تداعيات الحرب العالمية الأولى على الشرق الأوسطالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 08:02:46

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

شهد العالم في أوائل القرن العشرين عددًا من التطوّرات السياسيّة والعسكريّة، التي أدّت إلى اشتعال آتون الحرب بين الدّول الكبرى، والّتي عرفت بالحرب العظمى Great War؛ وسمّيت بهذا الاسم لأنّ معظم دول العالم اشتركت فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. وكانت حادثة اغتيال ولي عهد العرش النمساوي فرانز فرديناند وزوجته أثناء زيارتهما إلى سراييفو على يد طالب صربي في يونيو 1914، القشة التي قسمت ظهر البعير، فما كان من النمسا إلا أن أعلنت الحرب على الصرب في 28 يوليو، ووقفت روسيا وبريطانيا إلى جانب صربيا، ووقفت المانيا إلى جانب النمسا، فكان هذا السّبب من الأسباب الرئيسة في إطلاق الشرارة الأولى للحرب.

وتُعدُّ الحرب العالمية الأولى أحد أعنف صراعات التاريخ الحديث، إذ قسمت العالم إلى معسكرين متحاربين، الحلفاء: بريطانيا وفرنسا وروسيا، والمحور: ألمانيا وإمبراطورية النمسا المجر ومملكة بلغاريا، وانضمت الدولة العثمانية إلى دول المحور، فمثل ذلك بداية النهاية للتاريخ العثماني، وبالتالي وجد العرب أنفسهم طرفًا في تلك الحرب، وفُرض عليهم الاشتراك فيها، ولكن بصورة غير مباشرة؛ باعتبارهم من رعايا السلطان العثماني، من دون أن يكون لهم فيها لا ناقة ولا جمل. واقتربت الحرب من نهايتها بعد انهيار الحكومة الروسية في شهر مارس 1917، وما تبعها من الثورة الشيوعية، وفي نوفمبر 1918 اجتاحت ألمانيا الثورة، فاضطرت لقبول الهدنة مع الإمبراطورية النمساوية، وهكذا انتهت الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر بانتصار الحلفاء على دول المحور، وبلغت خسائرها البشرية نحو ثمانية ملايين قتيل لقي حتفه، وجرج وفقد الملايين آخرون، كما خلفت خسائر اقتصادية كبيرة، ومهدت لتغيرات سياسية كبيرة، تضمنت ثورات في العديد من الدول، وشكلت البداية للعالم الجديد، والنهاية للأرستقراطيات والملكيات الأوروبية، إذ لم يعد للإمبراطوريات الثلاثة وجود: الإمبراطورية الألمانية، الإمبراطورية الروسية، الإمبراطورية النمساوية المجرية، إضافة لإنهيار الدولة العثمانية، التي كانت تسيطر على المشرق العربي.

وكانت الجبهات الرئيسة للعمليات العسكرية، التي خاضتها الدولة العثمانية في الشرق الأوسط هي: جبهة القفقاس،  وقد امتدت على طول الحدود الروسية، جبهة العراق: إذ أنزل الإنجليز في سنة 1914 قوة من الجيش البريطاني المرابط في الهند، فاحتلت البصرة، وتوجهت صوب بغداد لاحتلالها، جبهة الدردنيل: إذ حاول الأسطول البريطاني في مارس 1915 شق طريقه بالقوة عبر مضيق الدردنيل لإعادة الاتصال بحرًا مع الدولة الحليفة روسيا، لكن محاولته باءت بالفشل، جبهة سيناء: عندما حاول الجيش العثماني بقيادة جمال باشا، قائد الفيلق الرابع المرابط في سوريا وفلسطين، احتلال قناة السويس في فبراير 1915 من يد البريطانيين لقطع طريق الحلفاء البحرية إلى جنوب الجزيرة العربية، ولاسترجاع مصر من أيديهم، لكن هجومهم باء بالفشل.

ورغم فشل العمليات العسكرية العثمانية في كل جبهات القتال، إلا أن دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب دول المحور قد أدى إلى قطع العلاقات وطرق المواصلات بين روسيا وحلفائها، وتعذر تقديم مساعدات لها من السلاح والمواد الخام، كما تعرضت للخطر مرافق هامة جدًا لبريطانيا كقناة السويس وحقول لنفط في إيران، وأنزلت بريطانيا قواتها في البصرة من ناحية الخليج العربي واحتلت المدينة، وفي ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا عن مصر دولة واقعة تحت الحماية البريطانية، إذ ترتب على قرار دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب دول المحور أن تخلت بريطانيا عن سياستها التقليدية في الحفاظ على الدولة العثمانية، واتفقت مع دول الحلفاء على تقسيم أراضي الامبراطورية العثمانية بعد الحرب، وذلك من خلال إتفاقية سايكس بيكو في عام 1916، وثار العرب ضد الدولة العثمانية بتشجيع من بريطانيا، وتفاوض الشريف حسين كممثل للعرب مع مكماهون كممثل لبريطانيا على مصير الولايات لعربية بعد الحرب، وقدم له وعودًا لم توفي بها بريطانيا، وفي النهاية انجلت الحرب عن هزيمة الدولة العثمانية، وخسارتها جميع ولاياتها في أسيا وأوروبا وأفريقيا، وانحصارها في تركيا فقط، ثم وقوع حرب مريرة بين اليونانيين والأتراك بعد انتهاء الحرب، وتولي كمال أتاتورك الحكم، وتحويل تركيا إلى جمهورية، وإلغاء الخلافة الإسلامية، وإدخال إصلاحات جذرية في تركيا، وتحويل تركيا إلى دولة علمانية.

وهكذا شهد الشرق الأوسط في مطلع القرن العشرين أحداث كان لها أثر كبير في تقرير مصير البلدان والأقطار العربية، ومن أبرز هذه الأحداث الحرب العالمية الاولى، إذ رفع السلطان العثماني شعار الجهاد ضد الحلفاء، لهذا كان على العرب الذين تحت ظل الحكم العثماني تلبية النداء، وبالفعل استجاب الكثير من العرب لهذا النداء مكرهين مرغمين، ومنهم من رفض الانصياع لأوامر التجنيد، وذلك بسبب كراهيتهم للأتراك العثمانيين، التي تعاظمت في أعقاب سياسة التتريك ومجازر جمال باشا في الشام عندها قامت بريطانيا بالمفاوضات مع الشريف حسين، والتي نتج عنها تعهدات متبادلة، حيث تعهدت إنجلترا بمنح العرب دوله عربيه موحدة على الأجزاء العربية الآسيوية، وبالمقابل تعهد الشريف حسين بالثورة على الدولة العثمانيه، وبالفعل أعلنت الثورة العربية في الخامس من يونيو 1916 بقيادة الشريف حسين وأبناؤه فيصل وعبد الله، ووقف العرب القوميون إلى جانب الحلفاء؛ لتحقيق هدفهم القومي، وخلال الثورة انضم الكثيرون من العرب المجندين في الجيش العثماني إلى الثورة، وفي نفس الوقت بقيت الأغلبية الساحقة من العرب على ولائها للدولة العثمانية التي هي في نظرهم دولة الخلافة الإسلامية، لأنهم كانوا يرون فيها حامي حمى الإسلام في عهد التوسع الاستعماري؛ بل إن كثير من المسيحيين واليهود العرب رحبوا خصوصًا بعد عام 1908 بالاصلاحات الليبرالية، وكتبوا يستحسنونها، ونادرًا ما طالبوا باستقلال العرب عن الدولة العثمانية. ولم يكن الولاء للدولة العثمانية يقتصر على العرب والمسلمين؛ بل إنه كان يشمل حتى اليهود من فلسطين.

وانطلقت الثورة العربية الكبرى من الحجاز بقيادة الشريف حسين، الذي عين ابنه فيصل الأول قائدًا للجيش العربي الثائر، وقد كان لورنس العرب الضابط الانجليزي قد أخذ على عاتقه تدريب الجيش العربي الثائر، وإمدادهم بالسلاح، ونجحت الثورة العربية الكبرى في تحرير الحجاز، وشرقي الأردن، وسوريا بعد 400 سنة من الحكم العثماني، وكان لحكومة بريطانيا الدور المهم في مساعدة الجيش العربي الثائر الذي تلقى تدريبًا على يد الضابط الانجليزي لورنس. ورغم ذلك لم تف بريطانيا بوعودها بعد الحرب، فقد حصل الشريف حسين على الحجاز فقط، وليس ملكًا على الأجزاء العربية الآسيوية كما وعد في إحدى الرسائل التي وصلته من مكماهون، وهي المناطق التي كانت أثناء الحرب وخلال سير الثورة قد اتفقت فرنسا وبريطانيا سنة 1916 في سايكس بيكو على تقسيم الأقاليم العربية في منطقة الهلال الخصيب سرًا من دون علم الشريف حسين، وهذا يتناقض مع مفاوضات مكماهون حسين.

وبعد الحرب وقعت اتفاقية سان ريمو، التي تشبه اتفاقية سايكس بيكو، وقسمت الأقاليم العربية بين كل من فرنسا وبريطانيا إلى مناطق انتداب فرنسية وبريطانية، وفرض الانتداب الانجليزي على العراق، وشرقي الأردن، وفلسطين، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، وطرد فيصل من سوريا بعد معركة ميسلون 1920. وفي مؤتمر القاهرة عين فيصل المخلوع عن عرش سوريا ملكًا على العراق، وعين عبد الله أميرًا على شرقي الأردن، واستبدل الانتداب في كل من البلدين إلى معاهدة تحالف.

ولم يكن العرب طرفًا سياسيًا فاعلًا في الحرب العالمية الأولى، إذ لم ينضموا لأي من الطرفين المتحاربيين بصورة معلنة، وبالتالي لم يكونوا من المنتصرين ولا من المنهزمين، بالرغم من أن تطورات الحرب تؤكد وجود الكثير من القتلى من أبناء العرب، وجرح الآلاف منهم؛ لأن مئات الآلاف منهم جندوا قسرًا للقتال في هذه الحرب، التي لم تخرج عن كونها حرب أهلية أوروبية امتد أثرها لكل قارات العالم المعروفة حينئذ. وتكشف أعداد الموتى العرب في الحرب، أنهم أجبروا على القتال مع الطرفين المتصارعين: الحلفاء والمحور، ولكنهم بقوا جنود القتال في الظل بعيدًا عن تسليط الأضواء عليهم، ولا تحظى ذكراهم بما تحظى بهم ذكرى الضحايا الأوروبيين من التكريم والتعظيم، بل إنك لا يوجد ذكر للضحايا العرب في أي من السرديات التاريخية السائدة في أوروبا. فقد اعتمد المجهود الحربي للبريطانيين والفرنسيين، إلى حد كبير، على أبناء المستعمرات العربية التي كانت خضعت لنيران استعمراهم قبل وأثناء العرب. فقد قامت فرنسا بنجنيد أبناء المغرب العربي منذ بداية المعارك في الجبهة الغربية في سبتمبر 1914، حيث نجحت في تجنيد أكثر من 170 ألفًا من الجزائريين، وأكثر من 80 ألفًا من التونسيين، إضافة إلى عشرات الآلاف من المغاربة. وكانت الفرقة 45 الجزائرية، والفرقة 87 الفرنسية الوحدتين الأوليين اللتين استهدفتا بهجمات الغازات الكيميائية من قبل القوات الألمانية.

وكان في عام 1911 قد خطى شاب هولندي يهودي على رصيف ميناء إستانبول، وكان يعتمر طربوشًا تركيًا مثل أي مواطن عثماني آخر، أتى لتعلم اللغة التركية العثمانية قبل الانضمام لكلية الحقوق في جامعة اسطنبول. هو ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء في تاريخ دولة إسرائيل. كانت فترة الدراسة هذه في سالونيكا وأسطنبول مع صديقه اسحق بن زفي، الذي سيصير فيما بعد رئيس لدولة إسرائيل، عاملاً مهمًا في تزايد ولاء بن جوريون لبلاده، أي الدولة العثمانية، وقد بقي على هذا الولاء حتى سقوط القدس في أيدي البريطانيين في عام 1917. كما حاول في بداية الحرب بن جوريون، وبن زفي مساندة الجيش العثماني بتكوين مليشيا يهودية في القدس، ضمت 40 رجلاً؛ بل إن الأمر وصل حد ذهابه إلى أمريكا في مسعى لحشد الدعم اليهودي للدولة العثمانية. وسافر بن جوريون عبر مصر، وبقي في أمريكا ثلاثة أعوام ونصف عام، حيث جاب 35 مدينة في محاولة لتجنيد جيش يهودي من عشرة آلاف رجل للقتال مع الدولة العثمانية، ولم تنجح المحاولة، وعقب سقوط القدس، سافر بن جوريون إلى لندن عام 1918، وانضم إلى الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني.

وهكذا فرت الحرب العالمية الأولى سياق عام لتطور ثلاث حركات قومية في الشرق، هي الحركات العربية، التركية، الصهيونية. وبذلك كرست الحرب طلاقًا سياسيًا صاخبًا بغيضًا بين العرب والأتراك، بالنسبة لعرب المشرق لم يبق من أربعة قرون كاملة من التاريخ العثماني في بلاد الشام سوى ذكرى أربعة أعوام رهيبة هي مرحلة جمال باشا، لكأن أربع سنين عجاف، أكلت أربعة قرون سمان. أما بالنسبة للأتراك فقد عدت تنامي الشعور العروبي، خصوصًا بعد انطلاق الثورة العربية في الحجاز خيانة وطعنة في الظهر.

سياق تاريخي إشكالي استخلص دروسه المواطن العثماني ديفيد بن جوريون، ذلك أن دلالة قصة الزعيم الصهيوني تتمثل في الظاهر في سرعة القفز فور سقوط القدس من سفينة الولاء العثماني إلى قارب النجاة البريطاني. أما في الجوهر فهي تكمن في اغتنام اللحظة التاريخية الفارقة التي أنتجتها الحرب الكبرى في عالم الشرق. أنها لحظة انتهاء زمن الإمبراطوريات، وانفتاح أفق القوميات.

 


عدد القراء: 2740

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-