جيرار جينيت والسرد ما بعد الكلاسيكيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 18:29:17

أ.د. نادية هناوي

العراق - بغداد

لم يكن أمر تقسيم السرديات إلى كلاسيكية وما بعد كلاسيكية بالمعتاد ليدخل معجم الدراسات النقدية المعاصرة، ولا هو بالمتحصل ليتم إقراره من دون تحفظات كما لم يكن ملزمًا ولا مفروضًا على الأطراف الفاعلة ــ التي لها اليد الطولى في تشييد علم السرديات ــ أن تماشيه وتعمل به.

ولو كانت النوايا من وراء هذا التقسيم يستدعيها واقع الحال وتقتضيها جدوى موجبات متوخاة، لا مناص من الأخذ بها والاشتغال على وفقها، لتبدى التقسيم اعتياديًا لا تصلّب في انتهاجه ولا احتدام بين أطرافه.. إلا إن المتحقق كان خلاف ذلك تمامًا؛ فالطرف الموصوف بأنه كلاسيكي ـــ وهو المدرسة الفرنسية ـــ يرى أن له من الرسوخ ما يجعله صاحب الحق في أي تدشين أو إقرار وأن الكلمة الفصل في أي مشروع له صلة بميدان السرديات ينبغي أن تؤول إليه. وليس خافيًا ما ساهم به النقاد البنيويون من دور في التأسيس لعلم السرديات، مستندين إلى مدارس وحلقات نقدية كمدرسة موسكو الشكلانية وحلقتي براغ وكوبنهاكن الاسلوبية واللسانية ثم واصلوا يبنون صرح معمارهم العلمي في السرديات على تلك المدارس. ولربما زامنهم نقاد من مدارس مختلفة وجغرافيات بعيدة غير أن ذلك ظل ثانويًا، فلم يشيّدوا مثل الذي شيّده البنيويون وتطلعوا إلى تطويره والمخالفة فيه.

ومع بروز خط مدرسي جديد هو المدرسة الأنجلوامريكية في النقد الأدبي مطلع ستينيات القرن العشرين وما بعدها حتى بدت الموازاة للخط المدرسي الفرنسي واضحة وجلية. وكانت لهذه الموازاة صور مختلفة لعل أهمها ما مثّله كتاب (بلاغة الفن القصصي Rhythm of fiction) لواين بوث Wyen Booth 1961 من دور في إظهار المدرسة الأنجلوامريكية بمظهر المخالف والمستدرك على المدرسة الفرنسية. وبوجود صور أخرى صارت الموازاة أكثر فاعلية مع العقود الثلاثة اللاحقة حتى تجلت واضحة مطلع القرن الحادي والعشرين.

وعلى الرغم من أن أمر الموازاة لم يكن طيلة تلك العقود بالظاهر بين سابق مؤسس ولاحق مقوِّض، فإنه في الخفاء كان أكثر عنتًا وخصوصيةً. وعادة ما كان يتخذ شكل مناورات وتقويضات وبدرجات مختلفة قد تأتي في تضاعيف كتاب هنا، وقد تتضمنه مقالات ودراسات هناك. ونادرًا ما كان يتخذ الاحتدام بين المدرستين شكل حوارات أو مناظرات، بل كان يتسم في العموم بالردود الجانبية والأقوال الثانوية التي قد لا تخلو من بعض التجني وربما التشنج.

بالطبع ليس وراء هذا التنافس والتشاكس طائل معرفي لأن الانتفاع ممن هو مؤسس ثم البناء على توصلاته أو مخالفة ما أسسه أمر منطقي وسياق علمي لا غبار عليه، وإنما الطائل كان قيميًا، وهو إعطاء المدرسة الأنجلوامريكية اعتبارية نقدية بإشهارها كمدرسة بديلة تسحب البساط من تحت قدمي المدرسة الفرنسية ونقادها البنيويين وما بعد البنيويين فلا يكونوا على عرش علم السرديات، العلم الآخذ بالانتشار والهيمنة على سائر العلوم الإنسانية.

ولم يكن أمر الموازاة عند أعلام المدرسة المؤسسة بالمهم في الظاهر لكنه في الباطن كان على درجة من الترقب كبيرة؛ مرة بقصد التقارب الذي به تردم الهوة المعرفية بين المدرستين ومرة أخرى بقصد التيقظ لمساعي الآخر في الهيمنة والتفوق.

وعلى الرغم من ذلك، فإن مبتغى المدرسة المؤسسة يصب أصلاً في باب اللامركزية النقدية من ناحية عدم توسيع الخلاف فيما بينهما ولا جعله ظاهرًا للعيان، ومن ناحية أخرى أن العلوم لا تضبطها القوانين أحيانًا، وليس لأي مدرسة أن تدعي أنها أتت بعلم الأولين والآخرين، وإنما تقر بأن ما تقدمه ليس سوى مقدمات أو فرضيات لنظريات قابلة لمزيد من التبلور والمعاودة ومن الممكن الإضافة إليها أو كشف المزيد من تجلياتها أو نواقصها، وثالثًا أن لكل مدرسة مسائلها التي هي ليست كلية ولا نهائية تقطع الطريق على غيرها، بل هي مستمرة في تطورها واستجلاء ما لم يستظهر منها بعد.

والمستغرب في المدرسة الفرنسية أنها ظلت تداري على نزاعها مع المدرسة الأنجلوامريكية مداومة على الطريق نفسه الذي شرعت بانتهاجه وهو عدم التصدي المباشر، ربما لثقة هذه المدرسة بما فتحته وتفتحه من مغاليق الدرس النقدي عمومًا ونقد السرديات تحديدًا فهي صاحبة قصب السبق في الابتكار والاجتراح كما أنّ ما أشاعته المرحلة ما بعد العولمية من مسائل تداخل المعرفيات وتعدد التخصصات يمنحها أيضا الأولوية في الإمداد المعرفي على الدوام.

ولا يخفى ما للمدرسة الفرنسية من دور في تطوير علم السرديات فهي المؤسسة والرائدة لكنها مع وضوح موازاة المدرسة الانجلوامريكية لها، اتخذت من الفلسفة الفينومينولوجية خطاً به تطور كشوفاتها في علم السرديات بينما آثرت المدرسة الثانية اتباع خط العلم لتطوير السرديات تحت مسمى النقد المعرفي أو الإدراكي. 

وبالطبع تقتضي مصلحة من له السبق والريادة أن يظل محافظًا على سبقه وريادته، ولذلك يظل هيّابا من مجاراة غيره له أو تنافسه معه، مهتمًا بما قد يحققه الآخر، غير مكتفٍ بالاتكاء على ما لديه من انجازات بحثية؛ وإلا فإن مجال القفز عليه سيكون متاحًا وبالشكل الذي يقوض تاريخية ما كان قد أنجزه أصلاً. من هنا يظل اكتراث السابق باللاحق قائمًا من أجل أن يُبقي على سبقه. وليغدو كل تطوير أو انجاز يحققه الآخر اللاحق عيالاً على ما كان قد انجزه السابق ووطد أركانه. وقد لا تكون بدايات الخلاف بين المدرستين ظاهرة كأبعاد وسياقات، لكن الحذر كان باديًا في شكل تضاد بين ناقد من هذه المدرسة مع آخر من المدرسة المقابلة، وأحيانًا قليلة قد نجد الطرف المؤسس والرائد يتجاهل الطرف المطور والمقوم، مترفعًا من الدخول في مماحكة معه.

ومن الممكن استجلاء أبعاد هذا الخلاف من معاينات مرصودة في طروحات المدرستين، وإذا حددنا القول في البعد الفردي للخلاف لوجدنا جيرار جينيت يقف في مقدمة النقاد الذين أبدوا حذرًا وتحفظًا على موازاة المدرسة الأنجلوامريكية للمدرسة الفرنسية. وهو ما يمكن أن نستجليه في كتابين من كتبه، كان فيهما مكترثًا بشكل واضح لمساعي التوازي مع مدرسته ربما لأنه كان الأكثر انتقادًا من لدن النقاد الأنجلوامريكيين أو لكونه أيضًا الممثل البارز للمدرسة الفرنسية وأحد أهم أقطابها.

ومعاينة فاحصة ومتمعنة في كتابيه (خطاب الحكاية) و(عودة إلى خطاب الحكاية) تكشف عن طبيعة التصدي الخفية والعلنية من جهة وتدلل من جهة أخرى على الدوافع التي حملت جينيت على المواجهة وباتجاه ينضوي في المرحلة الجديدة التي غادر عبرها السرديات البنيوية ــ التي بدأ مشواره معها أواخر الخمسينيات واستمر إلى أواخر السبعينيات ــ متجهًا صوب السرديات ما بعد البنيوية منتصف ثمانينيات القرن العشرين.

ومعروف أن جيرار جينيت كان واحدًا من المنضوين في خانة النقاد الأرسطيين حتى لقب بحفيد أرسطو لكنه تميز على مجايليه في أنه مع أرسطيته كان منظرًا يضع للمعايير العلمية اعتبارًا أكثر مما يعطي للجدليات الفكرية مكانًا. وما دام التطور يتحقق علميًا فلا مناص بعد ذلك من الإقرار بالقصور أو الاعتراف بالمؤاخذة. وهو ما جعله في مواجهة مباشرة مع النقاد المناوئين أكثر من أي منظر فرنسي آخر.   

وعلى الرغم من امتلاك جيرار جينيت مكانة مرموقة بين نقاد المدرسة الفرنسية كما أن مشروعه في السرديات البنيوية كان طموحا ومبتكرًا، فإنه كان في مقدمة النقاد الذين وجهت إليهم الانتقادات والاتهامات بوجود نواقص وهفوات في نقوده وكان عليه أن يشملها بالنظر والمعالجة.

وهذا لا يعني أن رولان بارت أو تودوروف أو جوليا كرستيفيا أو ميشيل بوتور وغيرهم لم يُنتقدوا ولم يكونوا في المواجهة، بل إن هذه الانتقادات هي في الحقيقة موجهة للمدرسة الفرنسية بالعموم في محاولة لإلصاق السمة الكلاسيكية بها.

وهو ما جعل جينيت مكترثًا بالرد؛ أولا بمنهجية كلية بنيوية وتخصصية ما بعد بنيوية وثانيا بغزارة عطائه البنيوي وانحيازه اللا تدريجي الى ما بعد البنيوية في كتبه (عتبات/ أطراس النص/جامع النص)، وثالثًا بمعاصرته الموجة التجريبية التي شهدتها الرواية الفرنسية الجديدة والتي كانت بمثابة أزمة دقت مسمارًا في نعش البنيوية وفي الوقت نفسه فسحت المجال لطروحات المدرسة الانجلوامريكية أن تظهر أكثر من ذي قبل لاسيما طروحات واين بوث وجيرالد برنس.

فكانت المعيارية العلمية في التنظير البنيوي هي الغالبة على ردود جينيت، منكفئًا أحيانًا إلى طروحات الشكلانيين الروس والنقاد الأرسطيين ومعاودًا النظر أحيانًا أخرى في ما اجترحه من مفاهيم ومقولات من قبيل التبئير والقصة والاسترجاع والسارد وضمير الغائب وغيرها.

وهذه المعيارية العلمية هي بالضبط المنفذ الذي منه ولج معارضو جينيت وتمكنوا من رصد بعض الهفوات ونقد الالتباسات في تنظيراته السردية. والمدهش أن نقدهم أخذ يتسع بمرور الزمن حتى بلغ أوجه منتصف الثمانينيات. الأمر الذي استوجب من جيرار جينيت الرد لكن بطريقة أخرى، فواجه منتقديه بشكل مباشر وعلني، لا بالتنظير خلافًا لما أدعوه حسب، بل بتشخيص هفوات المنتقدين أنفسهم ذاكرًا إياها بالأسماء، رادًا بعلميته المعهودة على انتقاداتهم واحدًا واحدًا.

وعلى الرغم من موضوعية جينيت وبراعته في البحث والتحليل، فإن بعض ردوده لم تخلُ من تهكم أو سخرية ممضة، جاهر بها ووجهها إلى منتقديه وقد يقابل أحيانًا منتقده بانتقاد مثله، وقد يقر بصحة الانتقاد لكنه يضيف جديدًا إليه أيضًا. 

والسؤال الإشكالي هنا هو ما دعاوى المنتقدين المفنِدة لتنظيرات جيرار جينيت في السرديات البنيوية؟ وما غاياتهم من ورائها؟ وهل كانت المآخذ التي رصدها نقاد المدرسة الانجلوامريكية حقيقية وذات معطيات واقعية؟ وما الذي خامر جينيت وهو يجد نفسه - أكثر من أي ناقد فرنسي بنيوي وما بعد بنيوي - في موضع الدفاع عن طروحاته مصرحًا جهارًا تارة وملمحًا بخفاء تارة أخرى؟ وهل كان صحيحًا موقفه في مواجهة المدرسة الانجلوامريكية مواجهة علنية؟ وكيف تقبل جينيت الانتقادات وبأي طريقة رد عليها؟ وما حجج جينيت التي بها ناظر معارضي تنظيراته؟

لقد وجد جيرار جينيت أن من الأهمية بمكان الرد على منتقديه المعارضين علانية، ومواجهة مخالفيه مباشرة؛ لهذا ألف كتابه (عودة إلى خطاب الحكاية) بعد أن أدرك أن المواجهة الخفية غير المباشرة مع المدرسة الانجلوأمريكية لم تعد تجدي نفعًا، وأن اعتماد المعيارية والموضوعية والتقنينية التي كان قد مارسها في كتابه (خطاب الحكاية) لا تكفي ومن الضروري تحويل المواجهة إلى مرحلة جديدة معلنة وإشهارية عبر تأليف كتاب جديد. وإذا كان البعد الزمني بين الكتابين طويلاً بما يقارب العقد من الزمان، فإنه كان كافيًا لكي تتوكد النوايا وتتحقق لجينيت الجدوى من وراء المغايرة في المواجهة. وهو ما سنفصّل القول فيه من خلال محورين:

أولاً: جيرار جينيت والمواجهة غير المباشرة

سعى جينيت في كتاب (خطاب الحكاية بحث في المنهج) إلى أن يكون منظرًا بنيويًا يعاود النظر في الثنائية الشكلانية الحكاية fable /الحبكة sujet أما جدوى الخوض فيها مجددًا فتكمن في ما وجده جينيت من أحقية الحكاية في أن تكون شاملة بوصفها هي السرد، دالة (على حدث أيضًا غير أنه ليس البتة الحدث الذي يُروى، بل هو الحدث الذي يقوم على أن شخصًا ما يروي شيئًا ما: إنه فعل السرد متناولاً في حد ذاته)1

واذ يوسَّع جينيت فاعلية الحكاية، فلأنه يراها هي السرد مثلما أنّ السرد هو الحكاية. وإذا كان كل خطاب هو حكاية، فإن الحكاية هي الأكثر شيوعًا من الخطاب السردي.

وضرب مثلاً على ذلك بحادثة جرح عوليس في ملحمة الأوديسة، فالجرح فعل سردي والنطق به كان لهوميروس. وهذا النطق السردي هو ما لم تهتم به نظرية السرد التي ركزت اهتمامها على المنطوق السردي ومضمونه. والحل برأي جينيت هو جعل الحكاية هي النطق والقصة هي المنطوق، (اقترح دونما إلحاح.. أن أطلق اسم القصة على المدلول أو المضمون السردي.. واسم الحكاية بمعناها الحصري على الدال أو المنطوق أو الخطاب أو النص السردي نفسه واسم السرد على الفعل السردي المنتِج. وبالتوسع: على مجموع الوضع الحقيقي أو التخييلي الذي يحدث فيه ذلك الفعل.. فالقصة والسرد لا يوجدان في نظرنا إلا بوساطة الحكاية لكن العكس صحيح أيضًا فالحكاية أي الخطاب السردي لا يمكنها أن تكون حكاية إلا لانها تروي قصة وإلا لما كانت سردية.. ولأنها ينطق بها شخص ما وإلا لما كانت في حد ذاتها خطابًا)2.

وبهذه التعادلية بين الحكاية والقصة تغدو الأولى مرادفة للخطاب دالاً ومدلولاً ونطقًا ومنطوقًا، فهي مرادفة للسرد على مستوى العلاقات بين السارد والمسرود أو المؤلف والقصة أو الزمان والسرد وكذلك على مستوى العلاقات بين الناطق والمنطوق حيث الذات (الشخصية) هي الفاعلة لا الناطقة بينما الصوت هو نطق غيرها.

أما القول: إن إسقاط الشخصية من إمكانية أن تكون فاعلة هو نقصان؛ فلأنه يُكمَل صوتيًا بنطق السارد فترتد القصة على نفسها3، مسترجعة ومستعادة ومتأهبة ومزدوجة، وبذلك يتحقق للبطل رؤية العالم وتتم الحبكة بوجود سارد هو ناطق، يصرح بذلك ويسمح بالتقدم إلى الأمام زمانيًا لا كتخريف بل كتنبؤ مرتجل.

وهذا الرد ستتوكد أهميته حين نربطه بمساعي نقاد السرد غير الطبيعي إلى إثبات أن السرد ليس بريئًا، بل هو مختلط مستعيد ومستأنف وهو يستعمل اللاتواقت في المدة بين سرد الوقائع وسرد الخيالات ويستعمل أيضًا اللاقولية والاستيهام والتكذيب واللاتناهي وغيرها من الوسائل التي بها يردم الخلخلة بالمنطقية فينجو من أية قلقلة في طريقة إعلانه اللابريئة عن قصته غير المعقولة والاستحالية.

ولأن الترتيب في نظام الحكاية كان من ضمن الانتقادات الموجهة إلى جينيت مما سماه (المفارقات الزمنية) لذلك رد بأن السرد شامل وغير مقطوع ولا كاذب بين من يروي وما يروى أي بين الناطق والمنطوق والسامع والمسموع. ولأن المفارقات الزمنية منطوقات يغدو زمن الحكاية سردًا، لا لماض غير حاضر ولا لمستقبل، بل هو المنتهى والمنطلق بصلات تركيبية تجعل الحكاية أكثر تعقيداً بدرجتين: الحكاية من الدرجة الأولى هي (كل حدث ترويه حكاية هو على مستوى قصصي أعلى مباشرة من المستوى الذي يقع عليه الفعل السردي المنتج لهذه الحكاية)4 والحكاية من الدرجة الثانية هي شكل يرقى إلى أصول السرد الملحمي.

ويمثل المؤلف الحكاية بالدرجة الأولى، وفيها تكون الذاكرة على المستوى الداخلي من النص الواقعي بينما تمثل كفاءة القارئ الحكاية بالدرجة الثانية على المستوى الخارجي و(بمجرد ما يكون القارئ قد اكتسب هذه الكفاءة التي هي من الدرجة الثانية والمتمثلة في القدرة على الكشف عن الخدعة وإحباطها يكون المؤلف حرًا في أن يعرض عليه خدعاً مغلوطة)5. 

وبحسب جينيت فإن الحكاية دائمًا تقول أقل مما تعلم ولكنها تطلع غالبًا على أكثر مما تقول، والسبب إمكانياتها في أن تتجاوز اللاواقع المحض. كأن يكتب الروائي (شعر بعرق بارد ينضح من ظهره) ونترجمه دون تردد كان خائفًا، لكن ماذا عن الإفراط اللفظي في محاكاة ما هو غير واقعي؟

وجد جينيت أن الخطر الذي يتهدد كل محاكاة لغوية مفرطة في قولها إنما تنتهي بإلغاء نفسها بنفسها6. وهو ما نجده ينطبق على القصص والروايات الخيالية التي تفتقر الحكاية فيها إلى المعقولية لكنها تتسم بالمنطقية السببية وأعني بذلك السرد غير الطبيعي الذي اهتم نقاد المدرسة الأنجلوامريكية بالتنظير له والاهتمام بأبعاده.

وإذا كان السرد فعل عبور يضمن المرور من مستوى إلى آخر، فلا استحالة فيه، لأنه (على كل حال انتهاكي دومًا)7 وما دام التحرك بين عالمين - عالم يسرد فيه وعالم يسرد عنه - فإن الاختلاف الحاصل بين قص حقيقي وقص كاذب لن يدرك في النص السردي الأدبي8.

أي أن بالانتهاك والتحرك السردي والميتاسردي تغدو لا جدة في ما يراد بلوغه من وراء القول بالسرد غير الطبيعي واستراتيجياته في الاستحالة.

وإذا علمنا أن رواية (البحث عن الزمان المفقود) لمارسيل بروست هي مدار كتاب جينيت موضع الرصد، فإننا سندرك دور الحكاية المركزي في جعل البطل خارج الزمان وداخل الزمان في آن واحد. ومفتاح حل هذا اللغز الوجودي كما يرى جينيت هو في فهم هذا التناقض واستثماره داخل الرواية من خلال التداخلات والتكثيفات والاسترجاعات التي بها تترتب الحكاية فتغدو مجملة ودوامية وترددية.

ولعل سائلاً يسأل عن الأسباب وراء جعل الحكاية مركزية ولمَ رفع جينيت من قيمتها لتكون في قيمة الخطاب السردي؟

قد لا نجانب جادة الصواب إذا قلنا إن الأسباب ببساطة تكمن في الفرضية القائلة بأن ما ندركه هو غير ما نعاينه، وأن المنطق هو الذي يجعلنا نعرف بالإدراك وليس بالمعاينة، وضرب جينيت مثلاً سهلاً له علاقة بظاهرة خداع البصر، فنحن (نعلم نظريًا أن الأرض تدور ولكننا لا نتبين ذلك في الواقع فالأرض التي نمشي فيها تبدو وكأنها لا تتحرك فنعيش في هدوء وقس على ذلك الزمن في الحياة. ولكي يحس الروائيون بمروره فإنهم يضطرون إلى تسريع ضربات الإبرة بجنون وبذلك يجعلون القارئ يقطع عشر سنين بل ثلاثين سنة في دقيقتين)9.

وإذا كانت للحكاية هذه المركزية فلأنها تقليد من التقاليد الكلاسيكية للمحاكاة، فأفلاطون بعد أن تأمل الحكاية وجد أنها فعل محاكاتي خالص يقوم به الشاعر الذي هو المتكلم لكن أرسطو أضاف جديدًا بأن جعل الحكاية والتمثيل المباشر ضربين من المحاكاة، فلم تعد الحكاية خالصة وصار المشهد الحواري حكاية يتوسط فيها السارد وتذوب فيها ردود الشخصيات لتظهر في شكل خطاب غير مباشر.

والحكاية والتمثيل هما منطلق جينيت في الرد غير المباشر على نقاد المدرسة الأنجلوأمريكية، متعجبًا كيف أن الادعاء (بغتة في نظرية الرواية في الولايات المتحدة وإنكلترا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هنري جيمس وتلامذته تحت مصطلحي العرض showing والقول telling  اللذين يكادان لا ينقلان.. صارا في العرف المعياري الأنكلوسكسوني هورمزدا (خير) الجماليات الروائية واهريمانها (شرها))10، وفي هذا التقريب بين توجهات هذه المدرسة وثنوية الزرداشتية للخير والشر، مؤشرات أكيدة على مقاصد جينيت الحقيقية التي كان يحرص على مواراتها وعدم الإعلان عنها مباشرة.

ووقف واين بوث أحد أهم منظري المدرسة الانكلوامريكية عند فكرة القول telling والعرض showing، فوصف جينيت وقفة بوث بالـ(وهمية تمامًا) لأن التمثيل مسرحي بصري بينما القول سماعي يُروى وأن الإيهام سواء أكان شفويًا أو مكتوبًا هو واقعة لغوية نطقية تدل دون أن تقلد.

ولأهمية القول ولعلاقته بالحوار اهتم جينيت بتقسيمه إلى أنواع، فذكر أن هناك حوارًا مسردًا وحوارًا محولاً وهناك مناجاة النفس والمونولوج أو الأسلوب غير المباشر الحر. وقد أفاد منه فلوبير فأتاح له (أن يقول خطابه الخاص دون أن يعرضه للشبهة تمامًا ولا أن يبرئه تمامًا)11 ولكن ماذا لو تعلق الأمر لا بالأقوال، بل بالأحداث والأفعال الخرساء؛ فكيف تشتغل المحاكاة في هذه الحالة وكيف سيحملنا السارد على الاعتقاد بأنه ليس هو المتكلم؟ وما الطريقة التي بها نجعل الموضوع السردي يَروي عن نفسه بنفسه من دون أن يضطر أحد إلى الحديث بالنيابة عنه؟

جزم جينيت أن أفلاطون لم يجب عن ذلك، بل قال بالحكاية الخالصة حيث الأفعال والأقوال كلها محاكاة، و(أكثر أشكال المحاكاة التي يرفضها أفلاطون هو أن يتظاهر السارد بإعطاء الكلمة حرفيًا لشخصيته)12 بينما جعل أرسطو المحاكاة على درجات بها تتميز حكاية الأحداث عن حكاية الأقوال. وسمى جينيت هذه الأخيرة (تكلما talking) وهو بهذا يستدرك على واين بوث - من طرف خفي - ما قاله عن العرض showing والقول telling  ليكون التكلم هو الدعامة التي بها يتأكد (أن هذا الذي يُطرح هو ليس بجديد، بل كله مشهور ومع ذلك يستحيل إثباته من دون تحليل شامل)13وبهذا التأكيد لا تتفند عملية تقسيم السرديات إلى كلاسيكية وما بعد كلاسيكية حسب، بل تبدو عملية تصنيف السرد إلى طبيعي وغير طبيعي مفتعلة وليست ذات أهمية.

جيرار جينيت والمواجهة المباشرة

لقد ناقش جينيت في كتابه (خطاب الحكاية) مسائل كان قد فرغ من التنظير لها في كتبه السابقة، لكنه في كتاب (عودة إلى خطاب الحكاية)14 عاود مجددًا النقاش المباشر الذي مداره الحكاية، معلقًا ومستعرضًا الانتقادات الموجهة إلى تنظيراته تحديدًا. وفي مقدمة المنتقدين لتنظيراته واين بوث ومعه ثلة من الباحثين الأنجلوأمريكيين، وقد يدحض الانتقاد وأحيانًا يبني عليه، مدللاً على سعة أفقه المعرفي وهو يقدم مسحًا شاملاً ومعمقًا للتقانات والمفاهيم التي نادى بها في تنظيراته البنيوية.

وكان جوناثان كلر مقدم الكتاب أعلاه ـ وهو من نقاد المدرسة الانجلوامريكية ـ قد وجد فيه غزارة اصطلاحية و(عملاً استفزازيًا فضلاً عن أنه أداة لا غنى عنه للباحثين في الحكاية)15، بينما وصف جهد مواطنه واين بوث في كتابه (بلاغة الفن القصصي) بأنه كان (محصورًا أصلاً في مشاكل المنظور ووجهة النظر السردية، ولم يتضمن أي مسح شامل)16  محتفياً كثيرًا بكتاب جينيت وأنه لا يقدر بثمن لكونه يسد الحاجة إلى نظرية منظمة في الحكاية.

وقد تبدو الأسباب التي حملت جينيت على تأليف هذا الكتاب بعد عشرة أعوام من تأليفه (خطاب الحكاية) اعتيادية من منطلق الرغبة في وضع مراجعة جديدة يعاين عبرها مفاهيمه ويختبر ما كان قد طرحه من مسائل أو يستدرك ما فاته منها، واضعا إياها في المكان الذي يناسبها.

وهذا كله ممكن تخمينه لكنه ليس كل الحقيقة؛ فالكتاب - على عكس ما يوحي به عنوانه - لم يكن مجرد إعادة قراءة أو معاودة تنظير بقدر ما كان ترسيخًا وتثبيتًا لنظرية جينيت في السرديات البنيوية، متصدياً بعلنية واضحة لنقاد المدرسة الانجلوامريكية الذين يصفون مدرستهم بأنها (ما بعد كلاسيكية). وهذا بالضبط هو ما أثار حفيظة جينيت، فقال: (بما أن كل اتفاق يقوم جزئيًا على سوء نية.. فأنا أتبين في (ما بعد) التي تشتمل عليها عبارة ما بعد البنيوية ـ كما يلوح بها في الولايات المتحدة الأمريكية - نبرة تجاوز تمنعني من إلحاقها بكلمة البنيوية- فكما أن ما بعد الحداثة هي على الخصوص رد فعل مناهض للحداثة.. كذلك فإن ما بعد البنيوية - إذا كانت شيئًا - قلما يمكنها أن تكون غير تطليق للبنيوية.. وأنا لم أفهم بعد لصالح ماذا. وهذا ما لم تكن ""البنيوية المفتوحة"" التي يتفق لي أن أنادي بها هي نفسها نوع من ما بعد البنيوية)17.

ويتوكد رفض جينيت الصريح للما بعدية في وصفه للنقد الأنجلوأمريكي بأنه نقد تفكيكي (هو نموذج المنتوج الأمريكي لقراءة معينة للدريدية يطرد النوم حالاً عن جفون أولئك الذي يرون فيه تهديدًا بتدمير النقد والأدب. وقد سرت العدوى إلى كل النقد الأوروبي لما بعد الحرب سواء كان يستلهم الماركسية أو الفرويدية أو البنيوية فصار متهمًا في نظرهم بالسفسطة والعدمية. وعند مقارنة كتاب "خطاب الحكاية" بهذا المد الأسود النزاع إلى الفوضوية، فإنه يبدو مرفأ للرصانة والمنهج والعقلانية)18.

بهذا الموقف المتصادي والحذر والمتشائم من النقد الأنكلوأمريكي يكون جينيت قد اختزل شكوكه وبرر تحفظاته على ما صار يطرح تحت عباءة السرديات ما بعد الكلاسيكية أو ما بعد البنيوية.

والمميز في تحفظات جينيت هذه المرة أنه يطرح ردوده إزاء منتقديه بشكل مباشر، ذاكرًا حججهم، رادًا على كل واحد منهم على حدة، مسميًا إياهم بأسمائهم، مستفيضًا في الدفاع عن آرائه تمحيصًا ومعالجة. وإذا اعترف بما يقال عن منهجه من قصور، فإنه في الوقت نفسه كان يعمق طروحاته ويضيف إليها مزيدًا من التدليلات كما أسلفنا.

ولقد برر جينيت معاودته نقد خطاب الحكاية بهذه المباشرة والعلنية، بأن جمع كل ما قيل من مناقدات وما أفصح عنه ناقدوه من مؤاخذات بين الأعوام 1972 - 1983، واضعا التحديدات ومقدمًا التوضيحات ومستشهدًا بالأعمال الروائية المناسبة ومن بينها رواية (بحثًا عن الزمان المفقود).

 

الهوامش والإحالات

1 - خطاب الحكاية بحث في المنهج، جيرار جينيت، ترجمة: محمد معتصم وآخرين (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، ط2، 1997)، ص37.

2 - المصدر السابق، ص39 ـ40 

3 - بيرسي لوبوك هو صاحب مقولة إن (القصة تروي نفسها بنفسها)

4 - خطاب الحكاية، ص240

5 - المصدر السابق، ص84

6 - ينظر: المصدر السابق، ص197 ـ 208

7 - المصدر السابق، ص245

8 - ينظر: المصدر السابق، ص248

9 - المصدر السابق، ص174

10 - المصدر السابق، ص179

11 - المصدر السابق، ص186

12 - المصدر السابق، ص187

13 - ينظر: المصدر السابق، ص182

14 - قدّم الترجمة العربية لهذا الكتاب الدكتور سعيد يقطين وتساءل (هل من الضروري أن نستفيد من النظريات الغربية أو أن علينا أن نقدم نظرية سردية عربية؟ ومن أين لنا أن نقدم نظرية أو علمًا سرديًا عربيًا .. إذا لم نتفاعل مع النظريات التي سبقتنا في هذا المجال أو ذاك؟) ثم أجاب بالنفي على ما تقدم من أسئلة مستبعدًا ان يكون ذلك حاصلاً في نقدنا العربي فقال: (وأنى لنا أن نتوصل الى اقتراح نظريات ونحن لا نعتقد بضرورة التفاعل مع الأعمال النظرية؟.. وقال إن النظريات الغربية ليست مقدسات علينا أن نسلّم بها ونكتفي بتجريبها أو تطبيقها على نصوصنا).

15 - عودة إلى خطاب الحكاية، جيرار جينيت، ترجمة محمد معتصم (المغرب، المركز الثقافي، 2000)، ص29

16 - المصدر السابق، ص23

17 - المصدر السابق، ص196

18 - المصدر السابق، ص195


عدد القراء: 4140

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-