آلات الطرب البدوية في كتابات الرحالةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 19:17:37

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

يُغني البدو الأناشيد والأغاني والأهازيج، عند الترحال، وفي السهرات، وأثناء الرقصات، والتي يعود بعضها إلى شعراء مشهورين، وبعضها الآخر موروث قديم مجهول المنشأ. أما مواضيعها فتدور في معظمها حول القبائل وبطولاتها في الغزو والإغارة، وقصص الحب، وكرم الشيوخ ومدحهم، وما إلى ذلك، وهي غالبًا ذات مضمون مؤثر، وصياغة جميلة. إلا أن الأغنية البدوية بعيدة، شأن الشعر الشعبي، عن التجريد، وتعطي تعبيرًا محسوسًا يجب على المستمع إليها أن يكون على معرفة جيدة بحياة البدو ومفرداتهم وعاداتهم لكي يستطيع فهمه.

ينقسم الشعر والغناء عند البدو إلى أنواع، منها القصيد، وهو ديوان الشعر البدوي، ويُنشد بمرافقة أنغام الربابة الموسيقية الممتعة، ويتناول موضوعًا معينًا، إذ يبدأ الشاعر في الحديث مُتخذًا من أغراض الشعر العربي، من المدح والوصف والفخر وغيره، مطية له. ويختتم القصيدة بالحكمة أو بقيمة فاضلة1. ويغنون المواليا وحداء الإبل على ظهور الإبل بمصاحبة الربابة2. وفيه يبدأ المغني بشطر البيت ثم يقوم بتكراره أو بالبيت كله، فيجاوبه الآخرون، ثم يقوم بتكرار ما بدأ به ويشترك الآخرون معه في التكرار، ثم ينتقل إلى الشطر الثاني من البيت أو إلى البيت الثاني فيردد منفردًا، ثم يجاوبه الآخرون، وهكذا حتى نهاية القصيدة، في كلام موزون ومعقول في عبارة صريحة، ويُزخرف بضرب الأمثال، وبالتشبيهات التي تصدر عن رؤية ومعرفة.  كل ذلك بصوت مرتفع شجي، ونغم جميل3. ويذكر جوهن جاكوب هيس من أنواع الأغاني البدوية: مجرور أو مجرورة، وهي أغنية طويلة تُغنى عند أداء ألعاب راقصة. والبدع، وهو مقطع واحد قصير. ونشيدة، أو تمثالة، وهي قصيدة طويلة تُعادل قصيدة الأدب الكلاسيكي. والشعر، وهي القصيدة، التي يقولها الشاعر، والحجية، وهي رواية أو "طرح" حكاية قديمة "سالفة"4.

يُشاهد بيرتون الرقص المصحوب بالغناء في طريق عودته من منى إلى مكة المكرمة، فيقول: "استرعى انتباهنا تصفيق بالأكف، وغناء بصوت عالٍ. ووجدنا جمهورًا من البدو يُحيطون بمجموعة مشغولة بالرقص، وهو أمر مُفضل عندهم. وشارك المتفرجون في الغناء، وهو القاء ملحون مطول؛ يؤدى على مقام موسيقي قصير، وفي صوت واحد. بدأ المقطع المردد: لا يا يها لا يا يها La Yayha La Yayha، ولم يستطع أحد أن يعرف معنى هذا المقطع. وفي أوقات أخرى غنى المغنون غناءً مفهومًا مثل: نهار العيد في منى شفت سيده... غريب الدار عندكم فارحموني"5. ويقول ماكس أوبنهايم إن "جميع القصائد الطويلة، باستثناء قصائد الحرب والفروسية، تُغنى من الشاعر أو من الذي يُلقيها برفقة الربابة، وهي آلة وترية بوتر واحد معروفة من قديم الزمان"6. والربابة آلة موسيقية عربية قديمة نشأت في الجزائر وتونس ومراكش وانتشرت في سائر البلاد العربية، وخاصة العراق7. ويغني بدو سيناء بمرافقة الربابة، المعروفة بينهم بالصفارة، أو الشبابة أو المقرون أو الزمارة8. وموسيقى الربابة، وفق توصيف بيرتون "رتيبة لكنها ساحرة"9.

تُستخدم الربابة لمرافقة الراقصين عند أداء الرقص، وفي قضاء الليالي عندما يجتمع الناس حول وجار القهوة، ويحكي شاعر الربابة وعازفها بعض حكايات الحرب والغزو والإغارة بين القبائل، كما يقص قصص الشُجعان والمحبين من القبائل، ويروي روايات الكرم والسخاء من الشيوخ. كما تؤدى الأغاني البدوية مع العزف على الربابة، التي يقول عنها بيرتون إنها "آلة الصحراء الموسيقية الساحرة"، أو بدونها. والربابة هي الآلة الموسيقية الوحيدة الموجودة لدى عتيبة وقحطان، والجمع "رباب". وهي آلة موسيقية ذات وتر واحد من شعر الخيل، وجسمها الرنان غالبًا من جلد الغنم، لها إطار من خشب يُشد عليه من الجانبين جلد مبشور يترك فراغًا يُضاعف ذبذبات الصوت، ويضخمها حتى إذا ما سحب القوس فوق الوتر ترك النوحة المعروفة لصوت الربابة. وينقل جوهن هيس عن أحد القحاطين أن أفضل الجلود لهذا الغرض هي جرب الماء القديمة، بينما أكد له أحد العتبان أن جلد الذئب هو الأفضل10.

يجتهد تشارلز داوتي في تقديم تفسير للاشتقاق اللغوي لكلمة الربابة، فيذكر أنها ربما "استمدت اسمها من الكلمة الأسبانية "رابيل Rabrl"، وهي في اللغة الإنجليزية القديمة "رافيل Revel" و"ريبل Rebibel"، ويُشير إلى أن البدو يصنعون هذه الآلة الموسيقية من أي صندوق يتحصلون عليه، ويخرقون جزأه الأعلى بعصا، ويشدون عليه جلد سخلة، ويثبتون عليه فرعًا صغيرًا يكون جسرًا. أما الوتر فمن ذيل الفرس11. ويذكر ديكسون أن الربابة قيثارة البدو، وتستخدم كآلة للطرب ويرافقها الغناء، لدى معظم القبائل البدوية، في جميع أجزاء شبه الجزيرة العربية، خاصة قبائل الرشايدة والهرشان والعوازم، إلا أن المغنين والعازفين على الربابة ينتمون عادة إلى القبائل المتواضعة، أو إلى الصلبة أو النّور أو الزّط، أو إلى العبيد والخدم، إذ تنظر قبائل العرب الأقحاح إلى عازف الربابة نظرة دونية12.

يسمر البدو طوال الليل على صوت الربابة، ويستمعون ويصغون في السهرات، لما يقصه الراوي أو الشاعر عن سير الأبطال والفرسان، وتترنح أعطاف البدوي طربًا حينما تُنشد أمامه أغنية بصوت مطرد الأوزان ترافقه دقات الربابة التي تتلاشى رناتها في الصمت الواسع للمخيم في الليل البهيم13. ويذكر يوليوس أويتنج أن المخيم ظل يغني ويرقص على أنغام الربابة، التي "لم تصمت ويصمت الجميع معها إلا عند الفجر"14. وقد استمع داوتي إلى قصص البدو التي اعتبرها دروسًا للمسافرين، ومدرسة للحياة، لكنه وجد أن موسيقاهم ليست جذابة، مثل أحاديثهم، فصوت الربابة مع صوت المغني مزعج15. ويذكر أوغست والن أنه نادرًا ما قضى ليلة واحدة من دون رفقة بعض الشباب، الذين يُغنون بصحبة الربابة، "تلك الآلة الموسيقية البدوية، الوحيدة في الصحراء، الرتيبة والساحرة في نفس الوقت". ويقول يوليوس أويتنج "في المساء جلسنا طويلًا تحت ضوء القمر، وجرى تبادل الحديث مطولًا إلى أن أخذ أحدهم ربابته، وهي آلة ذات وتر واحد، يتمّ العزف عليها بأربعة أصابع، ويجري عليها بالقوس، ومع رنين النغمات، ألقى رجل عجوز قصيدة"16.

تستمع جيرتروود بيل إلى أغنيات على صوت الربابة، فتقول"تناول أعرابي أسود الجبين يرتدي رداء أبيض ربابة، وهي آلة موسيقية ذات وتر واحد ولها قوس، وغنى، بينما كان يعزف عليها، أغنيات طويلة حزينة ورتيبة، وكل سطر من الشعر كان قد وضع ليناسب الوقت نفسه، وينتهي بانخفاض في الصوت يُشبه الأنين، وكان همس الربابة يسير مع هذا كله، غريب وحزين وجميل في طريقته...، وكنت أرى المغني منحنيًا فوق الربابة، أو ناظرًا إليّ بينما كان يُطلق السطر النائح من أغنيته في الظلام"17.

يؤدي انتشار المذهب السلفي بين قبائل البدو على يدي أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى اعتبار الربابة نوعًا من الإثم، ويتمّ تحريمها، لكن قبائل شمر والضفير وعنزة استمرت في استخدامها كآلة للطرب والمتعة. ويذكر تشارلز داوتي أنه عندما زار منطقة تيماء، لم يسمع في دورها غناء على أنغام الربابة، "فأنغامها الحزينة مكروهة دينيًا عند أنصار الدعوة السلفية، وقد تسلم أهل تيماء رسالة خطية من ابن رشيد تمنع عزفها"18. ويذكر ماكس أوبنهايم أن قبائل الصلبة رغم ذلك الحظر والمنع، تمسكوا بالغناء بالربابة، وحافظوا عليه، وظل الأمر كذلك إلى أن أوقفت، في عام 1929، الموجه الثانية من التعصب الوهابي، بعد ذلك عادت بقية القبائل إلى العزف على الربابة أيضًا19.

يعرف البدو، بالإضافة إلى الرباية، آلة موسيقية رئيسة هي الطبل، وهو نوعان: صغير ويستعمل في الاحتفالات، ونحاسي ضخم للأغراض الحربية، وهو مُغطى بجلد، ويضرب بقبضة اليد لا بالعصا. ويذكر جوهن هيس أنه لا توجد عند قبائل عتيبة وقحطان آلات موسيقية تعمل بالنفخ20. وقد عرف المجتمع البدوي بعد ذلك آلات طرب أخرى، فيذكر مكي الجميل أنهم "في الأفراح يُقيمون الهوسة، ويكثرون الغناء، ويطلقون البارود، ويرقصون ويطربون، وليس عندهم من آلات الطرب إلا الربابة، وهي أشبه بالكمنجة، ونوع من المزمار، والدفوف"21.

 

المراجع:

1 - حاتم عبدالهادي السيد: ثقافة البادية: ملامح الشعر البدوي في بادية سيناء، (القاهرة: مركز الحضارة العربية، 1998)، ص 31، 32

2 - رفعت الجوهري: شريعة الصحراء عادات وتقاليد، (القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية،1961)، ص44، 45.

3 - شفيق عبدالجبار الكمالي: الشعر عند البدو، (بيروت: كتب للنشر والتوزيع، 2002)، ص 84.

4 - جوهن جاكوب هيس: بدو وسط الجزيرة (عادات- تقاليد- حكايات وأغان)، محمود كبيبو (ترجمة)، محمد سلطان العتيبي (تقديم)، (بغداد: دار الوراق للنشر المحدودة، 2010)، ص 91، 265.

5 - أحمد عبد الرحيم نصر: التراث الشعبي في أدب الرحلات، (الدوحة: مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، 1995)، ص 57.

6 - ماكس فرايهير فون أوبنهايم: البدو، الجزء الرابع: خوزستان- إيران "عربستان"، محمود كبيبو (ترجمة)، (لندن: شركة دار الوراق للنشر المحدودة، 2007)، ص 193.

7 - الليدي درور: على ضفاف دجلة والفرات، فؤاد جميل (ترجمة)، (لندن: 8 - شركة الوراق للنشر المحدودة، 2008)، ص 70.

8 - حاتم عبدالهادي السيد: مرجع سابق، ص 24.

9 - أحمد عبدالرحيم نصر: مرجع سابق، ص 56.

10 - جوهن جاكوب هيس: مرجع سابق، ص 265.

11 -  أحمد عبد الرحيم نصر: مرجع سابق، ص 114.

12 - ديكسون: عرب الصحراء، (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1996)، ص 477.

13 - عمار السنجري: البدو بعيون غربية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2008)، ص 23، 24.

14 - عوض البادي: الرحالة الأوروبيون في شمال الجزيرة العربية (منطقة الجوف ووادي السرحان) 1845-1922، (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2002)، ص 229.

15 - روبن بدول: الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية، عبد الله أدم نصيف (ترجمة)، (الرياض: المترجم، 1989)، ص 81.

16 - عوض البادي: مرجع سابق ص 35، 188.

17 - ليدي بيل: رسائل جيرتروود بيل 1899-1914، رزق الله بطرس (ترجمة)، (بيروت: دار الوراق للنشر المحدودة، 2008)، ص 117

18 - أحمد عبد الرحيم نصر: مرجع سابق، ص 137.

19 - ماكس فرايهير فون أوبنهايم: البدو، الجزء الرابع، ص 193.

20 - جوهن جاكوب هيس: مرجع سابق، ص 266.

21 - مكي الجميل: البدو والقبائل الرحالة في العراق، (بيروت: دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، 2005)، ص 102


عدد القراء: 5114

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-