قصص الأطفال والسَّرد غير الطبيعيّالباب: مقالات الكتاب
أ.د. نادية هناوي العراق - بغداد |
لسرديات الطفولة منزلة خاصة في النظرية السردية ما بعد الكلاسيكية، لا لأنها تتعلق بكينونة الصغار ممن ينبغي وضعهم في أولويات الاهتمام والتركيز بوصفهم لبنات لجيل جديد عليهم تبنى المجتمعات حسب، بل أيضًا باتجاه بناء منظور جديد للإنسان من خلال السرد وبمختلف أنواعه.
وإذا كان السرد هو الحياة، فإن طفولة الشعوب هي منطلق هذا السرد، وفيها مارس الإنسان قص الخرافات ثم صاغ الأساطير التي عليها قامت صروح حضارته طورًا بعد طور ومرحلة تلو مرحلة. وطفولة الشعوب ليست بدائيتها إنما هي الأعتاب التي عليها وضعت خطواتها الأولى في معرفة نفسها وما حولها. فكانت الأساطير الصورة الأكثر تعبيرًا عن تلك الطفولة التي فيها اكتشف الإنسان ذاته وحاول أن يعرف ما حوله ويرسم طرائق حكائية في التعامل مع غيره سلبًا وإيجابًا، متخذًا من الكتابة وسيلة لتدشين هذه الطرائق فصار بعضها مدوّنًا في شكل أنظمة ودساتير لا تخلو من حكايات وأخبار وأناشيد وتراتيل، شكلت الأساس الأول لكتابة التاريخ البشري كسردية كبرى في حياة الشعوب، وبقي بعضها الآخر شفاهيًا محفوظًا في الصدور يتناقله الناس جيلاً بعد جيل، ومن ضمنه قصص الأطفال التي تُسرد لأجل التسلية ولنقل الخبرات والتجارب أيضًا.
والطفولة نفسها هي سردية تعبر عن التوق إلى سماع الغرائب والخوارق أيًا كانت أخبارًا أو أشعارًا أو أناشيدَ أو أدعيةً. ولا تكمن وظيفة السرد الطفولي في بنيته الشكلية حسب وإنما هي في فاعليته التي بها يكتسب الطفل الخبرات متعرّفًا إلى الحياة ومتعلّماً كيف يستطيع مواجهة تحدياتها وتجريب جديدها والمغامرة في دروبها، ممتلكًا مجسات خاصة ومزودًا بمحفزات تدفعه نحو الاكتساب والتمرن إلى أبعد الحدود. وعلى الرغم من أن الإنسان لا يصدق في كبره ما كان يصدقه في صغره، فإنه لا ينكر أنه كان يتفاعل بكل جوارحه مع ما يُحكى، فلا يسأل عن صدقه أو كذبه بقدر ما كان يرغب في استكشاف هذا المحكي وتخيله.
وتتنوع الصور التي من خلالها تتجسد سرديات الطفولة متوزعة ما بين الأنشودة والترنيمة والحكاية والقصة والمسرحية المغناة والأغنية الممسرحة والأخبار الطريفة وغيرها من السرديات التي بها تودع الخبرات والعادات والتجارب في ذهن الطفل.
بيد أن القصة تظل هي الأشهر والأكثر أهمية في سرديات الطفولة تحت مسمى قصص الأطفال أو أدب الأطفال أو أدب الصغار. وقسم كبير من قصص الأطفال يتأتى من الأدب الشعبي لأن مؤلفها هي الشعوب نفسها بالمجموع وعبرها تنتقل القصص كنهر جار لا انقطاع فيه ولا نهاية له.
والتخييل هو العنصر الأكثر أهمية في سرديات الطفولة وعليه تُلقى الحمولة السردية برمتها وإليه تتجه كل أطراف السرد ومتفرقاته تماما مثل الطفولة التي هي الأساس الأول الذي منه ينطلق الإنسان في بناء كيانه وتنمية مواهبه وتكوين شخصيته التي كيفما تكن في الطفولة، تتجلَ أبعادها في الشباب والكهولة.
والتخييل أيضا هو العصب الذي يمدُّ حياة السرد بالدوام ويتلون في الطاقات مديمًا نسغ الحياة ومتوجهًا نحو مجالات الواقع المتنوعة. والبغية من وراء التخييل هي الحقيقة التي عنها يبحث الإنسان طوال حياته، مقرِّبًا بالتخييل احتمالاتها، ظافرًا منها بما هو ممكن ومنطقي.
ولا يهم إن كان هذا الممكن والمنطقي واقعًا في الحاضر أو الماضي أو سيقع لاحقًا، بل المهم هو إمكانية توقعه كدليل على قرب التخييل من الحقيقة، قابضاً عليها افتراضًا أو عارفًا بعضًا من تجلياتها في شكل استباقاتٍ أو تنبوءاتٍ تستنهض فيه العزم نحو الغوص أكثر في مدارات التخييل واكتشاف المزيد منها.
إذن فالتخييل هو العصب مثلما أن الطفولة هي المنبت، ويظل العصب ذا طاقة خلاقة كي ينتج الجديد مثلما يظل المنبت ممدِّاً بالحيوية متدفقاً بالجديد الذي له دقائقه وعمومياته. ولهذا السبب لا ينسى الإنسان وهو يتقدم في مراحله العمرية حكايات سمعها قصصاً في طفولته فصدّقها بكل حواسه وتأثر بأبطالها بكل مدركاته. وما ذلك إلا لأن الطفل صفحةٌ بيضاء خيرة ومفطورة على النقاء والصدق فلا يتردد ولا يتذبذب ولا يشكك ولا يعاند وهو يسمع القصص ويتلقى فعل أبطالها. وبذلك تكون الطفولة مرحلة غضاضة وطراوة كأكثر المراحل العمرية التي فيها يمتلك الانسان طاقات كبيرة في الاكتساب والتمرن واستقبال المهارات.
والفطرة الخيرة تجعل الطفل مجبولاً على استحسان كل ما هو غريب وغير طبيعي، فلا يعتريه الامتعاض والنفور إن هو سمع قصصاً فيها أشياء أو كائنات لا توجد في الوسط الذي يعيش فيه أو قرأ ما يخالف الموجود في بيئته. فتتشكل من ثم خبراته التي فيها تكون تضادية الواقعي/ التخييلي هي صورة محاكية لما في الحياة نفسها من تضادات في المعاشات والأحوال وتقلباتها الزمانية والمكانية والقيمية المعنوية.
وتظل العلاقة السايكولوجية بين الطفل والتخييل طردية، لكنها تغدو عكسية مع التقدم في العمر بمعنى أن الوازع لتقبل ما هو تخييلي يقلّ عند الفرد كلما تقدم به العمر.
وإذا حصل واستمرت تلك العلاقة في مراحل عمره اللاحقة فسيمكِّنه ذلك من أن يكون فنانًا صاحب موهبة ومبدعًا يمتهن التخييل مهنةً رسمًا أو نحتًا أو تمثيلاً أو موسيقى أو شعراً أو قصًا. والسرد كغيره من الفنون الإبداعية عملية سايكولوجية كبيرة فيها تعتمل الأحاسيس وتتفاعل المركبات فتتشكل هوية الإنسان وتبنى شخصيته وبالشكل الذي يعكس ما في الطبيعة البشرية من تعقيد وما في الطبيعة الكونية من نظام يحكمان الكيان البشري داخليًا من الناحية النفسية وخارجيًا من الناحية السلوكية.
وسيكولوجية الفرد طفلاً هي أكثر تعقيدًا منه شابًا وكهلاً، ولهذا تترك أثرها واضحًا على سيكولوجيته. والقدرة البشرية عادة ما تكون في مقتبلها نامية وضاجّة بكل طاقتها، مهيأة لكل زرع وتلقين وغرس وتعليم. وتتفاوت هذه الطاقة تبعًا لما يتحلى به الفرد جينالوجيًا من مهارات وإمكانيات، وبعضها يأتي عن مواهب وملكات لها دور في توجيه حياة الطفل وتحديد طبيعة ما يغرس فيه وما يمكن العمل على نمائه.
وتلعب القصص أدواراً مهمة في الغرس والإنماء، وكلما كان للتخييل فيها أفعال كبيرة، غدا تأثيرها في تشكيل شخصية الطفل واضحًا. وقد يصل التأثير إلى درجة فيها يكون الطفل هو نفسه ساردًا لقصص بها تتضح موهبته الإبداعية وقد تنمو فتتجلى في شبابه واضحةً.
والسرُّ وراء نماء الموهبة يكمن في التخييل بالدرجة الأساس كموهبة فطرية واستعدادات نفسية وطاقة فنية تمكن صاحبها من أن يصبح مبدعًا. وهو ما تختصره مفردة (الخيالية) كمفهوم من مفاهيم السرد غير الطبيعي. ولا تعرف الخيالية سنًا أو عمرًا، وأكثر الأفراد امتلاكًا لها من كان ذا موهبة صقلها سماع القصص وهذّبتها القراءة.
والفرق في (الخيالية) بين السرد الطبيعي والسرد غير الطبيعي هو أنها تكون في السرد غير الطبيعي عامة لا تتحدد بما هو محتمل أو غير محتمل في حين تكون في السرد الطبيعي محتملة بالمحاكاة التي هي نقطة الانطلاق ومحطة الانتهاء مع تباين الطرق والمنعطفات. وهو ما يجعل هذا السرد الأكثر استعمالاً والأغنى عطاءً ومداومة ويتخذ أشكالاً قد تتغاير مع صورته الكلاسيكية أما باستعمال الأسطورة أو التغريب أو الإيهام أو التشيؤ أو الفنتازيا أو العجيب وغيره. ولأن الخيالية في السرد غير الطبيعي محتملة وغير محتملة، يدخل فيها ما هو تحت واقعي أو فوق واقعي وبشكل غير محدد الوسائل ولا معقول الصور.
وإذا كانت الخيالية غير محتملة الحدوث هي عماد قصص الأطفال، فإن الخيالية المحتملة الحدوث هي عماد القصص الواقعي فلا تحلّق بعيدًا عن الواقع الموضوعي إلا بقدر ممنطق ومعقول. ويحضر الإمتاع أساسًا قويًا في قصص الأطفال، لكنه يتناقص في قصص الكبار بسبب ما فيها من رموز ودلالات تحتاج تأملاً وإنتاجًا ومشاركةً.
وقد عالج الكاتب الفرنسي "اكزوبري" هذا الاختلاف بين الخيالية في قصص الأطفال والخيالية في القصص الواقعية المكتوبة للكبار في روايته القصيرة/النوفيلا (الأمير الصغيرThe little prince (1943، وأهداها الى كل شخص كبير(بوسعه أن يتفهم كل شيء بما فيه كتب الأطفال.. لأن كل الكبار كانوا ذات يوم أطفالاً.)1.
وتتضمن الرواية رسومًا ملونة موجهة للأطفال لكنها تتضمن أيضًا محمولات فكرية تخاطب الكبار. والسارد فيها ذاتي يردف الجمل البسيطة المصورة بجمل فيها نقد اجتماعي يحتاج تأملاً؛ فمثلاً حين سرد حكاية الثعبان الذي ابتلع وحشًا وجسده في رسم تبسيطي، فإنه اتبعه بالقول: (لمّا ابرزته لكبار الناس نصحوا إليّ بأن أدع جانبًا رسم الثعابين من الخارج والباطن، وقالوا: الأفضل لك أن تُعنى بدرس الجغرافية والتاريخ والحساب وقواعد اللغة.. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئًا من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرروا ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء)2. فالكاتب يسخر من الذين يقيسون السرد بمقاييس العلم وينسون أن التخييل هو لبُّ السرد. ولما كان السرد يقوم على المنطقية أياً كان المسرود حقيقيًا أم غير حقيقي، فلا فرق إذن بين قصص للأطفال أو قصص للكبار من هذه الناحية.
ولتأكيد هذه الحقيقة جعل السارد مسروده ولدًا صغيرًا بعمر ست سنوات وسماه الأمير الصغير، ومشكلته أنه أضاع موطنه الصغير فطاف الكواكب بحثًا عنه قبل أن يحط على الأرض.
وصادفه السارد فحدّق فيه بإنعام طالبًا منه أن يرسم خروفًا فرسم ثعبانًا، اعترض الولد وقال: (لا لا ما أردت فيلاً في ثعبان، فالثعبان شديد الخطر أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير صغير جدًا أنا بحاجة إلى خروف، فارسم لي خروفًا فرسمت له خروفًا)3 وما يسترعي انتباه السارد هو أن للأمير الصغير (رأي في الأمور الجدية تختلف كل الاختلاف عن رأي الكبار من الناس)4.
وفي أثناء هذه المحاورة وغيرها من المحاورات يتعمد السارد توجيه اللوم إلى الكبار كونهم يثبطون عزيمته عن التصوير فلا يصدقون ما يرسمه وما يصفه ويضحكون ويشككون. ويتقصد السارد تكرار عبارات معينة مثل: (إن موطني على غاية من الصغر)5 كما يُكثر من طرح الأسئلة حول النباتات والفراشات والنجوم. وفي هذا دليل قاطع على أن الخيالية هي الأساس الذي عليه تبنى حبكة هذه النوفيلا التي تنتمي إلى أدب الأطفال بوصفه نوعًا سرديًا.
ولا مراء في أن تزداد نسبة الخيالية في قصص الأطفال كلما قلّ عمر الطفل كما لا مراء في أن تزداد الخيالية في السرد غير الطبيعي طرديًا مع تزايد رغبة الطفل في التأمل والإدراك. ومرد هذه الطردية راجع إلى أن الطفل لا يقل عن الكبير في ما يمتلكه من خيالية هي عبارة عن طاقة ذهنية تجعله قادرًا على أن يصنع ويخترع ويؤلف ما ليست له فيه خبرة كافية وما ذلك إلا لأنه أكثر تلقفاً لكل ما هو مشوق ومثير ولا فرق عنده بين الواقعي الحقيقي والتخييلي الكاذب. وما يحتاجه القاص في إنتاج السرد غير الطبيعي للطفل هو أن يتلبس خيالية الطفل كي يكون أكثر تحررًا من تجاربه وخبراته الواقعية وكذلك أكثر بعدًا عن العقل ومواضعاته في التأمل والإدراك.
ومع صعود السرديات الصغرى وتفتت مركزية السرديات الكبرى انتعشت قصص الأطفال وصارت مركزية كغيرها من السرديات المهمشة. وصار السرد الواقعي يمتح من قصص الأطفال خياليته باتجاه إنتاج سرديات غير حقيقية لا تقل عما في سرديات الطفولة من الخيالية.
ومن أسباب هذا الامتياح أن السرديات اليوم لا تجد في محاكاة الواقع المتخيل بغيتها في الرصد والتشخيص والمعالجة لذلك تتعالى على النظام الذي به تدرك قوانين الواقع فتتغير في ما هو ممكن متجهة إلى ما هو لا نظامي وغير ممكن، مما نجده في قصص الخيال العلمي وقصص الفنتازيا والحكايات الشعبية الموروثة التي فيها تهيمن الخيالية مبتدأ ومنتهى.
وفي هذه السرديات غير الطبيعية تكون اللامحاكاة - على عكس ما يذهب إليه التصور المعتاد - هي أساس المحاكاة بالمفهوم الأرسطي. ولكن هل يعني هذا التأسيس على اللامحاكاة أن قصص الأطفال كقصص الكبار، موجهة إلى عموم القراء؟ ومن أين يتأتى للسرد غير الطبيعي أن يكون عامًا وهو غير محتمل الوقوع بالخيالية التي بها تتشكل لا معقوليته ولا طبيعيته؟ هل ينبغي أن تكون الخيالية واقعية بالقدر الذي ينبغي للواقعية أن تكون معقولة؟ وكيف تقنعنا الخيالية أن وراء اللا معقول ما هو معقول ومنطقي؟
إن الخيالية ليست نقيض الواقعية ولا هي خلاف المنطقية؛ لا لكونها وسيلة رئيسة في السرد حسب، بل لأنها سبيل مهم من سبل بلوغ الواقعية والمنطقية أيضًا. وما من غوص في الواقع إلا بتغريبه كما لا كشف لمخبوءاته سوى بجعله إيهاميًا من ناحية ما هو موجود فيه أو غير موجود كما لا اصطياد للظواهر والدلالات إلا بالتحليق عاليًا بعيدًا عنه والنظر إليه بمنظار تلسكوبي يقرِّب الدقائق فتبدو كبيرة ويجمع الفوراق فتظهر واحدة برؤية بانورامية.
ولا صحة في القول بأنّ الخيال يشوه الواقع ويزيفه ولكن من الصحيح القول إن الواقع يصنع الخيال ويمده بأسباب التخليق والتخريف. وكلما كان الواقع شائكاً كان السارد أكثر قدرة على أن يكون صانعًا ماهرًا للخيال وبلا حدود. ومن هنا كانت المجتمعات الأكثر اضطهادًا واستغلالاً هي الأمهر في صنع المتخيلات وكان سرّادها محتدمين باللامحاكاة في تناول مسائل الذات والمجتمع.
هذه التلازمية في الانطلاق اللامحاكاتي للواقع هي التي عليها يراهن السرد غير الطبيعي ويسعى إلى بلوغ أدق تجلياتها والامتياح من كل ينابيعها. وقصص الأطفال واحدة من تلك الينابيع التي يمكن من خلالها الاغتراف من نهر الخيالية الجاري بكل ما هو طفولي واستحالي، والوقوف على نظام سردها وعناصره التي لا تختلف شكليا عن العناصر التي تحكم نظام سرد القصص الواقعية من ناحية وجود سارد ومسرود ومسرود له ولكنها تختلف موضوعيًا من ناحية الفواعل السردية غير الحية أو الجامدة التي يكون بمقدورها ممارسة ما لا تمارسه نظائرها في السرد الطبيعي مثل الجبل وهو يتحرك، والبحر وهو ينطق، والطير وهو يرتدي بدلة.
وسنخصص المبحث الآتي للوقوف على الخيالية وكيفيات تموضعها في قصص الأطفال مع التمثيل بعينات سردية مختارة.
الخيالية وعناصر البناء
عُرفت الخيالية في أقدم القصص الشعبية، ومنها قصة (إبليس والفلاح) وكيف يتفقان على زراعة الارض فيخدع أحدهما الآخر أو قصة (مؤتمر الأشجار) التي فيها تتكلم الأشجار وتشكو وتتساءل ثم تتفق على جمع قواها ضد الإنسان (لمَ ياأخواتي لا نذهب إلى أخواتنا الشجرات الكبيرة فردت الكبيرة نحن نعاني الجور نفسه فردت إحدى الشجرات المعمرات.. إن الانسان لا يستطيع أن ينال منا شيئًا لو لم تقع الخيانة فيما بيننا فقالت إحدى الشجرات: من الخائن بيننا؟ فقالت المعمرة الخيانة من كلا الجانبين. انظرن إلى المنشار أو الفأس تجدن مقبضه من الخشب، فمن أين جاء به لولا الخشب لما استطاع أن يعمل فينا تقطيعاً..)6
ولقصص الأطفال غايات سيكولوجية تتعلق بالنمو السليم للطفل واجتماعية التصرف والتحلي بالسلوك الحسن وأخلاقيات التربية الحميدة. ولكن قبل ذلك كله التسلية التي تستفرغ ما لدى الطفل من طاقة في الإنصات والاستماع واستثمارها في توصيل الخبرات وغرس القيم في نفوس الأطفال. وكلما بدا السارد عارفًا مبدئيات القص الشفاهي أو الكتابي، كان ناجحا في أن يؤثر في الطفل بشكل عفوي حتى أن الطفل قد ينام قبل إكمال القصة، مما يعني أن صدق الأحداث وكذبها وحقيقة الشخصية وزيفها لا يهمان الطفل الذي يستسلم بكل جوارحه للسارد واثقا بسرده الثقة كلها.
وأولى تبعات الحكي الشعبي أن السارد غالبًا ما يكون امرأة (أم أو جدة) (هي مستودع لا ينضب من الحكايات.. وبعض حكاياتها تكون مفضلة لدى الاطفال فيطلبون منها متوسلين إعادتها وقد تستغرق الحكاية ليالي عدة تتخلل تلك الليالي طبعًا بعض المأكولات كالزبيب والحمص والحب والجوز واللوز مع التمر أو أي فاكهة موجودة في ذلك الموسم شتاء أو صيفا كالبرتقال والرمان)7.
وكلما استفزَّ السارد أسماع الصغار، كان سرده مشوقًا وتأثره قويًا ينتهي بالراحة والانشراح فتسكن نفس الطفل سايكولوجيًا وينام مستكمِلاً في الحلم ما كان قد استفزه واستنفر له طاقاته في اليقظة. وبذلك يكون التخييل فعلاً حاضرًا معه بعمق ومحبة، ولا فرق عنده بين اليقظة والمنام أو الحقيقة والخيال.
والقص بالنسبة إلى الطفل كلام، والقاص هو المتكلم الذي يوجه المسرودات حتى لا فرق بينه وبين السارد. وما دام القاص هو السارد والمسرود في نظر المتلقي/الطفل، فلا قلق أو عدم ارتياح من أن يكون في القصة ما هو غير طبيعي ولا حقيقي، فالمتكلم مؤتمن والطفل مصغ ببراءة ونقاء، وليس في ذهنه أية مرجعيات أو محددات أو خبرات، بل هو صفحة بيضاء متقدة، وهو ما يجعل الطفل منشدًا بقوة إلى ما يسمعه أو يقرأه من قصص تستفز ما عنده من طاقة فيتصاعد خياله مع تصاعد السرد وتحتبك نفسه مع احتباك الأفعال ثم تقل حدة الاحتدام تدريجيًا مع انفراج الحبكة، فتهدأ جوارحه المستنفرَة بكل طاقتها.
من هنا نفهم سبب هيمنة الخيالية على سرديات الطفولة وندرك أهمية ما يترتب على هذه الهيمنة من غايات، تسعى هذه السرديات إلى تحقيقها كأن تكون الغاية سيكولوجية أو تربوية أو تعليمية أو أخلاقية أو دينية أو اجتماعية أو تاريخية. ولا مناص من القول إن التركيز على الخيالية كوسيلة من وسائل هذه السرديات لا ينفي الدور الجوهري الذي تؤديه عناصر السرد الأخرى لكنه يجعل العنصر المركَز عليه دون سواه خيالياً ذا وظيفة تتحدد بحسب درجة التركيز. ولعل أكثر العناصر السردية تركيزاً على الخيالية ما يأتي:
1) الأحداث
إن التركيز الخيالي على الأحداث في قصص الأطفال يجعل الغايات المراد تحقيقها في نفس المتلقي الطفل سيكولوجية بمحمولات عاطفية وأخلاقية لها صلة بتربية الذات وتنمية الشخصية وإكسابها عادات سلوكية حسنة وتصرفات اجتماعية لائقة.
وتستفز الأحداث، سواء كانت أفعالاً طبيعية أو غير طبيعة، فكر الطفل محرِّكة كل ما لديه من طاقات بريئة واندفاعات فطرية. وإذا كانت الأحداث بعيدة عن الواقع الموضوعي، فإن ذلك يعني أن السارد أكثر قدرة على تحريك هذه الطاقات والاندفاعات، موجها إياها توجيها يلائم براءة الطفولة ويماشي طبيعتها المجبولة على الخير. فتحتدم الحبكة السردية وتكون الرجاحة لكفة الخير ثم تنفرج وقد حققت القصة بغيتها في استفزاز مشاعر الطفل واستنفار طاقته وتهذيب نفسه باتجاه أخلاقي أو اجتماعي معين.
وهو ما نجده في أحداث قصة (القرية السعيدة) التي فيها النهر هو الفاعل السردي غير الطبيعي ويحمل اسم النهر الجميل ويجري وسط القرية بمائه العذب مرسلاً (أنغامًا شجية من مياهه الجارية تبعث الفرح والسعادة في النفوس وأغرب ما في هذا النهر أنه يتوقف عن الجريان ويصير ماؤه سمًّا قاتلاً إذا دخل القرية السعيدة أي غريب يحاول إيذاء أهلها السعداء)8 وهنا تحتدم الحبكة بظهور قطاع طرق يدخلون القرية ويحرقون ويسلبون فيرحل الناس عن القرية (وعندما شاهد النهر الجميل ما حلَّ بالقرية توقف عن الجريان وصارت مياهه سمًّا قاتلاً) ثم يظهر فاعل سردي آخر غير طبيعي هو (الخيمة) و(في يوم من الأيام سأل الأطفال خيمة كانت ترقد حزينة بين الخيام متى سنعود إلى قريتنا يا خيمتنا الحزينة؟ فقالت الخيمة الحزينة ستعودون أيها الأولاد إلى القرية السعيدة عندما تنمو بدل أذرعكم هذه أذرع من حديد وبدل صدوركم هذه دروع من فولاذ لا يمزقها رصاص البنادق والرشاشات).
ولا ينفرج الاحتدام السردي إلا بالخيالية، فلقد نمت - بفعل العزم والتصميم- الأذرع الحديدية والدروع على صدور الأطفال فصار المستحيل ممكنًا وقد تمكن الطفل حسن من قتل اللص وكلّمه النهر الجميل قائلاً: (حقًا يا ولدي أنك شاب وذكي والآن قل ماذا تريد مني؟ فقال حسن أريد منك ان تعود إلى الجريان لأن أصحابي شباب القرية السعيدة بنوا قاربًا كبيرًا من أعواد الخيام وعاد النهر الجميل إلى الجريان وهاجموا العصابة المجرمة وعاد النهر يرسل أنغامه الشجية أثناء جريانه وعادت القرية سعيدة). أما الخيمة الحكيمة فتحولت إلى تمثال كبير يذكرهم بأن الإرادة هي الطريق إلى الحرية.
وكان السرد الطبيعي الكلاسيكي قد جافى هذا اللون من الحبكات لأن الطبيعة البشرية بالنسبة إليه ودعت البراءة، وهي غير مجبولة سوى على الشر، ومن ثم لا تنفرج الحبكة إلا وقد سقط البطل سقوطًا مريعًا وبطريقة تراجيدية مؤلمة، على أساس أن في السقوط استنهاضًا للخير. ومثل ذلك كانت السرديات الحداثية التي فيها النهايات مؤلمة لكنها فواتح لمزيد من المواصلة على طريق الكفاح والنضال والثورة. أما السرديات ما بعد الكلاسيكية ففيها ضاعت الطبيعة البشرية أصلاً واستنفدت طاقاتها الخيرة والإيجابية في الانتصار على الشر والزيف، وصار السرد تارة يحاكي الواقع عبر إلغاء دور الشخصية وتارة أخرى لا يحاكي بل ينقلب على السرد بالميتاسرد فتصبح اللعبة السردية مكشوفة حينًا وغامضة حينًا آخر.
وقد تبدأ القصة متوازنة ثم تفقد توازنها بالأحداث اللااعتيادية التي بها يصبح السرد مشوقًا وحيويًا، وهو ما نجده في قصة (مراكب السلطان) وتبدأ بأفعال طبيعية والحياة فيها متوازنة على وفق مسار سردي يتسم بالاعتياد (كان يا ما كان، كانت جالو ميناء في سالف الأزمان.. وكان كل امرئ في جالو يعيش مثل السلطان)9 ثم يتم التركيز على أفعال بعينها لا تحاكي واقعًا حقيقيًا، وأول هذه الأفعال الحلم الذي رآه السلطان فاستحكم على أهل جالو.
فيتخلخل توازن السرد وتدخل الخيالية بقوة إلى الحلم فيكون خارقياً بالكلب الأسود الذي أدى دور الفاعل السردي (كان الكلب فظيعًا ومنتنًا ومفقوء العينين، وكان يتراءى للسلطان دائمًا فوق التلال الرملية القاحلة التي تمتد وراء أسوار جالو. ويرفع رأسه القبيح ويعوي بجنون حتى تغرق التلال في أنفاسه الكريهة ثم ينطلق في أعقاب السلطان فيما تتدلى عيناه المفقوءتان فوق خديه)10، وقد اقضّ هذا الكلب مضجع السلطان ومنعه من النوم ومعه لا تنام البلدة أيضًا.
وهنا يكون الطفل في حالة اندهاش وقد انبثّت في جوارحه مشاعر الخوف لكنها بالمقابل تزيد من استنفار مخيلته فيتشوق أكثر.
ومع خيالية الأفعال الدرامية (يرفع/يعوي/تغرق/ينطلق/تتدلى) تتركز دينامية الحدث وينفرط وعي السلطان المصعوق بالحلم تدريجيًا فلا يميز صحوه من نومه، ويتماثل عنده الحلم واليقظة ويطلب المساعدة من رجلين غريبين نزلا بالبلدة هما العالم والفقي اللذان يسعيان الى إنقاذه مما هو فيه، كل بحسب طريقته.
وتحتدم الحبكة السردية بالرجل الأول الذي يقوم بكتابة حجابات وأدعية محاولا المساعدة عبر تأويل الحلم بالكلب الأسود اعتمادًا على ما قرأه في كتب السلف وسمعه من الأسياد وأصحاب السر الأعظم، متنبئًا بما ستؤول إليه أحوال البلدة جالو وهو خرابها مدة سبع سنوات (عندما يخترق الكلب الأسود داخل الأسوار ويصل إليك لكي يعضك في عقبك)11 ومن بعدها تعمر جالو بالمراكب التي يصنعها أهلها.
ويقوم الفقي بمساعدة السلطان من خلال زراعة فسائل النخل حاملاً جراب النوى (يحفر الرمل بأظافره ويدس النوى في الحفر ويحمل لها الماء في كفيه من البئر)12 وبسبب طبيعية هذا الفعل لم يكترث له أحد. وصدّق السلطان نبوءة العالم فنام ولم يعد يحلم بالكلب الأسود وتكريمًا له زوّجه ابنته وحين عاد السلطان يحلم بالكلب الأسود خرجت المراكب مسرعة لكن المفارقة صادمة؛ فلقد هبت عاصفة حامية جففت البحر وأقعت مراكب السلطان فوق الرمال. وبخطأ التنبؤ تنفرج الحبكة ويتضح أن العمل هو أساس الحياة وليست الفراسة أو الرجم بالغيب.
ولكي يستوعب الطفل الغاية من وراء القصة يعمد السارد إلى مساعدته بطريقتين تمكنانه من ادراك ما لا يستطيع وحده ادراكه، كونه ما زال غير مهيأ لربط الأسباب بالنتائج: الطريقة الأولى أنه يكرر الحدث بجملة ما أو مقطع معين مثل (هذا ما كان من أمر الغريب الذي دخل جالو من الباب الغربي راكبا بغلته البيضاء)13 والطريقة الثانية، يكثر توظيفها في السرد غير الطبيعي، وفيها يقوم السارد بالتدخل مذكرًا السامعين الصغار - على طريقة الحكاء القديم - بأول القصة ورابطًا إياها بآخرها كقوله: (فليسمع الأطفال ليسمع الرجال الصغار الواقفون فوق كتلة رملية قاحلة لكي يشاهدوا مراكب السلطان)14 أو يستدرك محفزا الصغار على التفكير وبالشكل الذي يجعلهم يقتنعون بأن ما هو غير معقول يمكن له أن يكون ممكن الوقوع كالقول: (ولكن السلطان لم يصدق لأن المراكب لا تبحر في الرمال ولأنك إذا أدرت ظهرك لجالو فإن جالو ستدير لك ظهرها)15.
2) الشخصية
إن ما يجعل شخصية الجان موظفة بكثرة في قصص الأطفال، هو تركيزها على الخيالية التي تجعل الجني متصفًا بصفات آدمية خارقة، توظف بشكل شرير. وفي قصة (بائع الملح الطيب القلب) يؤدي التركيز على شخصية الجني الى تصعيد الحبك وتعقيده بأفعال خارقة، بسببها تنقلب حياة الزنجي وزوجته من القناعة والرضا إلى البؤس والتعاسة.
والقصة تبتدئ على طريقة المحكي التراثي بـ(كان يا ما كان، وكان في مدينة بنغازي زنجي عظيم طويل القامة يطوف الأزقة بأكياس الملح)16 ولا غنى عن هذا الافتتاح في قصص الأطفال وبما يدلل على أن الأدب الشعبي مصدر مهم من مصادر الخيالية في أدب الأطفال عمومًا وقصة الطفل خصوصًا.
ويتصاعد التركيز على شخصية الزنجي، أولاً كفرد مسالم وطيب (كان يطلع لهم لسانه الشديد الحمرة ويصدر به صوتًا يشبه نقيق الضفدعة حتى يغرق الأطفال في الضحك.. متمايلاً مثل نخلة هائلة الارتفاع والرسوخ)17 وثانيًا كفرد مضطهد من قبل زوجته التي تؤدي دور الشخصية المساندة لكن بسلبية، فهي دائمة التقريع له توبخه على بيعه الملح محاولة إجباره على أن يعمل مصارعًا عند السلطان ليجني ثروة كبيرة. ثم تظهر شخصية الجني فيركز عليها السارد أيضًا كي تؤدي الدور السلبي نفسه الذي أدته الزوجة ويباغت الجني الزنجي فجأة (بدأ يصر على أسنانه ويحدّث نفسه بصوت عال عندما رفع رأسه شاهد جنيًا مديد القامة مدبب القرون والأظافر يقف على كوم الملح)18.
وبتركيز السارد على قول الجني (اللؤلؤ نعمة من الله) أو (أنت تكاد أن تقتلني بالضحك) تكون الخيالية قد صعدت وتيرة الحبك بسلبية. وبتكرار هذه الأقوال يساعد السارد الطفل على ربط الأحداث بعضها ببعض كي يتمكن من المتابعة. بمعنى أن مدارك الطفل الذهنية غير مؤهلة بعد للتحليل والاستقراء، ومن ثم هي بحاجة إلى التكرار والتذكير.
وتتأزم الحبكة وقد رفض الزنجي عرض الجني قائلاً: (ماذا أفعل باللؤلؤ أنا رجل يبيع الملح) فيعيد الجني القول محاولاً إغراء الزنجي بهذه الثروة العجيبة التي يملكها من اللؤلؤ: (أنا جئت لكي أتحداك للصراع ولكنك تكاد أن تقتلني بالضحك.. أيها الزنجي نعمة من الله اللؤلؤ النبيل الذي يشبه بلورات الملح نعمة من الله فهل تحب أن تصارعني مقابل حفنة من اللؤلؤ)19.
وتنفرج الحبكة وقد وقع الزنجي في الشرك فيطمع باللؤلؤ ويقبل الرهان فاقدًا ثقته بما كان يقوله من أن الملح نعمة من الله. ولكي يوصل السارد إلى مستمعيه الأطفال إشارته الاستباقية لما سيحل بالزنجي من مأساة فإنه يلجأ إلى التركيز على شخصية جديدة محايدة وبريئة هي (النجمات الصغيرة الباهتة) التي تدس رؤوسها في السحب مذعورة وتذهب بعيدًا عن حقل الملح ويظل دورها مقتصرًا على المراقبة (وأخرجت رؤوسها من وراء السحب وطفقت تراقب حقل الملح مشدوهة)20 وهي بتمثيلها هذا الدور المحايد تكون قد حققت المزيد من التشويق والربط بين ما كان من خير وما سيأتي من شر، يكون الزنجي ضحيته وهو يتصارع مع الجني مرة (كضبعين مجنونين) ومرة أخرى (مثل نخلتين سامقتين تتناطحان في قبضة العاصفة) ولأن بغية الجني هي صرف الزنجي عن أداء عمله، لذا تنقلب حياة الزنجي إلى نكد وشقاء وقد خسر طيبته ومعها يخسر تحصيل قوت يومه. أما زوجته فتبدو أكثر شرًا وتوبيخًا له.
وتستمر سلسلة التحولات اللامعقولة في حياة الزنجي وكل مرة يظهر الجني المدبب القرون والأظافر يعود مجددًا الصراع غير متكافئ بينه وبين الزنجي الذي ينتهي به الحال إلى الضحك على نفسه بدلاً من أن يضحك الجني عليه (أنا مجرد زنجي بليد مضحك)21 وتنفرج الأحداث وقد قرر الزنجي قتل الجني (مثل صخرة في أعماق كهف جبلي.. بدأ الجني يغوص في اتجاه الأرض حتى ركع على ركبته وطفق ينحني إلى الوراء)21.
وتكون المفارقة في خاتمة القصة صادمة فلقد غلب الجني الرجل الزنجي وساد الصمت بديلًا عن الضحك وانقلبت حياة الزوجة التي صارت تبيع الملح. وهنا يظهر صوت أحدهم وهو يحذر من مغبة الطمع (وسمع أحدًا ما يقول لقد كان صوتًا صادرًا من كوم الملح ولكنه كان صوتًا مألوفًا لديه وقد سمعه يقول له لا تدعه يمسك عنقك ادفعه إلى الوراء إن كوم الملح خلفه مباشرة)23.
وليس هذا الصوت سوى صوت السارد الذي صار مثل الحكاء ينبه ويحذر.. موصلاً رسالته الأخلاقية بأن القوى الخفية مهما كانت مخيفة وعظيمة، فإنها لن تتمكن من التأثير على إيمان الإنسان بمبادئه، وأن الخير والطيب وحدهما يحققان السعادة التي بها يتحول غير المعقول إلى معقول (كانت امرأة الزنجي الغاضبة تجر وراءها الحمار وتصرخ بإعياء ملح ملح.. ولكن الناس الذين اشتروا أكياس الملح في ذلك اليوم انتقلوا جميعًا من الأحياء القديمة.. فماذا أقول لكم إن الطموح يستطيع أحيانًا أن يحيل الملح إلى لؤلؤ ولكن الإيمان وحد يستطيع أن يبيعه)24 وبهذا التحصيل الأخير يكون السارد قد قدم خلاصة جاهزة تناسب مدارك الطفل ومستواه الذهني.
وهذا التركيز على الشخصية غير الآدمية يستعمل بكثرة في السرد غير الطبيعي وهو مألوف أيضًا في القص الشعبي الذي عادة ما تنفرج حبكاته بالمفارقات العجيبة والمستحيلة.
ومن أمثلة القصص التي فيها يكون التركيز على خيالية الشخصية الآدمية قصة (أحسن لص في المملكة) التي فيها تتبدل أحوال اللص حسن البصري بطريقة غير منطقية عن طريق شيء جامد هو الياقوتة التي تلعب دور الفاعل السردي. ويفتتح السارد قصته مركِّزا على لا طبيعتها (من القصص غير المعقولة التي ترويها العجائز في بنغازي أنه لما مرض شيخ اللصوص وأحس بدنو الأجل جمع لصوص المملكة)25 وخوف شيخ اللصوص من تفرق اللصوص كرعية بلا راع مثل غنم بلا كلب هو الذي يقود الى التركيز على خيالية شخصية اللص حسن البصري الذي يكسب رهان سرقة ياقوتة تاج السلطان، ولكنه لا يتربع على عرش اللصوصية ولا يكون ولي العهد.
والسبب الياقوتة التي تسحره كلما أخرجها من الكيس، فيأخذ بالضحك وهو يجد معها ورقة صغيرة بإمضائه (لما امسكها بين أصابعه ونظر إليها في ضوء القمر وشرع يضحك مرة أخرى)26. ومرة ثانية حين أعادها إلى الكيس فوجد بداخله ورقة صغيرة وقد كتب عليها وبإمضائه أيضًا (علمناه الصلاة سبقنا على الجامع.. كان اللص الواسع الخبرة يتوقف لكي يضحك حتى يستلقي على قفاه كلما ظهرت بباله حكاية الزير)27 ثم مرة ثالثة (كانت الياقوتة تلمع بين أصابعه في ضوء القمر المتسرب من فوهة في السقف.. بعد أن وضع بداخلها ورقة صغيرة تقول بالحرف الواحد: وهل يبرئ الله من ذي مكيدة أو صاحب علم إلا فوقه عالم صدق الشاعر بإمضاء الزناتي خليفة)28 وتصل خيالية اللص الضاحك إلى ذروتها وعندها يخيب ظنه بالياقوتة التي بدلاً من أن توصله إلى الرئاسة انتهت به إلى التعاسة.
وقد يعمل استخدام الرسوم والصور في أثناء القص على تصاعد الحبكة وازدياد الخيالية كما في قصة (الرسوم الأولى) وساردها طفل في الصف الأول الابتدائي، وتبدأ القصة طبيعية وقد طلب المعلم من الطفل أن يرسم شيئًا (فسألته وأنا حيران ماذا أرسم يا أستاذ؟ قال: أرسم شجرة فخفت وأخذ رأسي يدور وحاولت أن أتذكر شكل الشجرة وأخيرًا رسمتها بهذا الشكل: (شكل شجرة) استغرب منه المعلم وقال هذه ليست نخلة ألا تعرف الفرق بين النخلة والشجرة؟).
ولا طبيعية هذا السؤال تتأتى من أن الطفل يرى ما يرسمه شيئًا حقيقيًا (الشجرة، العصفور، البيت، الرجل، المراة، الطفل) والمفارقة أنه يرى في نومه هذه الأشياء حقيقية أيضًا (والآن يجب أن أنام وفي أثناء نومي حلمت ببيت كبير جدًا تحيطه غابة من أشجار وعليها آلاف العصافير)29. وما يضمن للشخصية خياليتها هذا التكرار في جملة (وأخيرًا رسمتها بهذا الشكل) وقد أدت الغرض منها وهو تشويق الصغار وتنبيههم إلى القصة من جانب، وحملهم على متابعتها من جانب آخر.
3) الزمكانية
قد تنصبُّ الخيالية في قصص الأطفال على عنصري الزمان والمكان، مقدمة صورة مختلفة للعالم المادي وبتصورات استعادية ترجع للوراء أو استباقية تتقدم نحو المستقبل لا بقصد المتعة والإثارة عبر كسر الحاجز بين الماضي والحاضر حسب، بل أيضًا بقصد الإدهاش بصنع أمكنة عجيبة وغريبة في شكل مدن أشباح أو كهوف مليئة بالكنوز أو قصور تحتشد بالغرائب. وهو ما نجده في القص الشعبي الذي فيه تعمل الخوارق الزمكانية على تحويل الأحداث والشخصيات من الاعتياد إلى اللااعتياد. ولعل أقدم أشكال هذه الزمكانية نجدها في أدب بلاد وادي الرفدين (وعلى هذا فإن المرء يتوقع أن يجد بقايا ترانيم السرير وحكايات تسلت بها البشرية في عهد طفولتها)30.
وفي قصص الأطفال تكون الأوصاف الزمكانية موغلة في الخيالية وبموضوعات ذات صلة بالطفولة، تساعد الصغار على توسيع مخيلتهم إزاء البيئة من حولهم. ولا خلاف في أن الوصف تكنيك مهم من تكنيكات القصة القصيرة لكنه في قصص الأطفال يمتح من الخيال العلمي والأدب الشعبي كثيرًا من الصور فيكون الحدث خارقًا المعتاد بالتخليق والتحوير ويكون البطل غريبًا مثل روبوت أو حيوان ناطق أو رجل مثل طرزان أو سوبرمان أو وطواط.
ومن ذلك قصة (عن النسر السحري الأبيض) التي من عنوانها يكون الوصف حاضرًا وهي تبدأ بتحديد زمكاني طبيعي (كان يا ما كان وكان ثمة ففي ذائع الصيت في جامع الحدادة)31.
ومع تصاعد الحبكة تتضح الخيالية الزمكانية ممثلة بالكنز الذي فيه مرآة سحرية ويخاطبها السارد بجملة يكررها (أيتها المرآة المباركة يا بحيرة الخير والنعمة)32 والغاية كما أسلفنا هي مساعدة الطفل على الربط ومتابعة الأحداث. ومع وجود المرآة السحرية يقوم الفقي بأفعال عجيبة بمجرد أن يغمض عينيه ويحلم، يجد نفسه مرة يطير ومرة أخرى يجد أميرة جنية.
ومثل ذلك قصة (العظم وراقد الريح) التي فيها يكون التركيز على المكان/الجحيم كمدينة يحرسها الشيطان وهو يضحك على الداخلين فيها. وينقل السارد الأحداث بزمانية تدلل على استمرارية الفعل الخيالي وبلا نهائية مكانية (كان يقف ذات يوم كعادته أمام بوابة الجحيم.. وكان يضحك ملء شدقيه ويهز ذيله القبيح العاري من الشعر..أنا القي شبكتي في دار الدنيا وأعود بها كل يوم مليئة بالخنازير.. كان ضحايا الشيطان يبكون من الندم)33 باستثناء رجل قصير القامة يلبس طاقة حمراء أثار حفيظة الشيطان بتفرجه على هذا المكان المخيف من دون استغراب (فسأله بسخرية: قل أيها المواطن هل أعجبتك الجحيم؟.. قال لا ومد يده إلى طاقيته واخرج عقب سيجارة وقال لماذا تريدني ان ألعنك أنت لم تتسبب في ذهابي إلى الجحيم ان امرأتي وحدها هي التي فعلت ذلك )34.
وتزداد الخيالية بالزمان/عيد الأضحى وبالمكان/ مدينة مضاءة وأوصاف شريرة (أنت مخلوق كريه الرائحة مغرور مضحك فجلس الشيطان من فرط الدهشة ثم شرع يهز رأسه.. طار الشيطان فوق مدينة بنغازي.. وضع يده على أنفه وقرر أن يهبط)35 . وتكون أوصاف نساء المدينة أكثر شرًا فهن وضعن في الجحيم أكثر مما وضعه الشيطان.
وتتعقد الحبكة بهبوط الشيطان عند بيت الحمّال مسعود بن تفاحة وامرأته تطلب منه أن يسرق نعجة (فقال الشيطان في نفسه هذا الحمّال لا يستطيع أن يسرق ذبابة.. كان الشيطان يجلس على حافة الجدار ويضحك بملء رئتيه.. مطت المرأة شفتيها ولوحت بيدها في الهواء ثم أطلقت صرخة عالية على حين غرة)36. وبعد أن أوقعت المرأة زوجها الحمّال في مغامرات (ألم أقل ذلك إنني أستطيع أن أخرجك منه أمام القاضي نفسه أيضًا يا زوجي العزيز من قال لك إن راقد الريح يلقي العظم في الكرشة).
وليس الحمّال سوى الرجل قصير القامة نفسه الذي وجده الشيطان عند بوابة الجحيم، وتنفرج الحبكة بخيالية زمكانية فيها: الأفعال مضارعة والأمكنة جحيمية وبينهما الشيطان (لم يضحك ملء شدقيه.. وظل يراقب الحمال الذي وقف صامتا في مقدمة الطابور ووضع يديه في جيوبه وشرع يتفرج على الجحيم)37.
وهنا يتدخل السارد قائلاً: (لكن الشيطان كان مخطئًا كعادته في التنبؤ بسلوك الناس في ينغازي)38 وبتكرار هذه الجملة بحذافيرها يذكر السارد الطفل بأحداث القصة. ولا يكون في التكرار ملل، لأن الطفل بحاجة إليه، كي يدرك ما ستؤول إليه الأحداث لاحقًا. وليس التكرار بالأمر الجديد في قصص الاطفال، بل عرفته الحكاية منذ أقدم العصور وخاصة في ملحمة جلجامش.
وفي قصة (غلطة جحا) تكون الخيالية الزمكانية هي السبب وراء تحول السرد من الواقعية إلى اللاواقعية وهي تبدأ على طريقة الحكي الشعبي بـ(قيل والله أعلم بما يقال إن جحا الشرق لما ضحك على ذقون أهل بغداد ونال منهم غاية المراد وباع لهم الطين بدل العسل وغشهم في العطر بماء البصل أدركه عفاكم الله الزهو والغرور وظن في نفسه الشطارة وان أحدًا لا يغلبه في الدهاء والمهارة)39. ويكون التحول في الحبكة بخداع جحا المغرب جحا المشرق من خلال مرأى ثلاثة جمال محملة بصناديق الذهب والحرير الهندي (سقط جحا من الحيرة.. فقد كان يعرف أنه لا يملك قافلة على الإطلاق)40.
وفي قصة (قوت العيال) تظهر من داخل السيرة الهلالية شخصية متخيلة هي شخصية الزنجي المتخيل مديد القامة الذي مهمته معاقبة رواد المقهى الذين يعترضون على قارئ السيرة قائلين: (أنت مخطئ يا سيدي) وتحتدم الحبكة بزمكانية الحاضر/المقهى، وفيهما الزنجي يصرخ بكلمات نابية وحانقة مثل (أيها الرجل الدرويش/أيها المخلوق المنتن أنا برئ منك إلى الله إنني سأكسر رأسك)41. . ليس ذلك حسب بل أنه (خنق أحد قراء السيرة ذات مرة وكان يرتاد كل المقاهي التي تقرأـ بها السيرة ويجلس صامتًا فاغرًا فمه عاقدا ذراعيه العظيمتين على صدره)42.
وينفرج الاحتدام السردي حين يصف السارد رأس الزنجي وقد انطلق (مثل حزمة من الرماح السوداء وانغرس مرة واحدة في جسد الشحاذ المتكور في الركن)43 وتساهم اللغة الحوارية والوصفية بالإيماءات والأسماء في منح الحدث خيالية زمكانية تعكس طبيعة الصراع المحتدم بين الشخصيات.
الخاتمة
إن لقصص الأطفال خصوصية كونها أحد المنابع التي منها يستمد السرد غير الطبيعي موضوعاته وتتجسد في عناصر القصة القصيرة (الأحداث والشخصية والزمكانية) وبشكل يتلاءم ومستوى الطفل الذهني. فإذا كان التركيز على الأحداث، فإن المحمولات ستكون سيكولوجية ولغايات أخلاقية. وإذا كان التركيز على الشخصية فإن المحمولات ستكون عاطفية لها صلة بتنمية الذات وتدريبها على مواجهة الحياة بخيرها وشرها. وإذا كان التركيز على الزمكانية، فإن المحمولات ستكون رمزية موجهة نحو تنمية القابليات اللغوية والإبداعية داخل الطفل.
ولا ضير في أن يجمع السارد أكثر من تركيز داخل القصة الواحدة ولكن المهم أن يراعي مدارك الطفل وقدراته في التركيز ومدى فاعليته في استيعاب المحمولات الموضوعية وفهمها. وقلما نجد قصة من قصص الأطفال لا تعطي لعنصر سردي بعينه تركيزًا ما داخل القصة كما أن من غير الوارد أن تكون لعنصر سردي الدرجة نفسها من التساوي مع سائر العناصر السردية الأخرى.
وتظل الخيالية هي الطابع العام والمشترك داخل قصص الأطفال، إذ بالخيالية يصطبغ السرد فيكون لا معقولاً، وتتلون الشخصية فتبدو غير واقعية، ويتغاير الزمان والمكان فيغدوان غير منطقيين، وتتنامى في اللغة الواصفة والدرامية والحوارية استعاراتها فتتجلى الاستحالة من خلال دلالاتها.
الهوامش:
1 - الأمير الصغير رواية، أنطوان دو سانت اكزوبري ترجمة يوسف غصوب، د. ت، ص1.
2 - الرواية، ص2
3 - الرواية، ص5
4 - الرواية، ص26
5 - الرواية، ص27 وتنتهي الرواية وقد اختفى الأمير الصغير فيناشد الكاتب القراء الكبار (فإذا أقبل عليكم ولد.. شعره بلون الذهب وأحجم عن الجواب كلما سألتموه عرفتم انه هو فارفقوا عندئذ بي ولا تتركوني وكآبتي بل بادروا بالكتابة إليّ واخباري بعودته) الرواية، ص51.
6 - الحكاية الشعبية العراقية دراسة ونصوص، كاظم سعد الدين، (بغداد: دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979)، ص133.
7 - المصدر السابق، ص8.
8 - القرية السعيدة قصة، ماجد أحمد العزي، مجلة مجلتي، العدد الخامس، إصدارات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1970.
9 - من قصص الأطفال، الصادق النيهوم، (بيروت: تالة للطباعة والنشر، ط1، 2002) ص11.
10 - القصة، ص11ـ12
11 - القصة، ص14
12 - القصة، ص16
13 - القصة، ص16
14 - القصة، ص19
15 - القصة، ص20
16 - القصة، ص21
17 - القصة، ص21
18 - القصة، ص23
19 - القصة، ص23
20 - القصة، ص29
21 - القصة، ص27
22 - القصة، ص28 ـ29
23 - القصة، ص29
24 - القصة، ص30
25 - القصة، ص31
26 - القصة، ص35
27 - القصة، ص35
28 - القصة، ص37
29 - الرسوم الأولى قصة، سهيل نادر، مجلة مجلتي، العدد الأول، اصدارات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1969.
30 - الحكاية الشعبية العراقية، ص87 والقول لليدي دواور في دراستها (الحكاية الشعبية في الفلكلور العراقي) ترجمة كاظم سعد الدين. ألقتها في محاضرة عام 1930 في الجمعية الآسيوية المركزية وترأس الجلسة برسي كوكس.
31 - من قصص الأطفال، الصادق النيهوم، ص41
32 - القصة، ص42 وص47
33 - القصة، ص49
34 - القصة، ص50
35 - القصة، ص51
36 - القصة، ص56
37 - القصة، ص58
38 - القصة، ص52 ويكررها ص55
39 - القصة، ص59
40 - القصة، ص64
41 - القصة، ص80
42 - القصة، ص75
43 - القصة، ص80
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجسد الأنثوي بين الانسلاخ وأدًا والبزوغ سردًا .. قراءة في قصة قصيرة لعلوية صبح
- الشك بين تصارع الأضداد والغوص في التساؤل .. قراءة في رواية «جمرات من ثلج»
- التداخل الأجناسي والتغاير الأسلوبي في القصة القصيرة جدًّا
- السرد الروائي بين التاريخي والتخييلي في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- القصة القصيرة وبروتوكولات السرد ما بعد الحداثوي معاينة في مجموعة سايكو بغداد لرغد السهيل
- التخصيب السردي في رواية (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيم
- التوحد السردي موضوعًا وتقانة في رواية ( الطيف) لهيثم بهنام بردى
- الكينونة المؤنثة بين أمل العودة وخيبة الضياع قراءة في قصيدة الأم والطفلة الضائعة
- رواية التاريخ .. معاينة في التمثيل الثقافي
- مسارب المبادرة في التصعيد الدرامي في قصص (حافات الحلم)
- الأخلاق بين أفلاطون والفارابي
- سطوة الحكاية وسرديات الاستعادة في رواية (في بلاد النون)
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- رواية التاريخ: المعطيات المعرفية
- الحرج النقديّ في (السرديّة الحرجة) للدكتور عبدالله الغذاميّ
- الجنون بوصفه مهيمنة فكرية في قصص لطفية الدليمي
- طه حسين والبحث الحفري
- البعد الثالث للشخصية في قصص سعدي المالح
- جيرار جينيت والسرد ما بعد الكلاسيكي
- أحمد فارس الشدياق: ريادة سرديّة.. تُنقد بإتباعيّة
- تراثنا السردي: من التناص إلى الأقلمة
- ثلاثة مآخذ نقدية على برسي لوبوك
- قصص الأطفال والسَّرد غير الطبيعيّ
اكتب تعليقك