من أعلام العلماء العرب والمسلمين (ابن سينا) (370 - 427) هـ (980 - 1037) مالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-28 11:23:44

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

يقول أحمد شوكت في كتابه (تاريخ الطب وآدابه وأعلامه): "إن على من يتصدى للبحث عن أثر العلماء العرب والمسلمين وغيرهم في العصر الوسيط أن يعود بنفسه إلى ما كان عليه العالم في ذلك الحين من تخبط في الجهل واعتقاد في الخرافات، ثم يُرجِع البصر إلى أين العلم العربي الإسلامي ليدرك حقيقة ما قام به علماء العرب والإسلام من حفظ للعلوم القديمة وابتكار لنظريات حديثة واختبارات جديدة وسَّعوا بها آفاق العلم القديم وأضافوا إليها كثيرًا من الشيء الحديث وحاربوا الخرافات دون هوادة".

وعالِمنا الذي سنتطرق لسيرته وتراثه ومآثره هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا ويلقب بالشيخ الرئيس وإمام العلوم وأبقراط العرب، نبغ في شتى ضروب العلم والمعرفة التي مهر فيها وأجادها وحذقها وهو دون العشرين من عمره. ولد في أفشنه قرب خرمشين (قرية مشهورة من قرى بخارى). أصل والده من بلخ (مركز سياسي رئيسي لولاية خراسان) ثم انتقل إلى بخارى، وكان من محبي أهل العلم ومن مشجعي طلابه فكان يدعو العلماء المشهورين آنذاك ليدرّسوا لابنه القرآن الكريم والأدب وقواعد اللغة حتى أصبح يقرأ ويعلق على كثير من مؤلفات علماء اليونان مثل كتب إقليدس الهندسية وكتاب المجسطي وكتب الطبيعيات والمنطق وغيرها، وقد اهتم والده بتعليمه الرياضيات والمنطق والفلك لأنها معارف شاملة ودقيقة وثابتة، ثم اعتكف على دراسة الطب والعلوم وبرع فيها فأصبح طبيبًا للأمراء وكتب عدة رسائل في هذا الميدان. وقليلون هم الذين يعرفون أن ابن سينا كان له ولع بعلوم المنطق ولذا اهتم بعلوم الرياضيات والفلك وكان له إنتاج علمي غزير فيها، كذلك اهتم ابن سينا بالرصد، وله آلة رصد تعرف باسمه عبر التاريخ. ولقد توفي والده وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد استقر أخيرًا في أصبهان حيث رحب به أميرها علاء الدين وبقي هناك حتى وفاته في همذان، وأهم كتبه العلمية هي: (كتاب الشفاء ويقع في ثمانية وعشرين مجلدًا وفيه علوم المنطق والطبيعيات والرياضيات والفلسفة، رسالة الآلة الرصدية، كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي، وغيرها من الكتب العديدة في الطب والفلسفة والفلك والرياضيات.

ولنقف فيما يلي على ما يقوله عنه مفكرون وعلماء عرب وغربيون: يقول أمين خير الله في كتابه (ملخص عن إسهام علماء العرب في الطب: "إن ابن سيناء في أواخر حياته تخلى عن الدنيا وحطامها واتجه إلى التفرغ لعبادة ربه، لذا نجده قد باع جميع ممتلكاته وتصدق بها على الفقراء والمساكين"، يقول زكي علي في كتابه (رسالة الطب العربي وتأثيره في مدنية أوروبا): "هو الشيخ الرئيس ابن سينا أمير الأطباء وأشهر الفلاسفة من العرب عمت شهرته أرجاء العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وعظم تأثير مؤلفاته في أوروبا حتى كانت أهم ما يدرس ويقرأ من العلوم في جامعات أوروبا قرونًا عدة، ولم يدانيه في شهرته أحد من الأطباء أو الفلاسفة، وكان عبقريًا عظيمًا بلغت به العلوم العربية قمة مجدها".

وقد اشتهر ابن سينا بين زملائه وتلاميذه باتقاد الذاكرة وسرعة الفهم وغزارة الإنتاج العلمي. يقول محمد عبدالرحمن مرحبا في كتابه (الموجز في تاريخ العلوم عند العرب): "نبغ ابن سينا في الفلسفة والطب وهو دون العشرين من عمره، كان جيد الحفظ سريع التأليف، إذا عزم على السفر حمل أوراقه قبل زاده، وإذا تعب من القراءة والكتابة جلس يفكر ويقلب في خاطره وجوه الرأي فتنهال عليه المعاني وينطق بالحكمة".

ويذكر سيد حسين نصر في كتابه (العلوم والحضارة في الإسلام): "إن ابن سينا حفظ القرآن عن ظهر قلب وأجاد قواعد اللغة العربية وآدابها وهو في العاشرة من عمره، وانكب على التأليف، إلا أن بعض مؤلفاته كتبها بطريقة الإملاء على بعض أصحابه وهو معتل على ظهر حصان، إذ كان مغرمًا بالأسفار والتنقل في طلب العلم، وقد ألف قرابة مائتين وخمسين مصنفًا".

وقد ذكر بنيامين جوردن في كتابه (القرون الوسطى والنهضة الأوروبية في تاريخ الطب): "لقد أجاد ابن سينا اللغة العربية إجادة تامة تدهش من يقرأ إنتاجه بهذه اللغة، وذلك لأنه حفظ القرآن الذي أقام لسانه، فنتج عن ذلك أنه كان من كبار الشعراء في عصره، وكان يضرب به المثل في مقدرته على حفظ القصائد الشعرية".

هذا وقد تفوق ابن سينا في سائر فروع المعرفة كاللغة والدين وعلم النفس والفقه والطبيعيات والحيوان والنبات والموسيقى والفلك والمنطق، كما أنه شاعر من الدرجة الأولى فقد نظم قصيدتة (المنظومة في الطب) والتي تزيد أبياتها عن ألف وثلاثمائة بيت حصر فيها جميع المعلومات المتوفرة في الطب وقد شرحها ابن رشد فيما بعد كما علق عليها ابن زهر وترجمت إلى اللغة

اللاتينية.

وكانت عبقرية ابن سينا في الطب من نوع فريد جدًا، ولا غرو في ذلك فقد حلَّق في سماء الطب وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره، يقول في ذلك حيدر بامات في كتابه (إسهام علماء المسلمين في الحضارة): "أن ابن سينا اضطلع بدور عظيم في الحضارة الغربية، وهو بلا ريب أعظم طبيب أنجبته الحضارة الإسلامية". 

كما درس ابن سينا علم الكيمياء وأبدع فيه محتذيًا حذو أساتذته من علماء المسلمين من أمثال جابر بن حيان وأبي بكر الرازي ويعقوب ابن اسحاق والكندي وغيرهم. وقد خالف الكثير من الآراء الخرافية التي كانت منتشرة آنذاك، فقد دحض فكرة إمكانية تحويل المعادن بعضها إلى بعض. وقد شرح ابن سينا مؤلفات اليونان وعلماء المسلمين في الكيمياء وعلق عليها، وجدير بالذكر أن اهتمام ابن سينا بالكيمياء نابع من علاقتها بالطب.

يقول قدري حافظ طوقان في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك): "ابن سينا من الذين قالوا بإنكار تحول المعادن بعضها إلى بعض مخالفًا بذلك آراء أكثر علماء زمانه، وفي رأيه: أن المعادن لا تختلف باختلاف الأصباغ بل تتغير في صورتها فقط، ويبقى كل معدن حافظًا لخصائصه وصفاته الأصلية.

وينوه المؤلف إدوارد فاربر في كتابه (نوابغ علماء الكيمياء): إن ابن سينا استخدم الطريقة المنطقية لشرح بعض النقاط الغامضة في مؤلفات أسلافه في علم الكيمياء وعندما بلغ الحادية والعشرين من العمر بدأ التأليف باللغة العربية في هذا الميدان وأجرى تجارب كثيرة في ميدان الكيمياء مثل تعيين الوزن النوعي والكثافة النوعية لمعادن كثيرة. 

ويذكر جورج سارتون في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلم): "أن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة، وربما لا تجد مثيلاً له في ذكائه ونشاطه وتوقُّده العلمي عبر التاريخ فهو من أعظم علماء الإسلام ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين أذ يمثل القمة التي بلغتها الحضارة الإسلامية في الطب فضلاً عن اهتمامه بعلم الرياضيات من الناحية الفلسفية وبقيت مؤلفاته متداولة في جميع أنحاء أوروبا حتى عصر النهضة الأوروبية".  

كما يشيد عبد الحليم منتصر في كتابه (تاريخ العلم) بهذا العالم الفذ فيقول: "استقصى ابن سينا نسبة كبيرة من النباتات المعروفة آنئذ، وأورد مزجًا مختلفًا من هذه النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والفطرية والطحلبية وذكر الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد، كما ذكر موطن النباتات والتربة التي تنمو فيها. وفي كتاب (الشفاء) أورد ابن سينا كثيرًا من النظريات والآراء حول تكاثر النبات وذكره وأنثاه.

كما أن ابن سينا درس الحيوانات ووصفها وصفًا علميًا دقيقًا، وعرض منها نماذج هامة، فتكلم عن العظام والغضاريف والأعصاب والشرايين والأوردة والأغشية والروابط، كما بحث في الحركة الإرادية واللاإرادية، ووصف مشاهداته العلمية، كما اقتبس كثيرًا من معلوماته عن الأجهزة العملية والهضمية والتناسلية والدموية عند الحيوانات خلال التشريح والمقارنة العلمية. 

حقًّا، إن الشيخ الرئيس ابن سينا كان ظاهرة فريدة في مسيرة الحضارة الإنسانية، حفظ القرآن وأجاد اللغة العربية ودرس الشريعة الإسلامية، وأتقن الفلسفة والمنطق والعلوم الرياضية والطبيعية قبل أن يُتمَّ العقد الثاني من عمره، وقد اشتهر ابن سينا بوجه خاص في مجالي الفلسفة والطب وبرز فيهما ولا شك أن كتبه (الشفاء) و (القانون في الطب) و (الأدوية القلبية) يتصدرون نفائس الكتب في تاريخ البشرية جمعاء. وقد ظل كتابه (القانون في الطب) حتى القرن السابع عشر المرجع الطبي الوحيد في جامعات أوروبا، وقد ترجم إلى اللاتينية وطبع أكثر من عشرين مرة في حين لم يطبع كتاب جالينوس سوى مرة واحدة، ومن خلال مقارنة الكتابين قال المستشرق كامتون: "ما على الإنسان إلا أن يقرأ جالينوس ثم ينتقل إلى ابن سينا ليرى الفارق بينهما، فالأول غامض والثاني واضح كل الوضوح". 

إن عطاء ابن سينا في كافة المعارف الإنسانية لهو عطاء زاخر وانتاج وافر، لقد ألَّف ما ينوف عن مائتين وخمسين مؤلفًا بين كتاب ورسالة ومقالة في كل من الرياضيات والمنطق والطبيعيات والفلسفة والطب، وكان إنتاجه متميزًا بتنوعه وعمقه وغزارته إلى جانب توفر الدقة وحسن الترتيب، لقد جمع ابن سينا في مصنفاته حكمة المفكرين الأقدمين من علماء المسلمين واليونان والهنود وبقيت مؤلفاته تتداول في جميع أنحاء العالم وتدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، فلا غرو إذن أن تتنازع دول كثيرة في الشرق نسبته إليها، وأن تقام احتفالات مهيبة تخليدًا له ولأعماله.    

لقد أدى ابن سينا رسالته في الحياة على أفضل وجه وحرَّك عقليته المتفتحة وأفكاره المتوهجة ومواهبه المتعددة في الميادين العلمية المختلفة، فاستحق بجدارة أن يكون علمًا بارزًا في الحضارة الإسلامية ونجمًا ساطعًا في سماء التراث الإنساني.


عدد القراء: 4962

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-