التقنية ... بين النقل والتوطين 1-2الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 18:55:47

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

"التقنية" هو التعريب الذي اقترحه مجمع اللغة العربية بدمشق واعتمدته الجامعة العربية وبعض الدول العربية كمصطلح مُصاغ ومُعرّب من لفظ "التكنولوجيا". والتكنولوجيا كلمة أعجمية ذات أصل يوناني، تتكوّن من مقطعين، كلمة "تكنو" والتي تعني حرفة أو مهارة أو فن، وكلمة "لوجي" التي تعني علم أو دراسة ليصاغ الكل في كلمة "تكنولوجيا" بمعنى علم الأداء أو علم التّطبيق؛ وهي من أهم ظواهر ومعطيات العصر الحديث بل ومن أكثرها إثارة للتساؤلات والتفسيرات والجدل لما لها من عميق الأثر وأبعده في أداء الإنسان المعاصر ومناحي حياته المختلفة في الطب والزراعة والهندسة والميكنة والاتصالات ووسائل إنتاج الطاقة واستخداماتها المتنوعة.

يعد نقل وتوطين التقنية من الركائز الهامة التي تعتمد عليها الدول النامية لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفع يضعها في قائمة الدول المنافسة في مجال التصدير وتقليل الاعتماد على الواردات من دول أكثر تقدمًا اقتصاديًّا وتقنيَّا. ولقد تباينت اتجاهات وآراء العلماء والمفكرين حول التقنية الحديثة، إذ يرى المتفائلون منهم أنها ستسهم بدور فعّال في دفع العجلة الاقتصادية والصناعية خطوات إلى الأمام لإنجاز الأعمال وتحسين وسائل الإنتاج وتحقيق مستويات أفضل للحياة الإنسانية، بينما يذهب المتشائمون منهم إلى أنها قد تسهم في تجميد طاقات الإنسان الذاتية وتعطيل قدراته العقلية وملكاته الإبداعية.

لقد كان للتقدم العلمي والتقني المذهل في عالم اليوم دور كبير في التأثير على ميادين الحياة المختلفة وتسهيل أساليب العمل واختصار الوقت وتطوير وسائل الإنتاج لرفع كفاية المُنْتَج وتحسين نوعيته. وإذا كانت التقنية تمثل عملة ذات وجهين فإن الوجه الآخر يمثل ارتكازها أساسًا على إبدال الإنسان بالآلة وبالتالي تتبدّى بعض الجوانب السلبية لها.

إن استيراد التقنية من الدول الصناعية المتقدمة قد يكون أمرًا سهلاً وميسورًا وبخاصة إذا توفرت الموارد الاقتصادية والبشرية في الدول المستوردة، وحيث إن عملية الاستيراد قد تستقطع جزءًا كبيرًا من الموارد والإمكانيات المادية إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل لتطويع التقنية والاستحواذ عليها وامتلاكها وتوطينها. إن الحل الأمثل ربما يكمن في مدى الاستعداد والأخذ بزمام المبادرة في عملية النقل والتطويع والتوطين. ولكي تكون عملية التوطين والاستفادة من التقنية مجدية يجب أن تتم من خلال عملية منظمة للتنمية الذاتية التي ترتكز أساسًا على بناء الفرد وتأهيله وتوجيهه الوجهة الصحيحة، ثم تأتي بعد ذلك عملية الاختيار الواعي بين أنواع التقنية المتباينة واكتساب وتوطين أفضلها والذي يلبي الاحتياجات الفعلية والأساسية للمجتمع. وعند عملية الاستحواذ على التقنية يجب أن يكون هناك معايير وضوابط محددة، منها التواؤم مع طبيعة المجتمع وقيمه الإنسانية والأخلاقية ومرتكزاته الدينية والروحية، لأن التقنية وإن نجحت في مكان ما فليس بالضرورة أن يكون هذا معيارًا للنجاح في مكان آخر.

ولعل التعليم وإعداد الكوادر البشرية المؤهلة لهو المرتكز الأساس لضمان نجاح عملية تطويع وتوطين التقنية فاستثمار الطاقات البشرية وتأهيلها هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها الدول كمطلب جوهري في نموها وازدهارها اقتصاديًّا وثقافيًّا وتقنيًّا.

وهناك عوامل كثيرة تؤثر في نقل التقنية من الدول المتطورة إلى الدول النامية، منها على سبيل المثال العامل العقائدي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك كفاية الموارد وتوفر العامل البشري المؤهل كما تبقى للسياسات الدولية تأثيرها في عمليات النقل وتسارعه.

إن الاهتمام بالتقنية هو مطلب ملح حيث إنها من أهم روافد تقدم دول العالم المعاصر ماديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، فإن ما أنجزته اليابان مثلاً بسبب تقدمها التقني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لخير دليل على ذلك فقد تحولت خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا من دولة محطمة متداعية إلى دولة ناهضة تنافس الدول الصناعية الكبرى بريادتها العلمية وسبقها الصناعي وتفوقها التقني.

إن من جملة الأهداف التي نسعى لها من خلال نقل التقنية أن نطوعها بما يناسب قدراتنا البشرية ومواردنا الاقتصادية فالطموح إلى حياة أفضل لهو الشعار الذي ترفعه الأكثرية الكبرى من الشعوب النامية في عالم يعج بالحركة والإنتاج والتقدم العلمي المذهل. إن الإبداع والتطوير في التقنية هو أحسن طريق يؤدي للتفوق والنهوض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري.

والتقنية هي إدراك ِحسّيٌ لتفاعل العقل مع الآلة وابتكار مكوناتها وأدائها، وهذا التفاعل بين التقنية الحديثة والقيم الأخلاقية هو حجر الزاوية للحضارة الإنسانية، والتقنية هي معالجة للمصادر الطبيعية كشيء يستغل اشباعًا لرغبات الإنسان والتركيز على إثبات وجوده في هذا الكون.

والتقنية تأتي على أساس الأهمية المعارة للمعرفة كمصدر للفهم ومقياس للنوع كذلك التنظيم الواعي في تنمية الفكر الإنساني كجزء من اكتناه المجهول والبحث عن الحقيقة، إذن نحن الآن في مواجهة تقنية نوعية وتجربة فريدة في تطويعها وتوطينها. إن السيطرة على النوعية في تحقيق مستويات الكفاية والجودة وتحسين وسائل التدريب وتطوير الأبحاث كلها أمور مرتبطة بالجانب البشري الذي يكاد يكون أهم العناصر في نقل التقنية المتطورة إلى البلدان النامية، ومهما يكن من أمر فإن توطين التقنية في بلد ما يخدم عملية التنمية كما أن عملية التنمية تخدم عملية توطين التقنية، ومن شأن العوامل البشرية أن تدعم هذه العلاقة بين توطين التقنية ونموها. ويأتي هذا الدعم من خلال عملية الضبط البشري في الاتجاه الموازي لمقومات واحتياجات التنمية ولإحباط التحديات التي تواجهها في وقت واحد، ومن شأن هذا الدعم أن يكسب الصناعة تفوقًا في الأداء لحساب النمو والتطور، وقد يدعو التوطين لحساب النمو أو النمو من خلال التوطين إلى استقطاب صناعات وابتكارات جديدة لكي تقوم وتتكامل معها.

إن الحضارة (أي حضارة إنسانية) تقوم على التغيرات التقنية المستجدة وهي شكل من أشكال الثقافة التي يتعلمها الإنسان وتصبح بالنسبة له من المقومات الرئيسة في ارتباطه بالحياة واستمراره بها، فـالمـعرفـة الـتقـنية والعلمية التي في متناولنا تكفينا للـقـضـاء على أعـدائـنـا الأربعة: الفقر والجهل والتخلف والمرض وتهيئ لنا كذلك بيئة نظيفة آمنة نعيش في كنفها حياة أفضل.

إن الأمل الأكبر معقود على دَور العلم ومؤسساته كقوة علمية ومعرفية موجهة في أي مجتمع منوط بالتقنية ومعطياتها، فالإنسان المعاصر يزداد تفهمًا للاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة والاكتشافات المستجدة مما يحفزه على التعمق في البحث والاستقصاء ومن ثم الابتكار والاكتشاف، ولذا تم اكتشاف الفضاء وتسيير المركبات الفضائية للاتصالات واستغلال الطاقة الشمسية والتحكم عن بعد وتحلية المياه وتحولات الطاقة من صورة لأخرى ونقل الصور على موجات محملة، كذلك استنباط الموصلات وأشباه الموصلات والمفرطة في التوصيل والدوائر المتكاملة والخلايا الضوئية، وكل (أو جل) هذا أدى إلى التصميمات الدقيقة والموجات المتناهية الصغر وتخزين الطاقة في خلايا دقيقة.

وفيما يلي سنستعرض بعضًا من تجارب دول كانت تعد من دول العالم الثالث بيد أنها تبنت التقنية واتخذت منها مطية لتنطلق بها في مناحي التنمية والتطور والارتقاء والتصنيع، لعلنا من هذه التجارب نستلهم دروسًا وعبرًا تضيء أمامنا الطريق وتزيل منه العقبات وتعودنا على الصبر والتأني وبذل الجهد الدؤوب والعمل الجاد في تبني هذه الظاهرة العجيبة في عصرنا الحديث من أجل الوصول إليها والحصول عليها وتوطينها في بلداننا العزيزة.

التجربة الهندية:

الهند موئل الديانات المختلفة واللغات المتعددة والطوائف المتباينة ما فتئت في أذهان العالم العربي وبخاصة في دول الخليج العربية بلاد متصفة بسمة الفقر والعوز والتخلف حيث نرى انتشار العمالة الهندية لدينا تمتهن وظائف متدنية وتمارس أعمالاً شاقة وكل ذلك لقاء أجور زهيدة، بيد أن الهند مع بداية التسعينيات الميلادية بدأت تخطو نحو الازدهار وبخاصة في مجال تقنية المعلومات وصناعة البرمجيات الحاسوبية حيث نجحت فيه وتمكنت معه في استقطاب الشركات العالمية في مجال تقنية المعلومات وصنع البرمجيات والتي أصبحت مدينة بنجالور في وسط الهند مركزًا عالميًّا لشركات تقنية المعلومات حيث تشير البيانات من واقع سجلات اتحاد شركات البرمجيات الهندية (تاسكوم) أن مبيعاتها من قيمة البرمجيات وخدماتها الفنية قفزت من 6 مليار دولارًا في عام 2002 إلى ما يربو على 100 بليون دولارًا في نهاية عام 2015. ونتيجة لنجاح الهند في توطين تقنية المعلومات في مجتمعاتها فلقد انتشر خبراء التقنية الهنود في أسواق العمل العالمية في مجال تقنية المعلومات. ومن نتائج هذا الاكتساح التقني أعلنت شركة أوراكل قبل سنتين تقريبًا عزمها على زيادة عدد موظفيها في الهند إلى الضعف أي من ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف خلال سنة واحدة فقط حتى أضحت الهند مركزًا رئيسًا للدعم الفني لهذه الشركة وغيرها من الشركات العالمية مما أتاح لهذه التقنية خلق فرص وظيفية وافية وراقية لمواطني الهند مما يدل على المستوى المعرفي التقني الذي تقوده صناعة المعلومات، ولم يتأتى هذا النجاح الباهر من فراغ إنما ارتكز على عدة دعائم من أهمها الكثافة السكانية الهائلة في الهند والتي تعد ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان ويساعد على ذلك انتشار المؤسسات التعليمية المتخصصة في إعداد المؤهلين في مجالات تقنية المعلومات، أما الدعامة الثانية فهي العامل اللغوي المتمثل في كون اللغة الإنجليزية هي اللغة المهيمنة في الهند وهي بالتالي المهيمنة على قطاع تقنية المعلومات مما ساعد مثل ذلك على توجه الشركات الهندية إلى الاهتمام بجودة المنتج والحصول على شهادات الجودة من منظمات عالمية معترف بها على مستوى العالم. لذلك كله أضحت الهند دولة رائدة في تطوير حلول برمجيات متقدمة تبدى ذلك في العديد من الممارسات الناجحة لها في ميادين متعددة مثل أساليب التجارة الإلكترونية وقواعد البيانات بكل أنماطها وأنماط المحاسبة والنشر الإلكتروني مما حفز الشركات العالمية للاعتماد على مثل هذه الطرائق وتبنيها وتطبيقها. إن ما أحرزته الهند في مضامير تقنية المعلومات وصناعة البرمجيات ليعتبر بكل المعايير نجاحًا باهرًا لم يأت بمحض الصدفة بل تمخض عن تخطيط واع وعمل متقن وتنفيذ سليم.

التجربة الكورية:

استطاعت كوريا الجنوبية إنجاز قفزة سريعة في مسيرة انطلاقتها وتطورها وحققت نهضة شاملة في كل المجالات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو التقنية أو التعليمية مما مكنها أن تتبوأ موقعًا مرموقًا في الاقتصاد العالمي، ولا غرو أن هذا النمو السريع والنجاح الباهر كان نتاج التجربة الرائدة في ميدان التطور الشامل الذي تميزت به كوريا الجنوبية بل وانفردت به دون غيرها من دول العالم الأخرى.

وقد كانت هذه التجربة جد قاسية بالنسبة لكوريا حيث تعرضت لدمار كبير بعد استقلالها من الاحتلال الياباني عام 1945 وحتى بعد الاستقلال حيث انقسمت كوريا إلى كوريتين جنوبية وشمالية حيث تكبدت الجنوبية جراء هذا الانقسام والصراع بينهما الكثير من مرافقها الحيوية كمحطات الكهرباء والمساكن والمصانع، هذا بالإضافة للخسائر البشرية التي وصلت إلى 400 ألف قتيل، ولكن في عام 1961 بدأت كوريا الجنوبية الخروج من ذلك النفق المظلم وتلك الفترة الحالكة والتي تمثلت في التوجه إلى تأميم المصانع والوحدات الإنتاجية لتوجيهها إلى إنتاج ما تحتاجه الدولة وفقًا لرؤيتها، إضافة إلى تبني سياسات تسعى إلى تحفيز الصادرات، بهدف توفير العملات الخارجية التي تساعد على تدعيم ميزان المدفوعات وتوفير الموارد المالية اللازمة لشراء احتياجات الدولة من الأسلحة والتقنيات اللازمة للإنتاج، لذا كان ثمة اهتمام نحو التوسع في تأسيس قطاعات اقتصادية جديدة وتبني سياسات تعليمية حديثة من شأنها زيادة حجم الاستثمارات والصادرات، كما أن كوريا الجنوبية تبنت توجهًا نحو الاقتصاد الحر لترك مساحه أكبر للقطاع الخاص للمشاركة في التنمية التقنية والاقتصادية والصناعية. ويعد القطاع الصناعي من أهم القطاعات في كوريا الجنوبية حيث توسعت في الصناعات التقنية بفضل التطور الكبير في سياسات التعليم والدخول في مجال النانوتقني وصناعة المتحركات الآلية (الروبوتات)، كما اهتمت كوريا الجنوبية بصناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية وبناء السفن، وتقنية المعلومات، فعلى سبيل المثال جاءت شركة "سامسونغ" للإلكترونيات، على رأس القائمة في الأجهزة المنزلية، مثل التلفزيونات والشاشات وأجهزة الاتصالات، حيث بلغت مبيعاتها في العام الماضي 48.2 بليون دولارًا، تليها شركة "إل جي إلكترونيكس" حيث إذ بلغت مبيعاتها 36 بليون دولارًا، وبالنسبة لصناعة السيارات، جاءت شركة "هيونداي موتورز"، وشركتها الشقيقة "كيا"، ضمن قائمة أفضل 10 شركات إذ بلغت مبيعاتهما 51.9 بليون دولارًا.

 التجربة السنغافورية:

تُعد سنغافورة محورًا تقنيًّا ومرتكزًا اقتصاديًّا هامًا لمنطقة جنوب شرقي آسيا، كما أنها في قطاعات الصناعة التحويلية لهي واحدة من الدول الأعلى من حيث معدلات الناتج المحلي الإجمالي في العالم. كما أنها من بين الدول الأفضل في العالم في قطاعات الخدمات العامة كالمطارات والموانئ وشبكات الطرق. ويعتمد اقتصاد سنغافورة بشكل كبير على التجارة الدولية إذ أن صناعاتها الرئيسة تشمل الإلكترونيات والخدمات المالية ومعدات حفر آبار النفط وتكرير النفط وتصنيع الأدوية والمواد الغذائية المصنعة والمشروبات، ومنتجات المطاط وإصلاح السفن. وفي السنوات الأخيرة، تحركت الحكومة للحد من الاعتماد على تصنيع وتصدير الإلكترونيات من خلال تطوير قطاع الخدمات، فضلاً عن الصناعات التقنية الحيوية والكيميائية والبتروكيميائية، ودفعت السكان في سنغافورة الصغيرة نحو الاعتماد على الأسواق الخارجية والتوجه نحو الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة والأسواق العالمية، وقد تم هذا بفضل السياسات الحكومية التي تعزز التنمية الاقتصادية والعوامل الأساسية في الأداء الاقتصادي القوي لسنغافورة إقليميًّا وعالميًّا. وقد واصلت الحكومة تطلعاتها إلى الخارج في سياستها الاقتصادية الموجهة التي تبنتها نحو التصدير وتشجيع التدفقات البينية للتجارة والصناعة والاستثمار، كما نهجت سنغافورة السياسة التجارية للعمل مع الدول ذات الآراء والتوجهات المتشابهة مثل أستراليا لتعزيز قضية التجارة الحرة لا سيما من خلال منظمة التجارة العالمية والمحافل الإقليمية. ومن الجدير بالذكر أن سنغافورة برعت إلى حد كبير في سوق "المدن الذكية" وقد أملى ذلك التوجه لديها صغر مساحتها واكتظاظ السكان والتوسع الحضري فيها، مما حداها إلى حل مشاكل الازدحام والتنقل وضمان السلامة وتحسين تدفق الحركة المرورية، وقد أشارت التقارير إلى قيام سنغافورة بنشر عدد هائل من أجهزة الاستشعار وكاميرات الدوائر المغلقة في جميع أنحاء المدينة من أجل تحليل الكثافة والاختناقات المرورية، مما يمكن المسؤولين من تغيير مسار الحافلات في ساعة الذروة وتجنب الاختناقات المرورية كما أنها قادرة على التنبؤ بالكيفية التي يمكن للمباني الجديدة وبخاصة الشاهقة (ناطحات السحاب) أن تؤثر على حركة الرياح وإشارات الاتصالات اللاسلكية، وخرائط احتمال انتشار الأمراض المعدية داخل تلك المباني.

لم تبلغ سنغافورة ما بلغته اليوم من تقدم وتطور في مجالات الصناعة والتقنية المتقدمة بسهولة إلا بعد عمر مديد وجهد جهيد منذ انفصالها عن ماليزيا في 9 أغسطس 1965 وفي ظل ظروف قاسية لاقتها إثر ذلك من تدهور وتخلف وفقر وانحطاط وقلة موارد وشح مياه إلى جانب تفشي الجريمة والفساد المالي والإداري والأخلاقي، ولذلك استطاع "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة وباني نهضتها الحديثة أن ينتشلها من كبوة التخلف والانحطاط والنزاعات العرقية وأن يوحد لغتها وأن يجعل منها دولة من أهم دول العالم كما كان يحلم حيث اعتمدت سياسته فرض قوانين صارمة وعقوبات رادعة حتى سميت ببلد القوانين، كما عمل على الاستثمار في الإنسان السنغافوري من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الإنساني والصناعي، ولكل هذه العوامل بمجملها شقت سنغافورة طريقها بعزم وقوة وثبات معتمدة على الثروة البشرية والكفاءات المتطورة والمناهج العلمية الحديثة والتي هي القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة.

إن من ينظر لسنغافورة اليوم ليراها كرابع أهم مركز مالي في العالم وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة وثالث أكبر مصدر للعملة الأجنبية حيث يصل إلى سنغافورة خمسة ملايين ونصف سائح سنويًّا، كما يبلغ معدل الدخل الفردي من الإنتاج القومي الإجمالي أربعة وسبعون ألف دولارًا في عام 2015 لتحتل سنغافورة بذلك الترتيب الثالث على مستوى العالم، مما أهلها لأن تتبوأ المركز المالي والتقني الأول في المنطقة، كما أن ناطحات السحاب بها صممت لأن تكون ذات أشكال هندسية جذابة هذا، بالإضافة إلى نظافتها وطيب هوائها وجمال مناظرها إلى جانب شموخ النخيل الوارفة والأشجار الباسقة والحدائق الخضراء النضرة لتجعل من سنغافورة بحق موئلاً للمتعة والراحة وقبلة للزوار والسياح.

 التجربة الصينية:

تُعد الصين في زمننا الحاضر الدولة العملاقة سكانيًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا، وبما أذهلت العالم وبهرته في كل مناحي الحياة بدءًا من التعليم الجاد وتطوير الفرد مصحوبًا  بالهمة والإصرار والعزيمة على صنع المستحيل وانتهاءً ببناء اقتصاد متين أهل هذه الدولة لأن تأخذ بزمام المبادرة وتنال قصب السبق في الهيمنة الاقتصادية بين دول العالم قاطبة. إن المشاهد والمتابع للتطور الاقتصادي والتقدم التقني الذي تحرزه وتحققه الصين ليصاب بالذهول والانبهار للكيفية التي اعتنقتها والأسلوب الذي تبنته في تحقيق هذه المعجزة الاقتصادية الفذة وتلك التقنية العالية الباهرة. لقد استحوذت الصين على جل (إن لم يكن كل) الصناعات والمتميزة بميزتين قل أن تجدهما معًا في أي منتج خدماتي آخر وهما الجودة والسعر، ولعل الأخير هو ما يجذب الغالبية العظمى من المشترين لابتياع السلعة وهذا ما أتاح للسلع والمنتجات الصينية حضورًا قويًا في الأسواق العالمية، حتى أننا ربما نجد صناعات وعلامات تجارية مرموقة قد انتقلت من بلدانها الأصلية إلى الصين، إذن كيف حدث هذا في بلد منغلق على نفسه حتى سنوات قليلة مضت؟ وما ‏هو الدافع ياترى لهذا التهافت على السوق الصينية من قبل الاستثمارات الأجنبية؟ ‏والتي ساهمت بصورة فعالة في نمو الاقتصاد الصيني بمعدلات عالية لم ‏تصلها الاقتصادات الصناعية الأخرى في العالم على مدى سنوات العقد ‏الماضي.‏ لقد تمكنت الصين من الحصول على التقنيات العالية المحتكرة قبلاً لدى الدول الصناعية ومواكبة الركب التقني بل واجتيازه وسبقه في كثير من الحالات حتى أصبحت التجربة الصينية للذكاء الاقتصادي والتقني مثلاً حيًّا وأنموذجًا متميزًا جديرًا بالدراسة والتأمل والتمحيص لاستخلاص ما من شأنه أن يسهم في التفوق العلمي والتطور التقني وتحقيق النهضة الاقتصادية والصناعية المأمولة لبلداننا العربية بمشيئة الله.

التجربة اليابانية:

خرجت اليابان من أتون الحرب العالمية الثانية مهزومة مدمرة متهالكة متداعية، بيد أنها نهضت من كبوتها وشرعت من جديد في بدء إعادة الإعمار والبناء الاقتصادي لتصبح قوة اقتصادية عالمية خاصة في الميدان التقني والصناعي بالرغم مما تعانيه من نقص كبير في مصادر الطاقة، حيث إن إنتاجها من هذه الصناعات التقنية يبقى ضئيلاً مقارنة مع الاستهلاك، وهذا ما يجعل اليابان أكثر البلدان الصناعية ارتباطًا بالخارج فيما يخص الحصول على موارد الطاقة رغم المجهودات المبذولة لإنتاج مصادر طاقات ذاتية بديلة تقلص من الفرق الشاسع بين الاستهلاك والانتاج، حيث من المعلوم أن لديها محطات نووية لإنتاج الكهرباء يقدر عددها بما مجموعه 54 مفاعلاً في محطات الطاقة النووية تغطي جزءًا كبيرًا من حاجة البلاد للطاقة، بيد أنها تقلصت منذ أن ضرب زلزال تسونامي اليابان في 11 مارس2011 وألحق أضرارًا كبيرة بمحطة فوكوشيما للطاقة النووية، الأمر الذي تم معه إيقاف العمل بجميع المفاعلات النووية المتواجدة في البلاد، وكانت هذه أكبر كارثة تمنى بها اليابان في مصادر طاقتها، ولهذا السبب ارتفعت المطالبات العامة ونادت بتغيير مصادر الطاقة النووية إلى مصادر الطاقة المتجددة التي قد تكون أقل تأثرًا في أوقات الكوارث وأخف ضررًا على البيئة، ونتيجة لهذه المطالبات وتلك الضغوط قامت اليابان بإعلانها عن نموذج المدينة الذكية "فوجيساوا" وهو المشروع الذي أطلقته شركة "باناسونيك" عملاق الإلكترونيات اليابانية المتقدمة، وتحت الشعار الجديد "الابتكار الذاتي والاستهلاك الأمثل للطاقة" ستقوم هذه المدينة الذكية "فوجيساوا" بتوفير خدمات طاقة مصممة لتنمية سبل المعيشة للجيل المقبل، مما يمكّن المواطنين من توليد الطاقة التي يستخدمونها في منازلهم من خلال الاستخدام الأمثل لتوليد الطاقة الشمسية، كما ستعمل على تحسين الأساليب المعيشية للأفراد من خلال استغلال الطاقة الشمسية إلى جانب تحقيق مزايا أخرى تتمثل في تطبيق معايير الأمان وإمكانية التنقل بحرية تامة والعناية بالمجتمع وتوفير الرعاية الصحية. وفي هذا السياق فإن اليابان تعد رائدة في تقنية الطاقة الشمسية (الفولتضوئية)، بل هي واحدة من أكبر أربع أسواق عالمية حتى الآن في صناعة وإنتاج الألواح الشمسية. وفي اليابان برزت الصناعة الإلكترونية كاختصاص ياباني وأحد رموز التفوق والنجاح لهذا البلد إذ تعد اليابان كأول بلد منتج للإلكترونيات في العالم، كما تتمتع العلامات التجارية اليابانية مثل سوني وفوجي وباناسونيك بشهرة عالمية عالية، كما تعد أيضًا أول بلد منتج لصناعة الأجسام المتحركة (الروبوتات) في العالم مما جعل هذه الصناعة تتبوأ شهرة واسعة ومكانة عالية في مجالات الإعلام الآلي والأجهزة الطبية والتعامل مع المواد الخطرة، هذا إلى جانب الآلات الناسخة ومعدات الاتصالات السلكية واللاسلكية. أيضًا تعد اليابان الأولى والرائدة في صناعة السيارات إذ تعد هذه الصناعة كإحدى القطاعات الرئيسة في اليابان والذي مكنها من أن تحتل المراتب الأولى في إنتاج السيارات (تويوتا، نيسان، هوندا)، كما نلاحظ هيمنة يابانية في تصنيع الدراجات حيث إن ثلاثة أرباع الدراجات في العالم هي يابانية الصنع (هوندا، كاوازاكي، ياماها). ولعل مما ساعد على موثوقية التقنية اليابانية هو تبينيها لمبدأ "الجودة النوعية" حيث لاقى هذا المبدأ صدى واسعًا في اليابان وتبنته جميع المصانع والمعامل والمختبرات حتى أصبح مطبقًا في جميع أنحاء اليابان بشكل جدي وملزم على كل السلع والمنتجات اليابانية الآن تخضع لاختبارات قاسية للكشف عن الخلل والعيوب المصنعية أثناء وبعد عمليات الإنتاج. ولقد أتبعت اليابان ذلك المبدأ بمبدأ آخر هو "الجودة الشاملة"، ولقد أدت تلك الخطوتان الهامتان إلى تحسن سمعة السلع والمنتجات اليابانية ورواجها على مستوى العالم بعد تعريضها لاختبارات الجودة النوعية الشاملة مما جعل المستهلك يقبل عليها نظرًا لجودتها وخلوها من العيوب المصنعية، والغريب في الأمر أن كثيرًا من الشركات والمصانع العالمية أساءت في ذلك الوقت فهم الحقيقة الجديدة الحادثة بالسوق وعزت ظاهرة اتجاه الزبائن لتلك المنتجات اليابانية إلى عامل السعر الأقل فعمدت إلى ضرب الأسعار وتخفيضها. وعلى أية حال فإن اليابان تعد قوة صناعية كبرى اعتمدت على تطوير التقنية والبلوغ بها إلى أقصى درجات التطور والتفوق والكمال.


عدد القراء: 7050

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-