ إلا تأكيد فني أن الأمل لا ينظر إلى الوراء بل هو يستلهم من الحاضر غده ويستمد من اللحظة الآنية حلمه غير وجل من مرض ولا خائف من موت وإن البحث عنه إنما يعني تشبثًا أكبر بالحياة وأن لا سبيل إلى تعافي العالم الذي غدا مريضًا عليلاً إلا بالأمل..

وفي إطار هذه الرؤية التفاؤلية للواقع يستحث الشاعر أدواته ليبني نصًّا دراميًا مستمرا يحاكي الحياة في تجدد صورها فيتعالى صوت الحاضر ممثلاً بصوت الشخصية/ الأم التي تجد أن كل ما حولها قد غدا جمعًا مؤنثًا فيتعالى صوت النسوة ونونهن وما ذلك إلا لكون" صورة المرأة في الشعر تنطلق من ذلك الإحساس أو الإدراك الأولي في كونها وسيلة الرجل للاتصال بالزمان/المكان من جهة ورمز المعرفة .. من جهة أخرى"24 .

وما زال هذا الصوت منفردًا ومجموعًا متغلغلاً في النص وليس للذات الشاعرة من دور الاستبطان دواخل الشخصية بالأفعال (أحدق، أحس، فأصرخ، أبصر، أفتش).

وأيُّ مفردة ترد بصيغة المذكر لا تأتي إلا في موضع السلب والتهشيم ( السقم، الطوى، البرد، صنم، دم، دجى) وأما المفردة المؤنثة فلا ترد إلا في موضع الإيجاب كخطابية مغايرة ومهيمنة بالوحدات اللغوية ( وجوه، الأيدي الإبصار،  أدعية، دمعة، لوعة، أصداء)

وهذا الاستعلاء المؤنث يتصاعد في مقابل تدني المذكر هبوطًا ضمن مشهد صوري يغدو فيه صوت الذات هو السمة الغالبة على الموجودات جميعها :

أحدق في وجوه السائلات أحالها السقم

ولونها الطوى، فأراك فيها، أبصر الأيدي

تمد، أحس أن يدي معهن تعرض زرقة البرد 25

إن هذا الإحساس  باللوعة هو إحساس أنثوي تشاركها فيه السائلات فتصرخ مستنجدة الله؛  لكن الدمعة تخنق صوتها واللوعة تصمتها وشعاع الأمل والحياة الذي رمز له الشاعر بخيط ملح وماء إنما يظل حاضرًا كحافز يستنهض همة الأم لكي تفتش بحثًا عن قلبها/ ابنتها مثل ضوء يختبئ بين الدجى والظلمة :

فأصرخ "في سبيل الله " تخنق صوتي الدمعه

بخيط الملح والماء

وأنت على فمي لوعه

وفي قلبي وضوء شع ثم خبا بلا رجعه

وخلفني أفتش عنه بين دجى وأصداء26 

ولتنتهي القصيدة بلا نهاية أو لعلها النهاية المفتوحة التي تظل تعد بالأمل وإن الظفر بهذا الأمل هو ظفر بالحياة وبذر الحياة هو بذر للأمل في عالم كله دجى وسواد ولا مناص لهذا الظفر وذاك البذر إلا بالبحث والتفتيش الذي يظل الشاعر متمسكًا به حتى آخر رمق .

ولو لم يكن السياب باحثًا تواقًا للحياة ومفتشًا نهمًا عنها لما كان ذلك الشاعر البار بشعره ولما ترك لنا هذا المنجز الشعري الثر متخذًا من الثقافة وسيلة يحرر بها الوعي النقدي27 .

وفي هذا الصدد يقول الدكتور صلاح فضل: «علينا أن نتصور الثقافة في لحظة ممارسة التراث الكامن لتأثيره على الوعي من خلال الفعل المحدد أي إن ما يستحق أن يسمى بالثقافة ليس هو المخزون المحتمل لدى الأفراد او حتى لدى الجماعات من كتلة المعارف والتقاليد والفنون وإنما تلك العناصر التي ترقى من مستوى القوة إلى مستوى الفعل»28.

الكينونة المؤنثة وخطاب الجسد

ظلت المرأة كيانًا مؤثرًا في النص وذاتًا فاعلة ومحورية تحتمل دلالات وقيم وعلامات «ليس لها دلالة إلا بعلاقتها داخل النسق»29 فهي التي تحفز النص نحو الاستمرار وتستفز المتلقي بشكل أعمق لكي يغور في النص باحثًا عن تأويلات.

 وهذا ما يفرض آليات انتقاء الفاعلية الشعرية عبر التركيز على القصيدة كجسد مادي وبواقعية عيانية جلية حينًا أو بخطاب رمزي ذي استيهامية عالية أحيانًا أخرى في ظل عالم سوداوي ليس فيه إلا الظلام والسواد والأشباح.

وفي قصيدة (الأم والطفلة الضائعة) تغدو الأم هي الشخصية التي تحتل فضاء النص بشكل واسع ومهيمن ليختفي الشاعر خلفها ناقلاً لنا مشاعرها الغريزية ولوعتها الحقيقية وتجربتها المرّة وهي تفتش عن طفلتها الضائعة:

أنادي، لا يرد علي إلا الريح في الغاب30

وبتوظيف أنا المتكلمة تصبح الأم عنصرًا ديناميًا متجددًا يتحرك النص عبرها دراميًا من الحاضر الآني إلى الماضي المسترجع وبالعكس من الماضي المسترجع إلى الحاضر الآني في ما يشبه الدوامة التي لا تنتهي..

 وينتخب الشاعر لأجل تحقيق الدرامية الشعرية وتوصيل التجربة الأليمة الفعل الأسطوري مستعينًا بأسطورة برسفون متناصًا معها جزئيًا لكي يولد عبرها انثيالًا تساؤليًا على شكل عبارات شعرية استفهامية..

والشاعر مجرد راو خارجي يستبطن الشخصية السردية دراميًا مستحضرًا وبشكل مضاعف فكرة الموت ضياعًا وغيابًا.

وتستجيب القصيدة بوصفها مفردة مؤنثة لرغبة الشاعر فيتلبس دور المرأة/ الأم عاكسًا مشاعر الشوق والتوق مازجًا خطاب الجسد بالطبيعة لتصبح الحبكة القصصية أكثر هولاً وتراجيدية..

ويظهر الليل دالاً مهيمنًا في تجسيد المأساة وتحديد تفاصيلها وتخومها برمزية وانسياح اشاري فتتمظهر من خلاله المدلولات السلبية للشخصية المحورية وتحدث تبادلية في الوحدات اللغوية سواء أكان ذلك في بنيتها السطحية أم كان في أعماقها الغائرة والهدف من وراء ذلك توصيل التعبير الجمالي الذي يستطيع إقناع القارئ بحقيقة ما يجري.

وتتجه القصيدة اتجاهًا واقعيًّا بتخييل وشحن عاطفي عالٍ كما تتوغل في الرمزية لتنسج علاقات غيابية تصنعها علاقة الأم بطفلتها التي هي وجه آخر لعلاقة الشاعر بقصيدته فكأنه أم أضاعت وليدتها، في إشارة دلالية مغيبة تفيد أن هوية الشاعر تتبطن في قصة الأم بحثًا عن الوليدة الضائعة التي هي جزء لا ينفصل عنها.

والغاية من وراء توظيف الجسد كدالٍ في القصيدة السيابية ترشيح مزيد من المدلولات المغيبة والخفية وهذا ما نلمسه بجلاء في القصيدة موضع الرصد.

وعندما يمارس الشاعر دور الوسيط في الافصاح عن الأنثى متكلمًا عنها مفصحًا عن حقيقتها فإنه بهذا يضيف "صوتًا جديدًا إلى اللغة صوتًا مختلفًا"31 .

فالأم والطفلة كينونتان انسانيتان إحداهما حاضرة في النص والأخرى غائبة فتتوالى الكينونة الحاضرة في رسم ربيبتها الغائبة ولا يتم الرسم إلا من خلال التركيز على جسد طفلتها الضائعة لتوصل الى سامعها او متلقيها مشاعرها وهول العاطفة المترتبة على فقدانها.

وتبدأ بقلب ابنتها مركز الشعور ومصدر اللوعة فتراه مسكينًا توسط النور والعتمة واقفًا على باب دارها مهولاً جراحاتها وآهاتها فتناديها:

يا مصباح قلبي، منى روحي32

وهي لا تكاد تذكر عضوًا من أعضاء الجسد؛ إلا مضيفة إليه من نفسها عبر ياء المتكلم وهو ينتسب إليها ويقترن بكينونتها كإم ووالدة.

وصدق الإحساس يتناغم جامعًا الجانب الصوتي ممثلاً بالفم والصوت والهمس مع الجانب البصري المرئي ممثلاً بالقلب والاجفان والعين والجبين واليد والكبد والوجه:

هاك من لحمي

طعامًا آه عطشى أنت يا أمي؟

فعبي من دمي ماء وعودي ..كلهم عادوا33 

وعندما يجمع المشهد بين الفم والصوت تصرخ لكن تختنق صرختها كدمعة وتبقى على فمها اللوعة:

  فاصرخ في سبيل الله تخنق صوتي الدمعه

 وأنت على فمي لوعه34 

وتكثر جموع التكسير( أنجم ، أكبد، أدهر، أيدي، إبصار، أشباح، انسام، أقمار، أعناب، أجفان، أدعية، أصداء، أعوام) كانفراط معنوي للهوية وتشظٍ مادي للكيان الذي تفتت وتوزع وتفرق ومن ثم ضاع في المجهول ولذلك تتمنى الأم  لو إنها تلقى طفلتها ملتمة :

موزعة، فآه لو أراك وأنت ملتمه35 

ولأن هذا الخطاب يقترن داخليًا وخارجيًا بالجسد لذلك تبكي ضياعه ذائبا غائبًا وبعيدًا .. فالليل لا يأتي معه سوى الموتى فمن ذا الذي يرجع الغائب المسافر والمجهول إلى الأهل..؟

والأم التي ظلت في نهاية النص مفتشة باحثة هي صورة مموهة للشاعر الباحث عن قصيدة ضاعت منه.

وهذا التغليب للمرأة في القصيدة هو صورة أخرى لتغليب اللغة وإن كان الدكتور عبدالله الغذامي يرى «أن تأنيث اللغة أو في الأقل أنسنتها لن تتحقق إلا بعد أن تكتنز الذاكرة الثقافية بالمعنى المؤنث والأنوثة وهو شرط لم يتحقق بعد»36  فهل تراه قد قرأ قصيدة السياب هذه وهو يجزم بعدم تحقق هذا الشرط؟!!

إجمالاً .. فإن انتحاب السياب لم يكن إلا على ماضٍ ذوى وما حنينه سوى شاعرية متقدة تاهت منه فأخذ يهم بالتفتيش عنها متناسيًا مرضه ومتجاوزًا وهنه وضعفه.  أما المصير المحتوم الذي يقف بانتظاره فلم يكن يحسب له حسابًا لأن أمله يجعله يبصر الحياة من أوسع أبوابها وحلمه يجعله متوجهًا صوب المستقبل باستمرار لا يعرف هوادة ولا استكانة.

وبعبارة  أكثر جلاء فإن الشاعر لا يهادن الموت ليظفر بالحياة؛ بل هو يناغي الحياة لأجل حياة أخرى. وهذا ما نلمسه في القصيدة التي افتتحها بفعلية حاضرة وختمها بها كاعلإن ضمني أن شاعريته ما زالت حاضرة وقصيدته ستظل طفلة تفتش عنها أمها ومشواره لا يحده زمن ولا مكان ولا يقف بوجهه عارض أو حاجز لأن قلبه مضاء بضوء شع لكنه خبا لذلك قرر ألا يستكين بالتفتيش حتى وإن كان تفتيشه بين الدجى والصدى.

 

فهرس الهوامش:

1 -  ينظر: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د.عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة مزيدة ومنقحة، 1966 /217 .

2 - أثر مضمون الحياة والموت في بناء القصيدة في شعر بدر شاكر السياب، د. عبدالباسط مراشدة، دار ورد للنشر والتوزيع، عمان، طبعة أولى، 2005 /62.

3 - الأعمال الشعرية الكاملة بدر شاكر السياب، ناجي علوش، المجلد 1ـ2/106

4 - م.ن/106

5 - م.ن/106

6 - ينظر: الآية مزمور 27 من سفر المزامير (عندما اقترب إلى الأشرار لياكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا) وانظر الإنترنت: drghaly.com /articles /display

7 - الأعمال الشعرية الكاملة / 106

8 - ينظر: برسفون ar.wikiipedia.org .wiki/

9 - ينظر: علم النص، جوليا كرسطيفا، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبدالجليل ناظم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاءـ المغرب، طبعة أولى، 1991  / 10

10 - الأعمال الشعرية الكاملة /106

11 - م. ن/ 106

12 - الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، يوسف حلاوي، دار الاداي، بيروت، طبعة أولى، 1994/ 46

13 - ينظر: الأسطورة في الشعر العربي الحديث، أنس داود، دار المعارف، بيروت، طبعة ثالثة، 1992/ 288

14 - الأعمال الشعرية الكاملة / 106

15 - م.ن/ 107

16 - الأدب العام والمقارن ترجمة الأدب العام والمقارن دانييل - هنري باجو ترجمة د. غسان السيد، منشورات اتحاد الكتاب العرب 1997/26

17 - ينظر: علم النص/ 78.

18 - الأعمال الشعرية الكاملة /107

19 - م.ن/  107

20 - م.ن /107

21 - ينظر: اللغة والتفسير والتواصل د. مصطفى ناصف سلسلة عالم المعرفة المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب الكويت 1995/ 169

22 - الأعمال الشعرية الكاملة /107

23 - م.ن/107

24 - الاختلاف والائتلاف في جدل الاشكال والاعراف مقالات في الشعر، طراد الكبيسي، دمشق اتحاد الكتاب العرب، /74

25 - الأعمال الشعرية الكاملة /107

26 - م.ن/ 107ـ108

27 - ينظر: اشكال التخيل من فتات الادب والنقد د. صلاح فضل الشركة المصرية العالمية للنشر ط1 مصر 1996 /122

28 - م.ن/120

29 - النظرية الأدبية المعاصرة رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998 /90

30 - الأعمال الشعرية الكاملة/ 107

31 - المرأة واللغة، عبدالله محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، بيروت، ط2، 1997/8

32 - الأعمال الشعرية الكاملة/ 106

33 - م.ن/106

34 - م.ن/107ـ108

35 - م.ن/107

36 - المراة واللغة / 235 .


عدد القراء: 7059

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-