التداخل الأجناسي والتغاير الأسلوبي في القصة القصيرة جدًّاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-05-11 20:52:47

أ.د. نادية هناوي

العراق - بغداد

النص القصصي القصير جدًّا نص مراوغ نظرًا لما يتمتع به من سمات نظرية لكنها مموهة تطبيقيًّا بما يجعل كتابة القصة القصيرة جدًّا ليست يسيرة كما أنها ليست عسيرة..

 ولا بد في بناء أي نص يوصف بأنه قصة قصيرة جدًّا من حمولات إبداعية على مستوى الشكل ومحمولات فكرية على مستوى الموضوع، وقد اختلف المنظرون والمبدعون في تلمس الحيثيات وتباينوا في توصيف طبيعة الآليات وإشكاليات العمل وتغايروا في مقارنة أجناسيتها ومكاشفة مساراتها ومسوغات اشتغالها.

ومن خلال تفحص عينة من مجموعات قصصية عراقية قصيرة جدًّا يتبين أن لهذا الفن معيارية بنائية صاعدة أو نازلة أو دائرية مفعمة بلحظة التحول والإدهاش أما بالتواتر أو التتابع أو التناوب، وبما يجعل التبئير يتجه نحو التوهج بالمفاجأة مع توظيف إحدى التقانات كالمفارقة والعجيب والحلم والفانتازيا والمونولوج والمونتاج مع اعتماد الحذف والوصف والتضاد.. وغيره.

ولأن القصة القصيرة جدًّا هي فن اللحظة لذلك يكون التأزم عبارة عن توهج على شكل لفتة أو نكتة أو نبضة أو لمحة مفاجئة تخرق معتادية الحدث القصصي المسرود لتبلغ به العقدة التي سرعان ما تنفرج بذات السرعة المفاجئة التي حلت بها، وهذا ما يجعل فاعلية التوصيل صادمة بسبب خصوصية اللحظة في ملامسة ذاتية كاتبها عاكسة عمق الإحساس الذي استودعه فيها.

وتسهم حساسية تواتر الوعي والمناورة وديالكتييكية التساؤل، وتضامن الإنساني وغير الإنساني، واستحواذ الدرامي في تصعيد السرد القصير جدًّا تمامًا، كما هو الحال في الرواية والقصة القصيرة، ولكن بمحدودية أكبر واختصار أكثر.  وكثيرًا ما تتشابه القصة القصيرة جدًّا مع قصيدة النثر، بوصفهما يقومان على الانزياح والاختزال، الذي به تتحقق الشاعرية، وهذا ما يجعل التضافرية الموضوعية والشكلية حاصلة لندرك ضآلة المسافة البينية بينهما بلا احتراز أو قصور أو مثلبة.. وهذا ما تؤكده نظرية التداخل الأجناسي، ومن موجبات هذا التلاقي ما بين القصة القصيرة جدًّا وقصيدة النثر أنهما يبغيان الدلالة لا الصوت، وإذ تراهن قصيدة النثر على السردية كعنصر تعضيدي للبناء الدلالي، فكذلك تراهن القصة القصيرة جدًّا على الشعرية انزياحًا بالكلمات واختزالاً في التعبير، تعضيدًا لسمة القصر والتلميح والإيحاء اللفظي، كما في قصة فيروز في مجموعة السلم لحنون مجيد (خدر الوردة تتبتل على وهج صباح بكر والحقل ينتشي بعطره الزكي السفح والجبل يتعانقان على مطر رهو والإذن ترنو إلى بغداد والتاريخ والصور) ص33. 

وإذا كانت هذه لمحات التلاقي بينهما؛ فإن نقاط الافتراق بين القصة القصيرة جدًّا وقصيدة النثر تتضح أولى بوادرها في أن قصيدة النثر تتخذ من الانزياح البياني غاية في حين تتخذ القصة القصيرة جدًّا منه مجرد وسيلة لتحقيق الإبهار المعنوي والإدهاش الدلالي.. ومن أمثلة ذلك قصة (ما كان حلمًا) في مجموعة التماهي لهيثم بهنام بردى، إذ تنزاح جملها برؤى شاعرية تسيح في المكان، فتصف كل جزئياته (الفضاء الموبوء بالعتمة والعطن والهواء الرطب والعناكب السادرة، يجثم على المناضد والتخوت، ويتسلل إلى ثنايا الوجوه المصلوبة على الجدران والمرايا والذكريات العتيقة والقامات المتلفعة بالدمائر والصايات والأحذية القطنية ورائحة التبغ الردئ، تفد إلى الداخل مضيئة الأرجاء ببريق عيونهم وأسنانهم، يتصالب الليل في الخارج...) ص55.

وقد تصبح القصة القصيرة جدًّا قريبة الشبه بالقصيدة الومضة، لكنها ليست مجرد بناء متشظ، كونها تميل إلى الالتحام والتكور ضمن بنائية اقتضائية لا تلقائية، تنم عن تجريب أساسه الاختزال والقصر، فتغدو القصة أقرب إلى التوقيع كما في قصة الحبال من مجموعة حجر غزة  لحنون مجيد (الحبال كثيرة أقصرها حبل الكذب) ص60 أو أقرب إلى الوعظ كما في قصة الحكمة من مجموعة الخيانة العظمى للكاتب نفسه (الحكمة في مخافة الله ومخافة الله في محبة الناس) ص46.

وإذا كان الشاعر في قصيدة النثر كائنا استعاريًّا يحول الألفاظ من بنيتها الأفقية إلى بنية شاقولية؛ فإن كاتب القصة القصيرة جدًّا كائن معني بالواقع وتفاصيله البسيطة والدقيقة ليعرضها بصورة إجمالية وجمالية معا عبر التركيز على مستويات التغاير الأسلوبي، وهذا هو سر كتابتها الذي يجعلها سهلة تنحصر في مساحة كتابية ضيقة ومع ذلك هي ممتنعة والسبب صعوبة التقانات الموظفة فيها والأساليب التي ينبغي استعمالها والاشتغال عليها.

فقد تستثمر القصة القصيرة جدًّا التلغيز كما في قصة أحجية من مجموعة وردة لهذا الفطور للكاتب حنون مجيد، والتي تدور بين المعلم وتلاميذه ليكون ختامها فكها وساخرًا (وقف أمامهم بكامل جبروت جسده، وألقى عليهم أحجيته كانت عن شيء كبير الحجم ذي خرطوم طويل..لملم وجهه المدمدم ورفع أصبعه مؤشرًا نحوه، وصاح بأعلى صوته: أستاذ أنت) ص126.

 وقد تمنح الأسطرة القصة القصيرة جدًّا طابعًا سحريَّا كقصة مارس من مجموعة السلم، التي تستحضر الشخصية الأسطورية مارس وهو ينقذ امرأة من مخاض عسير، لتكون الخاتمة (انفتح باب الحصن الشاهق، وخرجت منه أم عارية .. وخلفها كان مارس يتوثب كالرهوان يحمل بيديه قوسًا ونشابًا، وعلى كتفه اللدن العاري جراب سهامه)ص87

أو بتوظيف الفنتازيا التي تجعل النص مموهًا بواقعية إيهامية كقصة تقوض من مجموعة التماهي (.. إزاء كائن مستلق في زاوية مربعة بلا قدمين أو كفين وقد تدلت ذراعاه  المبتورتان على جانبي الجسد .. وهو يصدر حشرجة عميقة من داخله المعرش بالخواء) ص71، وتسهم الفنتازيا في تصاعد التخييل في قصة (عزلة انكيدو) ليبزغ كائن هلامي على شكل جسد مموه وسرعان ما يتلاشى في الفراغ بدراماتيكية، وكل ذلك في لحظة أو قصة (أخطاء) التي تدور حول معطى معنوي هو الخطأ لكن الكاتب يمنحه بعدًا فنتازيا فيجعله كالمهملات أو النفايات التي لا يمكن التخلص منها إلا بحرقها.

ومن التغاير الأسلوبي استعمال الترميز في القصة القصيرة جدًّا فتتكثف المعاني، ويتم توصيل تأثيرها إلى القارئ بسرعة، وقد يرد الترميز استعارة تتجسد عبرها الأشياء الجامدة، لتبدو حية كما في قصة السلم (يفرح السلم حينما يحس وقع أقدام مترفة جديدة ترتقبه ويسمع مثل كل مرة لفح لهفة عارمة تنتظر في أعلاه) ص16، وقد ترد الاستعارة تشخيصًا لغير العاقل من الأحياء الطبيعية كما في قصة (قاطع رؤوس) التي أسهم حذف كلمة الختام في تعزيز مفارقة الترميز الاستعاري في القصة (قالت الوردة للوردة: ضعي رأسك فهناك قاطع رؤوس أجابتها وامنعي عنه عبيرك فإن شمّنا فلن يغفل عنا، ردت لو كان يشم لما كان..) ص55.

أو باستعمال التضاد المعنوي والتضاد اللفظي وقد تتعاقب في كتابة القصة القصيرة جدًّا صنوف من الترميز أما بالفكاهة الكاريكاتورية كتقنية تضحك لتخترق الأعماق، وتحفز وتحرض، وتغير وهذه الغايات مختلفة عن الغايات، التي تهدف إلى التهريج والإضحاك المجاني، كما في قصة (لو أن لي) التي تكتنفها سخرية لاذعة (كان يغني لو أن لي ويسكت، وكلما سأله أحد وما الذي لو أنه لك سيجيب لو أن لي) مجموعة السلم 76 ، وأما بالتهكم أو بالمضاهاة أو بالنكتة كأسلوب فني يعزز الدلالة، ومن ذلك التساؤل عن تسمية البحر الميت بهذا الاسم في قصة (البحر الميت) من مجموعة مطر على رصيف الذاكرة لجابر محمد جابر وباستعمال الحوارية يأتي الجواب كنكتة "..البحر الميت مات بالسكتة القلبية" ص14.

وقد يتم اعتماد الصياغات اللفظية كالجناسات والتكرار والمقابلة من أجل معنى واحد لا معان عديدة وبتراتبية نحوية واحدة، يتم فيها التركيز على البناء الزماني للحدث، مع إغفال وجود الحبكة والمكان، فضلاً عن قصدية الكتابة السطرية الموحية بأنها نظم شعري، وهي ليست كذلك كما في قصة يموتون، ولا يموت لحنون مجيد:

(الملك الجبار يأكل ويشرب وينام ثم يموت

التاجر السعيد يأكل ويشرب وينام ثم يموت

العامل الشقي يأكل ويشرب وينام ثم يموت

الخادم الوفي يأكل ويشرب وينام ثم يموت

الخائن المحتال يأكل ويشرب وينام ثم يموت

الكاتب يقرأ ويكتب وينام ثم يصحو ولا يموت) ص33 .

ويشكل التكرار لمحة مهمة وأساسية في قصة (صورته الآن) من مجموعة الخيانة العظمى التي كانت الكلمات فيها محسوبة ابتدأت بالفعل نظر وانتهت بالفعل كاد يجن، ولعل الغرابة هنا تتجلى بين أن يكون النص محدود الكلمات وبين أن يتعمد التكرار، وعمومًا فإن التكرار هنا ليس إلا لعبة تتيح للكاتب أن يصل إلى لحظة التوهج، التي فيها انحلال التأزم والتقارب الكتابي باستعمال ألفاظ بحروف متقاربة بعينها، ثم المداورة بينها يحمل القارئ على التفاعل مع ضمائر التكلم والغياب والفعلية الماضية والأمرية والمضارعة، وقد تستدعي القصة القصيرة جدًّا ـ بسبب نزعتها إلى القصر والتكثيف ـ الأسلوب الإنشائي بالتقديم والتأخير أو بالوصل أو الفصل أو بالحذف، كما في قصة (لو الناس في بلدي) من مجموعة حجر غزة التي يترك فيها القاص حنون مجيد النهاية على شكل نقاط تتصدى للمسرود، ليكون فاعلاً في ملئها (ذرة من الطعام سهوت عن رفعها من الأرض فسعى إليها النمل سعي الجنود إلى الحرب لو الناس في بلدي.....) ص13.

ويوظف التناص كتقانة قصصية قصيرة جدًّا بأشكاله المتعددة الدينية والأسطورية والشعرية والتاريخية وغيرها مثل قصة (شهادة) من مجموعة حجر غزة التي تتناص مع المثل القائل وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة (كل النساء تشهد إنك عظيم إلا زوجتك التي كانت وراء ذلك)ص23. 

وهذا وغيره إنما يتم باستعمال اللغة استعمالاً دلاليًّا يوصل الفكرة بأسرع الطرق وأنجزها وصفًا أو تكثيفًا عبر أشكال وبناءات أسلوبية وهيكلية خاصة.


عدد القراء: 7528

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-