من تراث العرب في الهندسة والفلك والرياضياتالباب: مقالات الكتاب
أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض |
يُعد تراث الإغريق الفكري والعلمي المصدر الرئيسي لعلوم العرب، حيث استقوا منه علوم الفلسفة، وأفادوا منه في علومهم وتراثهم وحضارتهم، إذ يعد العرب أول من تتلمذ على أيديهم من بين الشعوب الأخرى، والفضل يعود إلى الله عز وجل، ثم إلى ما كان لدى العرب من عبقرية علمية وإلهام فكري ونشاط ذهني مكنهم من ذلك، ولذا حافظوا على تلك العلوم التي ورثوها وتعلموها من الإغريق، وصانوها من الإهمال والتلف والضياع، وعملوا على تطويرها وتقدمها، بل وأتموا الناقص منها، وأكملوه وأخرجوه بشكله النهائي.
لم يكن الإغريق يتبعون في دراساتهم طريقة البحث العلمي المعروفة في عصرنا الحاضر، وهي التي ترتكز على التجربة والاستقراء والقياس والملاحظة والمحاكاة، ثم صياغة القوانين والعمل على برهنتها والبحث في صحتها والتحقق منها، ولم يعيروا اهتمامًا بصنع الأجهزة التي تمكنهم من التعرف على ما يحيط بهم من ظواهر طبيعية عن طريق التجربة العلمية، بل كان جل همهم السعي وراء تكوين فكرة شاملة متكاملة عن الكون وعن النظم التي تحكمه وتسيره وتتحكم فيه وتسيطر عليه.
لقد كان الإغريق يقدسون العمل الفكري، ولكن في الوقت ذاته يحتقرون الصناعات والمهن اليدوية، إذ كان العمل اليدوي - في اعتقادهم - مناطًا بالعبيد دون سواهم، ولقد بلغت هذه النظرة ذروتها في عهد أفلاطون الذي يؤثر عنه قوله: "إننا في حياتنا نكون أقرب إلى المعرفة طالما اجتنبنا ملامسة أو تداول الجسم ما كان ذلك ممكنًا، وطهرنا أنفسنا من ذلك إلى أن يحررنا الإله!"، فمن هذا القول يتبين أن العلم كان عند الإغريق يقوم على الطرق التجريدية والاستنباطات العقلية والآراء الفلسفية التقليدية، بينما أنه على العكس من ذلك عند العرب المسلمين، حيث تقوم دراساتهم العلمية على التجربة والمشاهدة والاستقراء، وبذلك يكون لهم الفضل والسبق في إرساء دعائم ما نعرفه اليوم بالمنهج التجريبي.
ولقد استأثرت الرياضيات باهتمام العرب وكانت موضع عنايتهم بسائر فروعها: الحساب والجبر والهندسة وحساب المثلثات فنالت حظًّا كبيرًا من نشاطهم وحظيت بنصيب وافر من جهودهم، إذ عملوا على إثرائها والانتقال بها من حالتها البدائية إلى الشأو الذي قطعته والدرجة التي بلغتها بعدئذ في عصورها الحديثة الزاهية.
ولقد تجلى منهج العرب في الرياضيات والهندسة من خلال ما توصلوا إليه، وحصلوا عليه من معادلات وقوانين في المجالين النظري والعملي شكلت نقطة انطلاق لكثير من النظريات العلمية الحديثة والمعاصرة. أما المنهج العلمي الذي انتهجه العلماء العرب، فقد انطلقت أبحاثهم وتجاربهم من الواقع ففسروا الظواهر الطبيعية وعللوها بعيدًا عن أي اعتقاد واهن أو رأي غيبي، وكانوا يبغون الحقيقة لذاتها مجردة عن أي ميل وخالصة من أي هوى، فلم يكن هدفهم كسبًا ماديًّا أو طمعًا في شهرة وإنما كان رائدهم الجد في العمل وسبر المجهول والبحث عن الحقيقة، ولم يكن ذلك آتيًا من فراغ، فقد دعا القرآن المجيد في كثير من آياته إلى الاعتبار والتبصر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) الحشر: 2، وإلى النظر والتأمل: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الأعراف:185، وإلى النهل والاستزادة من العلم: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه 114، وإلى توقير منزلة العلماء: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر:9، وإلى الإشادة بقيمة العلم وفضله: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) النمل: 15، وإلى السمو والرفعة بقيمة العلم والعلماء بقوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)المجادلة: 11 ، ويحصر أبو الريحان محمد البيروني أحد عمالقة علماء العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية (362-443 هـ) الشروط اللازمة للبحث العلمي بمعرفة الثقافات السابقة والإحاطة باللغات المختلفة وقيام المرء بالكثير من الأسفار وحيازة الكتب واقتناء الأدوات، إذ يقول في هذا الشأن: "وعمر الإنسان لا يفي بعلم أخبار أمة واحدة من الأمم الكبيرة علمًا ثاقبًا، فكيف يفي بأخبارها جميعها؟، فالواجب علينا أن نأخذ الأقرب فالأقرب والأشهر فالأشهر، ونحصل عليها من أربابها، ونصلح منها ما يمكننا إصلاحه، ونترك سائرها على التعرف في غيرها ومرشدًا إلى ما لم يتهيأ لنا..." انتهى، وعلى هدي ما قاله البيروني هنا ندرك أن العرب أنجزوا أعظم المكتشفات العلمية، ولعل أشهرها اكتشافهم الصفر، وبه ابتدعوا حساب الحياة اليومية، وجعلوا الجبر علمًا متقنًا، وتقدموا به، ووضعوا أسس الهندسة التحليلية، وهم بلا منازع موجدو علم حساب المثلثات للأجسام المستوية والمخروطية والكروية، الذي لم يكن للإغريق فضل في وجودها إذا ما توخينا الحقيقة والإنصاف، كما حفظوا لنا - بفضل ترجماتهم- عددًا كبيرًا من كتب الإغريق وأبحاثهم التي اندثرت معالمها واندرست أصولها. لقد كان للعرب بحق تأثير عظيم على ما توصل إليه الغرب من مكانة علمية، فهم (أي العرب) الذين ارتقوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل فيه نضال المستميت للانعتاق من نير البربرية وأغلال الكنيسة، وواصلوا نشاطهم إلى أن وصلوا إلى قمة ذلك النشاط في القرنين التاسع والعاشر، وبدءًا من القرن الثاني عشر كانت مراكش والشرق محط أنظار كل غربي يؤخذ بالعلوم ويتذوقها ويميل إليها. وفي هذه الحقبة طفق العلماء في أوروبا يترجمون آثار العرب كما كان العرب قد ترجموا آثار الإغريق. وهكذا كان العرب بمثابة حلقة وصل بين الثقافة القديمة والحضارة الجديدة عندما كانت النفس العربية في عهد الإحياء العلمي لتمتلئ ثانية بحب المعرفة والاستقصاء، ولتتنبه بوميض العبقرية العلمية، فإن هي أفلحت في هذا المسعى فما ذلك إلا لأن نفسية العرب قد حفظت وأكملت مختلف فروع العلم، وصانت روح البحث العلمي حية تائقة للتحرر والحركة متهيئة للمكتشفات المقبلة.
إن العصر العباسي لهو العهد الذي بدأت فيه حركة العلوم العربية المؤيد بالوثائق، ففي حكم الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور انتقلت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية وحاضرة خلافتها من الجزء البيزنطي إلى الجزء الفارسي، وبنى المنصور مدينة بغداد عام 145 هـ (762م) وكان في بلاطه عدد من العلماء والمهندسين والرياضيين والفلكيين ووضعت خارطة المدينة بإشراف الوزير الشهير خالد بن برمك، وفي العام 154 هـ (770م) قام فلكي اسمه يعقوب الفزاري بترجمة رسالة في علم الفلك على الطريقة الهندية، وكان الفزاري أول من عمل إسطرلابًا من المسلمين، كما قام عمر بن الفرّخان المتوفى سنة 200 هـ (815م) وكان صديقًا للوزير يحيى البرمكي وأحد مهندسي ومعماريي مدينة بغداد بترجمة بعض الكتب عن الفارسية في الهندسة وبخاصة شرح كتاب "المقالات الأربع" في الفلك لبطليموس. وهذه الحركة العلمية التي بدأت في عهد المنصور انتشرت واتسع نطاقها في عهد حفيده المأمون، وكان المأمون عالمًا وفيلسوفًا جم الثقافة غزير المعرفة واسع الاطلاع، فقام بجمع كتب الأقدمين وتأسيس دار لترجمتها والعناية بها والحفاظ عليها.
وبالنسبة للحساب والجبر فقد ازدهرا أيضًا إلى جانب الفلك، وكان هذا في عصر الخوارزمي الشهير، وهو من خوارزم في أوزبكستان (توفي سنة 235هـ)، وهو الذي تنسب إليه اللوغريتمات، وقد ألف كتابًا في الفلك وآخر في الهندسة والحساب وكتابًا آخر في الجبر يعالج المعادلات من الدرجة الثانية، ويبحث في عمليتي الضرب والقسمة، وقد ترجمت كلها وبكاملها إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن كتبه المشهورة كتاب "الجبر والمقابلة"، الذي جمع فيه كثيرًا من القوانين والأمثلة، وقد وضعه نزولاً عند رغبة الخليفة المأمون الذي شجعه على وضعه، ليكون دليلاً للناس في حل مسائلهم المستندة على الحساب: كمسائل الوراثة والوصايا والمقاسمة والتجارة، ويكون كذلك مرجعًا للمعنيين بالتعامل مع مسائل المساحة والهندسة، وبذلك اشتُقت كلمة الجبر من اسم هذا الكتاب.
من المعلوم بأن الصفر في النظام الرقمي هو أهم شيء، لأنه يساعدنا على وضع الأرقام في سلسلة مضاعفات العشرات والمئات والآلاف إلخ، ولو لم يكن لدينا الصفر للزمنا استعمال جدول ذي حقول: حقل للآحاد وآخر للعشرات وآخر للمئات وهكذا، ولم تعرف أوروبا الصفر إلا في القرن الثاني عشر، حين بدأ الحسابيون المسيحيون يكتبون رسائل في علم العدد والأرقام من غير حقول ويكملونها بالصفر.
وفي أثناء حكم الخلفاء الذين عقبوا المأمون، وعلى الأخص المعتضد نبغ عدد من العلماء الذين أناروا الحياة العقلية العربية بضياء ساطع، وعرفت القرون الوسطى أكثرية هؤلاء النابغين، فحصل تقدم عظيم في الدراسات الهندسية والأشكال المخروطية، بحيث صارت تجلب الأنظار، وتسترعي الانتباه. ويعد ثابت بن قرة الحراني من بلاد ما بين النهرين أعظم عالم عربي هندسي نابغ على الإطلاق، حيث قام بترجمة الكتب السبعة من أجزاء المخروطيات في كتب أبلونيوس الثمانية إلى العربية، كما مهد لحساب التفاضل والتكامل وحل بعض المعادلات التكعيبية بطرق هندسية استعان بها علماء غربيون مثل "كاردان"، كما كان من أوائل المشتغلين والمهتمين بالهندسة التحليلية، حيث ابتكر فيها نظريات وقوانين كثيرة.
إن الدراسات الجادة في التراث العلمي العربي تكشف لنا كل يوم سبقًا جديدًا وفضلاً أكيدًا للعرب في شتى مجالات الفكر المبدع ومناحي المعرفة الإنسانية، فتتعالى أصوات منصفة تشيد بالعلم العربي عامة وبجهد العرب في العلوم الهندسية والفلك والرياضيات خاصة، ينهلون من نبعه الثر، ويرتوون من معينه العذب ليكملوا مسيرة الحضارة الإسلامية التي سطعت بنورها، وبعثت إشعاعها وأضفت طابعها الأصيل على هذه البسيطة زهاء قرون ثمانية بخطى ثابتة، وذهن ثاقب، وعبقرية فذة، وفكر لا يغيض.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- كيف نعي ونتقي مخاطر الكهرباء المحتملة ؟
- ترشيد وحسن استخدام الكهرباء
- الاستشعار عن بعد: ماهيته ... أهميته ... تطبيقاته
- من تراث العرب في الهندسة والفلك والرياضيات
- الطاقة الذرية والمتجددة .. قوة دافعة نحو توطين التقنية وتأصيل المعرفة
- مع ألبير كامو وعالم العبث والتمرد
- اهتمامات وطنية وإقليمية وعالمية باللغة العربية
- ذكْر الحيوان والحشرات في القرآن الكريم وفي أمثال وأشعار العرب
- الإنسان والبيئة
- التقنية ... بين النقل والتوطين 1-2
- التقنية ... بين النقل والتوطين2-2
- ترجمة وتعريب العلوم ضرورة حتمية .. أين نحن منه؟
- الخلايا الشمسية بداية عصر جديد للطاقات المتجددة
- إشكالية التعريب في اللغة العربية
- نظرة القرآن الكريم للشعر والشعراء
- مع الكهرباء وبعض جوانبها الداكنة
- ما مدى الحاجة لامتلاك الطاقة النووية
- استراتيجية الحد من المخاطر والكوارث المحدثة
- فضل العرب على الإنسانية في المجالات العلمية
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (ابن سينا) (370 - 427) هـ (980 - 1037) م
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (أبو الريحان البيروني)
- صفحات مضيئة من تاريخ الكرم العربي
- الأبُوَّة والبُنوَّة فِي الإسْلام
- من جماليات لغتنا العربية
- التواضُع منْ صِفَات الأنبياء والرُّسل عليْهم السَّلام
- لمحات من بلاغة القرآن الكريم
- العلاقة بين النظريات الفيزيائية والكهربائية
- الطاقة الكهربائية وارتباطها بالتنمية الحضرية
- من إفرازات الحقبة التنويرية: دون كيشوت مصارع طواحين الهواء
التعليقات 1
ماشاءالله مقال جميل
اكتب تعليقك