التخصيب السردي في رواية (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيمالباب: مقالات الكتاب
أ.د. نادية هناوي العراق - بغداد |
الكتاب: "مقتل بائع الكتب"
المؤلف: سعد محمد رحيم
الناشر: سطور للنشر والتوزيع، 2017
الرقم المعياري الدولي: ISBN 9781773221755
عدد الصفحات: 219 صفحة
تعد الكتابة النرجسية شكلاً من أشكال الكتابة الميتاسردية ونمطًا اجناسيًا هو الأكثر استعمالاً في الرواية ما بعد الحداثية وهو يتيح للرواية التفرع والتبرعم والتناسل والولادة، لتنتج الرواية رواية وليدة داخلها، هي ليست ابنتها ولكنها ضرتها، أو لعلها ربيبتها التي بها مجلى حالها ومآلها، ومن خلالها تتحقق مشروعية التخصيب والتوالد، بمعنى أن الرواية "ترفض إخفاء عملية إنتاج النص. إنها تظهر عملية تكوينه وتعرضها على القارئ وهي تقوم بتأمل نقدي على صعيد الابتداع وبتوضيح للمبادئ الشكلية للسرد على صعيد الكتابة"1.
لتبدو الترابطات الكتابية نابعة إما من واقعية تجربة معيشة مستعينة بالذاكرة واسترجاعاتها أو لا واقعية مصوغة من الانثيال تخييلا وافتراء.
ولقد سمىَ الناقد الدكتور شجاع العاني هذا الشكل الروائي الجديد بـ(الرواية المتأملة لذاتها) مشيرًا إلى أن أول محاولة لكتابتها كانت على يد الروائي العراقي محيي الدين زنكنة في روايته (ويبقى الحب علامة) وقد وصفه بأنه أكثر كتّاب الرواية العراقية شكلية 2.
والبغية من توظيف هذا البناء الفني هو تجلية الثيمات وحملها على التجدد والصدم. وتعد الهوية إحدى الثيمات المهمة والأثيرة في الروايات المتأملة لذاتها كونها تفكك مسلمات النظر التقليدي لمفاهيم الهوية وتفرعاتها وتحاول أن تعالجه من منظور تفكيكي، تهدم فيه ثوابت بعينها وتبني بدلها مواضعات هي ليست قواعد، ولكنها رؤى قابلة للنماء والبناء تتعلق بالوجود والانتماء والذات والكينونة.
والهوية كينونة إشكالية نامية من جراء صراعها مع المكان واللامكان وتتذبذب قدرتها على تحديد نفسها بنفسها، كذات فاعلة لا خاملة، قادرة على المساءلة والتعرية والإقرار، وهي قد تبدو متمكنة من التساؤل بـ(من) لا بـ(لماذا) أو (ماذا) على صعيد الممارسة العملية والصعيد السردي3.
وتتأتى أهمية النظر إلى الهوية في عالم اليوم من رواج مفاهيم الاندماج والعولمة جنبًا إلى جنب تعاطي دلالات الاثنية والتمذهبية وهذا ما قولب سرديات العالم الكبرى في بوتقات مصوغة بتجزيئية جعلت منها سرديات صغرى.
وما هذا التماشي الطوعي اللامألوف للضديات والجدليات إلا تعبير عن اتجاه جديد يطرح الهوية كإشكالية، بإزاء الوجود حتى صارت صراعاتها من التعدد ما لا تستطيع أمامه إلا الانصياع والمطواعة.
وتحاول رواية ما بعد الحداثة عمومًا والرواية الميتاسردية تحديدًا نقل تداعيات هذا التقولب إلينا لتجسده حيًّا ناطقًا بمسرودات تتبنى مفاهيم متولدة عن الهوياتية الراهنة وتعقيدات الوعي بها.
وإذا كنا على الصعيد الواقعي عاجزين عن رؤية واقعنا اليومي المعيش رؤية بانورامية بنظرات ثاقبة وخاطفة؛ فإن الأدب هو خير أداة تمكننا من إدراك ذلك، ولمسه وتمثيله ولا مناص من أن يكون الأدب الروائي إجمالاً ورواية الميتاسرد تخصيصًا الأكثر قدرة على تجلية الواقع وكشفه ورصد ثغراته وخصوصياته لقدرتها على صدم الذات القارئة لترى نفسها بنفسها وتتأمل ذاتها، معيدة إنتاج المقروء في شكل نرجسي خالص، متبعة أسلوب الإخصاب السردي.
وهذا ما تمثله رواية (مقتل بائع الكتب)4 متخذة من موضوعة البحث عن الهوية، مركزًا بنائيًّا تتمحور حوله التجربة السردية كلها لتنضوي تحت لائحة الرواية ما بعد الحداثية، معتمدة أسلوب التخصيب بالتعدد الصوتي والتداعي المونولوجي للمشاعر والأفكار، لتتولد ترابطات قصصية أو سلاسل سردية تتوزع بين متنين:
أحدهما خارجي هو عبارة عن وثائق وتقارير وآلات تسجيل وعدسات كاميرا ولوحات فنية ورسائل ومكالمات.. والآخر متن داخلي بالعناصر البنائية المعهودة لكنه متأثر بالمتن الخارجي لتتحول الكتابة إلى متواليات سردية، تنتج عنها تشعبات كتابية قد تكون ملتبسة ومقتحمة وخارقة لكنها تظل مترابطة ومنسجمة لتغدو الرواية - كما يعبر ريكاردو - امتثالاً ذاتيًا وليتكاثر النص ابتداء من ذاته وهو يكتب مقلدًا ما يقرأه.
ويتجسد موضوع الرواية في شكل مشروع تأليف يروم السارد المركزي الصحفي ماجد بغدادي القيام به ليكتب سيرة محمود المرزوق الذي قُتل على يد مجهول؛ فيقوم السارد بجمع كل ما يمت لهذه الشخصية بصلة من علاقات وصداقات ومحطات ضائعة وأحداث جسام. ويوجه هذا السارد بؤرة السرد إدلاء واستشهادًا وتوثيقًا من خلال ثمانية سراد (مصطفى كريم ومحمود المرزوق وفراس سليمان وهيمن قره داغي وسامي الرفاعي ورباب وأثير العراقي والحاج منصور) وهكذا تتأرجح بنية الخطاب السردي بين أصوات السراد لتتناسل باستمرار فتارة هي سرد أوتوبغرافي وتارة ثانية هي سرد موضوعي وثالثة هي سرد بأنا الراوي الغائب.
وهذا ما يحقق للرواية تعددية صوتية تجعلها أشبه بالرواية التسجيلية أو الوثائقية التي يخرقها السرد السيرذاتي بين الفينة والأخرى وفيه يمارس السارد دور المخبر والناقد والمؤرخ، مستعملاً أسلوب العمل الصحفي والتحقيق البوليسي، مستحثًا نفسه على الجمع والرصد والتفكير، لعله يعيد ترتيب الوقائع الذي فيه إعادة إنتاج الرواية في داخل الرواية نفسها "لماذا تراني أخاف الكتابة؟ أعني المباشرة الجادة بكتابة كتاب يكشف الحساب الذي طالما تبجحت به أمام معارفي وكأنه إلياذة هوميروس المرتقبة؟"5.
وهذا ما يحقق للحبكة السيرورة والدوام، فتتمرأى في المتن السردي الداخلي الوثائق المستدعاة من الخارج النصي ليبدو العمل شبيها بالرواية داخل الرواية.
وما هذا المنحى الكتابي النرجسي، إلا انعكاس للمنحى الموضوعي المتشظي للهوية ويذكرنا هذا المنحى التجريبي برواية (الركض وراء الذئاب) لعلي البدر لولا أن البطل يتحطم في النهاية، فضلاً عن التأثر الواضح ببطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح فالمرزوق الناجي من قطار الموت والسجن الصحراوي يكابد الضياع في منافي أوروبا مواجهًا ما واجهه مصطفى سعيد "خطر لي أن المرزوق ربما وجد بعض الشبه بينه وبين مصطفى سعيد بطل الرواية"6.
ويظل البحث عن هوية المرزوق هو الدافع وراء قيام السارد بجمع الصور والمحاورات واللوحات التي يتم إرسالها الكترونيًّا على الفيسبوك، فضلاً عن الوثائق المكتوبة كيوميات الخراب التي يقدمها فارس سليمان وسجل كشف الحساب الذي تقدمه رباب مع استعمال أسلوب التقرير التلفزيوني ولم تكن بنية الحلم ببعيدة عن السرد السير ذاتي "المكان عند الحافة الحادة العالية جدًّا لجبل ما لا طريق للنزول الزمان من المستحيل تحديده ساكن"7 وكادت هذه الوثائق أن تشغل حيزًا مهمًا من الرواية قارب النصف أو أكثر ..8
ويعضد السرد الاسترجاعي منحى التوثيق، الذي بنيت عليه الرواية كما تخترق العبارات الميتاسردية بنية السرد التقليدي لتخلخله عاملة على توصيل ثيمة الرواية المتمثلة، بسيرورة التشظي الهوياتي في ظل واقع ما عرف احترام الآخر ولا حرية الرأي على تعاقب مراحله المعاصرة والراهنة.
ويقود البحث عن ملابسات مقتل بائع الكتب محمود المرزوق، إلى رؤى متعددة ومتضادة فالمرزوق فنان بعين سامي الرفاعي، وهو مثقف بعين فارس سليمان وهو متحرر وليبرالي بعين هيمن قره داغي وهو عاشق رومانسي بعين رباب وهو فاسق ومنحل بعين أثير العراقي، لكن ذلك لم يلغ دور السارد المركزي الأول ماجد بغدادي وهو يتتبع سيرة المرزوق، ويعتزم تأليف كتاب حوله، مانحًا المسرودات حرية الادلاء والتوثيق، صانعًا منها بؤرة سردية هي أشبه بمناورات تتخذ شكل التحقيق الصحفي الذي لا يتوانى عن تسجيل كل شاردة وواردة، مستعينًا بالمذكرات والوثائق الصوتية والصورية والوصفية عن الضحية.
ويؤدي انهماك السارد المركزي بالجمع والاستقصاء والرصد والتوثيق، إلى أن يحول المسرد الوقائعي إلى مسرد تخييلي هو في حقيقته ترميز اليغوري، فليست هوية المرزوق المتعددة والمشتتة بحسب الأصوات السردية إلا لعبة اعتملت في بواطن السارد ودفعته إلى البحث عن نفسه متصادمًا مع ذاته فهو الصحفي والعاشق الذي فقد الرهان في الحالين فلا هو أنجز مشروعه المهني الذي هو كتابة سيرة المرزوق ولا هو أتم مشروعه الشخصي الذي هو الزواج من فاتن لينعكس هذا التصادم نرجسيًّا على مسروداته التي ستتصادم مع واقعها متصارعة داخليًّا وخارجيًّا مكانيًّا وزمانيًّا.
وبالمحايثة بين الخطاب السردي والميتاسردي، تتعزز هوية السارد التي هي هوية أنا المؤلف الذي أدخل اسمه في تضاعيف السرد واستعان بأصدقائه وذكر الأمكنة الأثيرة لديه كنوع من التدعيم الاقناعي للمنحى الرؤيوي، فضلاً عن كونه وكّد الاشتغال الميتاسردي جاعلاً المرزوق واسع الثقافة مطلعًا على أمهات الكتب الأدبية عميقًا في وعيه المعرفي المتأتي من كثرة قراءاته واطلاعاته الأدبية والسياسية والتاريخية والثقافية.
وإذا كانت الرواية الواقعية تهتم دومًا بتحقيق الإيهام ما بين الواقعي والتخييلي؛ فان الرواية ما بعد الحداثية تتحدد وظيفتها في تحقيق اللاإيهام بالواقع (الميتا فكشن) المخيب لأفق توقع القارئ، الأمر الذي يتطلب منه المشاركة في الإبداع بالتفاعل والبناء وليس بالتسليم والتصديق.
ويخرق التشظي الهوياتي مواضعات السرد التقليدي بناء على استرجاعات نابعة من ذاكرة جمعية لسراد تسيرهم الرواية نحو المكاشفة التي بها يحاسب كل صوت سردي نفسه، كاشفًا عن تضاداته الفكرية والذاتية تجاه المجتمع والتاريخ من قبيل الحديث عن العالم البرجوازي والنزوع العبثي في الحياة وزيف الكتابة في النقل عن الواقع وازدواجية النظر "هي محاولة لتبرئة الذات؟ لتضليل الآخرين"9.
ويكاشف السارد قارئه بين الفينة والأخرى بكل ما يقوم به من حذف وشطب واقتطاع أو إضافة مسيطرًا على الحبكة مسلسلاً المادة السردية متعاملاً معها بلا نمطية أو تتابعية من خلال المقاطع الميتاسردية التي غالبًا ما يختم بها السرد الاسترجاعي كقوله: (الحاج منصور الهادي ليس هذا اسمه) أو(لست بصدد كتابة رواية الرجل الغامض الذي يتحمل تكلفة هذا المشروع لا يفكر بنص متخيل في قالب رواية بل يريد سيرة حقيقية تعتمد وقائع واعترافات) ص117 أو(وهذه كلماته أعرضها لقرائي من غير أن أجري عليها أي تعديل أو تحريف أو إعادة صياغة سوى ما تقتضي سلامة اللغة..) ص147 أو (لم أحذف أو أغير أو أصحح مما كتب المدعو أثير العراقي أية كلمة أو عبارة) ص208
والقصد إدامة بنية المسرود له وجعل القارئ واعيًا للعبة الكتابية ليقوم من ثم بملء الفراغات كما أن جعل النهاية مفتوحة هو اشتغال كتابي تفاعلي يجعل القارئ جزءًا من العملية الإبداعية حتى لا تغدو هناك أسبقية في متوالية القراءة/الكتابة..
وهذا ما يعمق اليغورية الإحساس بالتشظي والنزوع نحو المغالبة بالظهور والاختفاء ليتصاعد التأزم وتتضح خطورة الدور الذي يقوم به السارد المركزي في بحثه عن هوية المرزوق واستقصائه لملابسات تعدد هذه الهوية وتضادها فيتعرض لمحاولة إطلاق نار، ولكنه يظل مراوحًا بين السرد السيرذاتي والموضوعي والسرد الميتاسردي "القصة كما أعدت صياغتها باختصار محاولاً عدم الاخلال بالمضمون وإن كنت أدرك أن المضمون لن يكون هو ذاته مع تغيير الشكل"10.
وصحيح إن استعمال أسلوب الوصف الخارجي المباشر على شكل قراءات نقدية قد خفف درامية التناسل الذاتي للسرد لكنه في الآن نفسه حقق تطعيم السرد المشهدي والدرامي بالوصف الخارجي(عين الكاميرا) مطرزًا الرتابة بلولبية التوالي ما بين الوصفي والسردي.
ولقد غدت أغلب المقاطع الوصفية عبارة عن قراءات سيميائية ونفسية وتشكيلية كهذا المقطع "يتوسط امرأتين ورجلين خمسة يقفون في صف واحد في نظره أسى من يودع مكانًا ألفه وفي عيونهم الوداعة الحزينة لمن يودعون شخصًا يعرفون إنه سيترك فراغًا مضنيًا حين يفارقهم لا يظهر من السماء شيء والخلفية جدار منزل عال أفترض إن السماء غائمة والمطر وشيك"11.
فعين الكاميرا تسلط نظرها على المكان والوجوه لتقرأ المخفي في العيون أو تكشف عن ما يقبع في التفاصيل المكانية الصغيرة وهذه ممارسة نقدية أدخلها الروائي كنوع من التجريب الميتاسردي عاملاً على استنهاض القارئ دافعًا إياه إلى التأمل والغوص الذهني محولاً البصريات المرئية إلى منقودات مسردة وكأنه يرسم الكلمات ليفرض بها على المنحى السردي توقفات تقلل من حدة الدراماتيكية في الرواية.
وإذا كانت بعض التوظيفات للوصف أو الاسترجاع تترهل عند الكاتب إلا أن التنويع في أساليب التوثيق لا سيما التوثيق بالرسائل الالكترونية وبوسائل التواصل الاجتماعي والإيميل قد تمم متطلبات التحقيق الصحفي عن المرزوق.
وإذا أضفنا إلى هذا التنويع على مستوى الخارج نصي التعدد الصوتي على مستوى الداخل النصي يتوكد لنا تناسل الأحداث وإخصابها ذاتيًا ليغدو المتحصل من وراء ذلك تعميق الإحساس بالتشظي للهوية السردية وبالتمظهر الكتابي النرجسي الذي فيه الهوية السردية تساوي الهوية الذاتية أو الشخصية. .
ولو ظل السارد محتفظًا بهذا الاشتغال لوحده متجاوزًا الإيغال في وثائقية التوصيف الصوري بعين الكاميرا لاستطاع أن يحقق لا مألوفية أفق التوقع القرائي بشكل أعمق.
ولا غرو أن أسهم ذلك كله في جعل رواية (مقتل بائع الكتب) إدانة علنية لهذا الواقع فالمرزوق الذي هام على وجهه مثقفًا ضائعًا في الأمكنة متشظيًّا في آرائه ومزدوجًا في علاقاته قد لاقى مصيرًا محتومًا هو انعكاس سردي لواقع متشظ يبحث أبناؤه فيه عن هوياتهم التي افتقدوها بالتغريب والاحتراب والتنازع أو استلبت منهم بالتشظي والانغلاق والتطرف.
ولقد جعل الكاتب مرزوقًا يعترف بحقيقة هذا التضاد الداخلي والانكسار المعنوي والقيمي في يومياته التي عنوانها(كشف الحساب) "لم أحاول كفاية في أي وقت أن أقف دائمًا عند التخوم انظر من ثقب الباب أو من خصاص النافذة هناك حد أخشى تجاوزه .. وأذهب أحيانًا بعيدًا أتمادى وأكسر الحاجز هذا في عقلي فقط في خيالي المجنح المنفلت"12.
وهكذا غدت بنية البحث عن الهوية هي البنية المركزية التي بها تتشظى كل الموجودات سردًا وكتابة وذاكرة "إن كنت أنقل الواقع بصدق لا الواقع كله لأن هذا مستحيل واللغة قاصرة محدودة أقول إن كنت أنقل ما يجب نقله لتكون الصورة موازية للأصل لن أتبجح وأقول مطابقة وأتساءل كذلك إن كانت الذاكرة مؤهلة للإعانة؟ حين نتكلم نحاول أن نخفي بقدر ما نفصح وعند الكتابة يكون الأمر أدهى"13.
ويلحق التشظي السارد نفسه الذي يتحرر من مهمة توثيق السيرة وجمع الدلائل ليقوم بسرد سيرذاتي لقصته مع فاتن تاركًا فراغات تمنح السرد بعض الغرائبية والغموض وتطرح تساؤلات مختلفة بدينامية تختتم بنهاية مستمرة ومتحركة بالأفعال المضارعة (أغادر أجلس سأطلب يبتسم أحتسي أخرج أخط التقط) ليرسل رسالته الهاتفية لفاتن يعلمها ببداية المشوار وليس نهايته "أظنني بدأت أعرف الآن إلى أين أمضي وما يجب علي أن أفعل"14.
وينتج عن هذا انفتاح قرائي وكتابي تتشتت فيه الهوية ليصبح البحث عنها غير يسير فهي لا تعرف نفسها كونها مهجنة ومختلطة في مسمياتها وأوصافها وهي تدور في حلقة مفرغة من التغريب واللانتماء وهذا ما كابده محمود المرزوق حتى صار مرصودًا من اليمينيين واليساريين معًا المتطرفين والمعتدلين العلمانيين والمحافظين المحليين والمستعمرين.
ولقد تقصد الكاتب الانتقال من البنية السردية الاسترجاعية بالأفعال الماضية إلى البنية الاستحضارية بالأفعال المضارعة لكي يصنع درامية خالصة تعوض تلك الوقفات الوصفية الطويلة التي سيطرت فيها البنية المكانية بالبحث والرصد والتوثيق على البنية الزمنية بالاسترجاع والاستشهاد لتظل خيوط السرد والميتاسرد مفتوحة على احتمالات متعددة، تصب في بوتقة السرد النرجسي وهذا ما سينعكس على الهوية الذاتية لترى نفسها متجسدة في الهوية السردية ومتمظهرة فيها..
وبهذا التشظي الهوياتي تدحض هذه الرواية الكوجيتو فالذات لا تعرف نفسها ولا وجودها وهي ذات غير مفكرة لا ينتابها ديالكتيك الأنا الفاعلة التي تحدد نفسها كأنا امبريقية أو أنا متعالية (ترنسند تالية) بل إنها(أنا) تتمرأى باحثة عن كينونتها وهويتها 15 ولهذا شبهها بول ريكور بسيزيف "إن أنا الكوجيتو حين تترك لذاتها تصبح مثل سيزيف المحكوم عليه بحمل صخرة يقينه والصعود بها في كل لحظة"16.
وأهم ملامح هذه الذات أنها صريعة الشك والتذبذب والتصدع والهيام وهي دوما واقعة في متاهة جدل الوجود والعدم، الانتماء والاغتراب، التوحد والتلاشي، التجذر والاقتلاع، ولذلك لا ترى أي شيء حقيقيًّا أو أكيدًا..
ختامًا .. فإن المفارقة في نهاية الرواية صادمة كونها عملت بعكس ما أرادت الاسترجاعات والتوثيقات توكيده، فليس الإرهاب هو السبب في مقتل محمود المرزوق بل هي الهوية المتشظية استلابًا وضياعًا .. وهذه المفارقة الصادمة بالانتقال من التوثيق إلى التسريد هي التي توقظ الهوية الذاتية لتغادر منطقة الاسترجاع والتذكر ناظرة إلى الأمام بدينامية وثابة ومستمرة وبضمير التكلم معلنة عزمها على تعزيز ثقتها بهويتها من خلال جعل الختام بداية لدرامية البحث والاستقصاء الذي سيعتزم السارد المركزي المضي فيه ككيان نامٍ ومتحرر.
فهرس الهوامش:
1 - الرواية الفرنسية الجديدة، نهاد التكرلي، الجزء الثاني، الموسوعة الصغيرة، العدد 167، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985/ 64 - 65.
2 - البناء الفني في الرواية العربية في العراق بناء السرد، د. شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1994 / 147.
3 - ينظر: الذات عينها كآخر، بول ريكور، ترجمة وتقديم وتعليق د. جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة بيروت، طبعة أولى، 2005/ 103.
4 - مقتل بائع الكتب رواية، سعد محمد رحيم، دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، 2016.
5 - الرواية/ 176.
6 - الرواية/44.
7 - الرواية/115.
8 - ينظر: الرواية/47ـ75.
9 - الرواية /188.
10 - الرواية / 213.
11 - الرواية /84ـ85.
12 - الرواية / 153.
13 - الرواية/ 188.
14 - الرواية / 216.
15 - ينظر: الذات عينها كآخر، بول ريكور/73.
16 - م.ن/ 81ـ82.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجسد الأنثوي بين الانسلاخ وأدًا والبزوغ سردًا .. قراءة في قصة قصيرة لعلوية صبح
- الشك بين تصارع الأضداد والغوص في التساؤل .. قراءة في رواية «جمرات من ثلج»
- التداخل الأجناسي والتغاير الأسلوبي في القصة القصيرة جدًّا
- السرد الروائي بين التاريخي والتخييلي في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- القصة القصيرة وبروتوكولات السرد ما بعد الحداثوي معاينة في مجموعة سايكو بغداد لرغد السهيل
- التخصيب السردي في رواية (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيم
- التوحد السردي موضوعًا وتقانة في رواية ( الطيف) لهيثم بهنام بردى
- الكينونة المؤنثة بين أمل العودة وخيبة الضياع قراءة في قصيدة الأم والطفلة الضائعة
- رواية التاريخ .. معاينة في التمثيل الثقافي
- مسارب المبادرة في التصعيد الدرامي في قصص (حافات الحلم)
- الأخلاق بين أفلاطون والفارابي
- سطوة الحكاية وسرديات الاستعادة في رواية (في بلاد النون)
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- الحرج النقديّ في (السرديّة الحرجة) للدكتور عبدالله الغذاميّ
- الجنون بوصفه مهيمنة فكرية في قصص لطفية الدليمي
- طه حسين والبحث الحفري
- البعد الثالث للشخصية في قصص سعدي المالح
- جيرار جينيت والسرد ما بعد الكلاسيكي
- أحمد فارس الشدياق: ريادة سرديّة.. تُنقد بإتباعيّة
- تراثنا السردي: من التناص إلى الأقلمة
- ثلاثة مآخذ نقدية على برسي لوبوك
- قصص الأطفال والسَّرد غير الطبيعيّ
اكتب تعليقك