الأهازيج الشعبية كمصدر تاريخيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 12:04:19

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

تُعدُّ الأهازيج الشعبية مصدرًا تاريخيًا مهمًا للحياة الاجتماعية والثقافية والحربية، فهي سجل للكثير من القيم التربوية، والعادات والتقاليد للمجتمع، والمرآة التي تعكس الكثير من جوانبه، فهي من أكثر الأنماط الشعرية الغنائية المعبرة عن هموم الإنسان وأشجانه، وأحزانه وأفراحه، وابتهاجه وخلجات نفسه، وهي سجل فني لتاريخ وثقافة الأمة المعبرة عنها؛ وتُبرز تجانسها وتشابهها. وقد تنوعت الأهازيج، كأدب شعبي، ومثلت جميع الحالات الإنسانية بكل تنوعاتها وتقلباتها، وأحاطت بكل مجالات الحياة، وهي في ذلك بمثابة لوحات تراثية تتغنى بالزمن الجميل، وتربط الماضي بالحاضر والمستقبل. فقد عبر الإنسان بها عن مشاعر الحب والفرح، الغضب والحزن، السعادة والشكوى، وتتناقلها الأجيال بعد ذلك، وتُضيف إليها من تجاربها وخبرتها ما يُغذيها ويدعمها.

والأهازيج الشعبية كذلك مصدرًا للتعرّف على مفردات اللهجات الشعبية المحكية، وتطورها ومقارنتها بلهجات أخرى، وباللغة العربية الفصحى، وعلى المأثور الشعبي في معظم الأقطار العربية، وتعطي تصورًا عن الحياة الاجتماعية بصورةٍ عامةٍ في منطقة الخليج العربي، وتُطلعنا على تاريخ الموسيقى والغناء الشعبي العربي، وبعض المهن والحرف والصناعات التي عرفها العرب، وبعض مصطلحات البيئة، وأدوات الزينة والحلي، والألعاب التراثية، وغير ذلك، مما تأثر بالحداثة والحضارة والعولمة. وبين ثناياها نجد ما يُعبر عن الحياة في الخليج والجزيرة العربية في عصر الغوص على اللؤلؤ بخاصةٍ، وما كانت تُعانيه الفتاة والمرأة في المجتمع، وما يلاقيه الغواص من أهوال البحر، وأماني الأم لأطفالها، وما كان يُعانيه الناس من خشونة وشظف العيش، وهي في كل ذلك تعكس حالة المجتمع، وتُبرز ملامح الترابط الاجتماعي في مجتمع ما قبل النفط.

والأهازيج فن قديم عرفته كل شعوب الأرض، وظهر في الأدب العربي منذ عصر ما قبل الإسلام، ورددها العرب في المناسبات المختلفة، وأطلقوا عليه مسميات مختلفة، وعبروا بها عن همومهم وأحزانهم، أفراحهم وابتهاجهم، حماستهم وحميتهم، وغيرتهم وغير ذلك؛ ما أبقاها على مدى العصور والأزمان، وتناقلتها الأجيال جيلا عن جيلٍ، وصارت بعض أبياتها أمثالا شعبية تناقلتها ألسن الناس للعبرة والعظة، ولا يزالون يرددونها بين الحين والآخر، ولا تزال تُغنى عند الأطفال والكبار، الرجال والنساء. إذ كانوا يرتجزون الشعر في مناسبات متعددة بشكل جماعي أو فردي، ومنها أراجيز الحرب عند اللقاء ساحات الوغى، والإبل لحثها على الإسراع في السير، والحج إذا خرجت القافلة للحج، والماء وهم يوردون إبلهم، والأعراس أثناء زف العروس إلى زوجها، والنواح التي تنوح فيها النساء على القتلى، والمتسولين التي يستدرّون بها عطف المحسنين1.

والأهزوجة نشيد شعبي غنائي في لغة العامة ينشدونه من دون أي نوع من الآلات الموسيقية في مناسبات كثيرة ومتنوعة، مثل الحروب، وعند الوفاة، والعُرضة، والأعراس، والاستقبال والتوديع2. والأهزوجة من "الهَزَج"، وهو كل صوتٍ فيه ترنيم خفيف مطرب، أو كما يُعرّفه الفيروز آبادي: "الهَزَجُ، محرَّكَةً: من الأَغاني وفيه ترنيم. وقد هَزِجَ كفَرِحَ: إِذا تَغنَّى"3 . وهكذا يُمكن أن نُعرّف الهزج بأنه "شعر شعبي مُغنى".

وفي منطقة الخليج والجزيرة العربية تُطلق على الأهازيج مسميات، حسب نوعها والغرض من إنشادها، لكنها تنقسم إلى قسمين رئيسين: الأهازيج البحرية، والأهازيج البرية، ولكل نوع منها سماته الخاصة، التي تميزه عن الآخر. فأهازيج البحارة تُعرف بـالنَّهْمة، وتعني الطرب الشعبي البحري، والمطرب البحري: النَّهَّام والجمع النَّهَّامة. "وفي اللغة النهام: الأسد بصوته، والناهم الصارخ"4 . وفيما يبدو أن كلمة النهمة مأخوذة من النهم أي زجر الإبل، وهو الحداء، أو الغناء للإبل، كي تحث السير، وكان معروفًا عند العرب منذ عصور ما قبل الإسلام، وللنهمة قواعد من حيث الألفاظ والترانيم والاستهلال والنحب والهمهمة، والحكم والأمثال والأدعية، وهي جزءًا لا يتجزأ من حركة العمل، الذي لا يستغني عنه البحارة، فلا يذهب أي محمل إلى الغوص من دون أن يكون على سطحه نهام جيد؛ ذو صوت حسن وعذب؛ وذو شهرة، ولهذا تنافس النواخذة على النهامين وأكرموهم بالهدايا، وبالأجور المرتفعة من محصول اللؤلؤ، وفن النهامة ينقسم إلى: اليامال، والخطفة والحدادي. حيث يتغنى الأول عندما يتم دفع السفينة إلى المياه العميقة والابتعاد بها عن الشاطئ، أما الثاني فيتغنى به النهام كي يحث البحارة على العمل أثناء خطفة الشراع وتغيير اتجاهه، وأخيرًا الثالث يتغنى به البحارة لاستعادة نشاطهم وقت الراحة، ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة فروع مختلفة.

ومن الأهازيج الشعبية مواويل الفراق، إذ اعتاد قدماء البحارة على توديع أقربائهم وأحبائهم الجالسين على الشاطئ، وهم ينطلقون في رحلتهم إلى الغوص، إلى المجهول، فالرحلة تستغرق شهور والمخاطر كبيرة، وبها الكثير من المشاق والمتاعب، فنجد بين ثنايا هذه الأهازيج ما يؤكد على تعلقهم بأرضهم وحبهم لوطنهم، وتصور جوانب من حياتهم.

ولمبادئ الغوص أهازيج وفنون خاصة بكل عملية يقوم بها البحارة، عبارة عن قطع أدبية وفنية تُقال بصيغ الدعاء بأن يحفظهم الله من شرور البحر، وتقلبات الطقس، وأن يعودوا لأهلهم سالمين غانمين، ومنها التي تُحدد مسارات النجوم، واتجاه الرياح، والمواقع والطرق، والمسافات بين الموانئ، وتنبه إلى العلامات الموضوعة بالقرب من الجزر، والكثير منها لم يُعرف قائله، وتقال عادة عند بداية العمل الملاحي، وهي غالبًا متداولة بين البحارة على سفن الغوص، والأسفار الطويلة للتجارة.

ومنها أهازيج العرضة، والتي تُصاحب رقصة العرضة، وهي بمثابة فنًا أصيلاً نابعًا من أعماق الجزيرة العربية، ظل صامدًا طيلة العصور الماضية، ولم يتأثر بالفنون الواردة، وجُل هذه القصائد في الفخر والاعتزاز بالعروبة والمديح والغرام، ومنها العرضة الحربية، والتي تُسمى أيضًا النجدية، وكانت معروفة عند العرب قبل الإسلام باسم قصائد الرجز، التي ينشدونها في الحروب، حيث تُفاخر القبائل فيها بالقائد المغوار، والمحارب الشرس عندما يخوض الحرب، ويُرهب الأعداء عندما يلتقيهم، ويريهم العجب العُجاب، وينتصر عليهم، وتتصدر أفعاله أحاديث المجالس.

وتُمثل أهازيج العرضة الحربية التي يرددها القوم في المناسبات القومية والأعياد الدينية، وهم يلتفون على شكل دائرة حول البيرق، الذي ينتصب في وسط هذه الدائرة، وهم يضربون الطبول والدفوف، ويلوحون بالسيوف والبنادق والعصي، ويتناوبون في الإنشاد والرد على بعضهما البعض، إذ يبدأ المنشد لهذه العرضة بالغناء بالقرب من أحد الصفوف، فيرد الطرف الآخر بنوع من الترنيم النغمي في أداء الإيقاع من دون أن يتقيد بالنص، وغالبًا ما تدور نصوصها الشعرية حول الحماسة والنخوة، والاستبسال في الدفاع عن حياض الوطن، واستنفار القبائل لإحراز النصر المؤزر، وتتنوع بحورها وتختلف باختلاف أهدافها وأغراضها5.

ومنها الهجيني، وهو الغناء على ظهر الإبل، ما يجعلها تترنح وتتمايل وتطرب، وهي تسمع وتستجيب لما يُردد على أكوارها. ويعكس هذا النوع من الأهازيج الجانب الإيجابي للحياة الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، والتي تتميز بالبساطة والبُعد عن التعقيد.

أما أهازيج الأطفال، فهي أغاني ترددها الأم لطفلها، والجدة لحفيدها، وهي بمثابة مداعبات وملاعبات لها دلالات صادقة في الحب والوفاء والمحافظة على النسل، وتعطي صورة للتراحم، والنُصح للطفل بأن يجلس هادئًا في "منزه" المصنوع من جريد النخيل ينتظر عودة الوالد ليُعانقه، وتفيض بحب وحنان الأم تجاه الابن، كي يبادلها المودة والاحترام، ولهذا يُعتبر غناء الأم لطفلها من أسس وقواعد المحبة التي تسود الأسرة فيما بعد، وكثير من نصوص هذه الأهازيج تكون متوارثة من جيل إلى آخر؛ باعتبارها صوتًا له إيقاع، ووزن ومعنى يستجيب لمواقف معينة، ولها دور تربوي تثقيفي وتعليمي6.

ومنها الأهازيج التي تُغنيها الأمهات أو الجدات لأطفالهن أثناء النُعاس؛ لكي يستمتعون بنوم عميق، وأحلام جميلة، وتُعرف بأناشيد التهويدة، وبعضها مخصصًا للبنات فقط، والآخر للأولاد، وتغنيها الأم لطفلها وهو ينام في مهده، الذي يُعرف باسم "المنز"، وتدعو له بنومٍ مرتاحًا، وينعم بالأحلام الجميلة، وتفاخر بجمال وذكاء ابنتها، وبالأسرة، وتحمل بعضها أماني الأم لابنتها في المستقبل، كأن تتزوج من تاجر أو رجل قوي وجرئ، وتدعو لها أن تُنجب ولدًا وبنتًا، وتفرح بهما كحفيدين.

وترتبط أهازيج الحناء بكل المناسبات السعيدة كالأعياد والزواج والمولود وغيرها، وتعبر عن الفرح والابتهاج، ومن ثم تستخدم النسوة الحناء لتزيين أيديهن وأرجلهن مما يزيدهن جمالا، ومن أشهرها أهزوجة العرايس، التي يتغنى بها الجميع، ويفرح لها الصغير والكبير، وينتشي بروعتها وجمالها كل ذي حس وذوق، وتصف جمال العروس، وجمال الحناء التي تتزين بها، والتي تزيدها نورًا وحسنًا.

ومن الأهازيج تلك المرتبطة باحتفالات دق وطحن الحبوب في شهر شعبان من كل عام من أجل توفير احتياجات شهر رمضان من الحبوب، والتي تُستخدم في إعداد الأكلات الرمضانية؛ كالثريد والهريس والجـريش واللقيمات، ويصاحبها احتفالات خاصة، تغني فيها المغنيات الشعبيات أغنيات من فن العاشوري، وتُمثل هذه الأهازيج ظاهرة اقتصادية اجتماعية ثقافية موسمية، وتحتل مكانة بارزة في تراث المجتمع الشعبي، يشارك فيها معظم أبناء المجتمع، وخاصة النساء7.

ومن الأهازيج القاصرة على الفتيات أغاني الأرجوحة، وتُعرف كذلك بالمريحانه، أو "درفانه"، وهي من وسائل الترفيه والتسلية عند الفتيات في الخليج والجزيرة العربية منذ القديم، حيث تحظى بإقبال شديد؛ وخاصة في الأعياد، حيث تُنصب المراجيح في مختلف المناطق والحواري والمنازل، وتتميز هذه الأهازيج بإيقاع موسيقي جميل، وبكلمات بسيطة جذابة؛ تناسب صغيرات السن، ويُعبر محتواها عن عادات وتقاليد وقيم، وتطرح قضايا اجتماعية مهمة، كتمني الفتاة لابن عمها زوجًا، وافتخار البنت بوالدها، ومعاني الحب لقبيلتها، والانتماء لوطنها، وتُعبر عن عدم رغبتها في أن تُبارح ديارها8.

 

الهوامش والمراجع:

1 - عبد الحكيم الزبيدي: الأهازيج الشعبية في الخليج والجزيرة العربية، (القاهرة: شمس للنشر والإعلام، 2019).

2 - ظمياء كاظم الكاظمي: من فلكلور الخليج العربي والجزيرة العربية، (البصرة: جامعة البصرة، 1981)، ص 497.

3 - مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي: القاموس المحيط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1987)، ص 269.

4 - علي إبراهيم الدرورة: الأهازيج الشعبية في الخليج العربي، (العين: مركز زايد للتراث والتاريخ، 2000)، ص 13.

5 - عبد الله بن محمد بن خميس: أهازيج الحرب أو شعر العرضة، (الرياض: مطابع الفرزدق التجارية، 1402)، ص 13.

6 - سبيكة محمد خالد الخاطر: قيم التنشئة الاجتماعية في أغاني الأم القطرية، (الدوحة: وزارة الإعلام والثقافة، 1992)، ص 29-36.

7 - كلثم علي غانم الغانم: احتفالات طحن ودق الحبوب السنوية في المجتمع القطري، (الدوحة: إدارة الثقافة والفنون، 1997)، ص 30، 44، 45.

8 - الدرورة: الأهازيج الشعبية، ص 19، 27، 31، 67، 75، 79، 107، 111.


عدد القراء: 4911

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-