لمحات من بلاغة القرآن الكريمالباب: مقالات الكتاب
أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض |
بلاغة القرآن الكريم من علامات إعجازه وفصاحة مفرداته ومتانة نظمه وانتظام دلالاته واستيفاء معانيه ودقة تعبيره وحسن بيانه. وقد كان العرب عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم معتادين على قول الشعر والتعبير من خلاله عن كل الأغراض والظروف والحالات التي يألفونها ويمرون بها يميلون إليها ويتعايشون معها كالمديح والهجاء والرثاء والغزل والتشبيب والوصف والاعتذار والفخر والحماسة، لقد عجبوا من بلاغة القرآن وهو جاء مدونًا بالنثر على النقيض مما عهدوه وألفوا عليه من الأشعار والمعلقات، حتى وقفوا في حيرة من أمر هذا الكتاب؛ فقد وجدوا له في أنفسهم تأثيرًا بالغًا، لا يجدونه لغيره من ألوان الكلام حتى قال فيه الوليد بن المغيرة أحد صناديد قريش وسادتها وأغنى أغنيائها: «لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن؛ والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإنَّ أسفَلهُ لَمُغدِق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه»، ومن غريب الأمر أن هذا الوصف أتى من رجل كان يُـكنُّ ضغينة شديدة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ومن سوء حظه أنه مات على غير الإسلام.
والآن وبعد هذه المقدمة البسيطة: هل سألت نفسك يومًا ما لماذا يجب على كل إنسان أن يدرسَ ويعي ويتفهَّم البلاغة وأن يعرف علومها ومقاصدها ومراميها وأسرارها؟، إذا درست البلاغة عرفت أوجه الإعجاز في القرآن الكريم وعرفت - كونك مسلمًا - أن تتدبر معانيه وتقف على دلالاته ومقاصده وترد على من يشكك فيه من الكيديين المغرضين ومن أعداء الإسلام الذين يكيدون للإسلام والمسلمين مشككين في آيات القرآن الكريم وألفاظه ومدّعين أنه غير معجز في كلماته ومعانيه، ولكن كيف أجابهم القرآن؟ يخاطب الله تعالى نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام بكلمة (قل) أي قل لهم يا محمد: (أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ ) هود: 13. لذلك نجد القرآن الكريم قد عرض أقوال منتقديه ومعارضيه وجاحديه بالتفصيل، وردّ عليهم بأسلوب علمي وإقناع منطقي ولم يترك المؤمنين حائرين أمام هذه الاعتراضات والتشكيكات بل خاطب تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا ) الفرقان: 33. ولو تأملنا آيات القرآن الكريم لنجد مئات الآيات قد تحدثت عن أقوال الكافرين والمبطلين والملحدين والمشككين بالقرآن وبلاغته وبيانه، بل إن القرآن حدثنا عما يدور في قلوبهم وما تخفي صدورهم!! ولكن لماذا هذا الكمّ الغزير من الآيات التي تنقل لنا ادعاءات المبطلين والمكابرين وتناقش أقوالهم وأفعالهم وتردّ عليها؟ لماذا، لأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله كما جاء في هذه الآية الكريمة: (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ) التوبة: 32. ولقد جاء هذا القرآن المُنـزَّل من عند الله آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، يسره اللّه على خلقه حفظًا وتلاوة وتفسيرًا، كما قال تعالى: (لَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ) القمر: 32. ومن الدلالات البيانية في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا) النساء: 2، فقد وجه المستشرقون سهامهم البائدة إلى هذه الآية الكريمة وقالوا: كيف يأتي التعبير القرآني مطالبًا إعطاء اليتامى أموالهم وهم لم يبلغوا سن الرشد؟ فيكون الرد عليهم بلاغيا أن (اليتامى) لفظ أطلقه القرآن الكريم باعتبار ما كان ويُقصد به (الراشدون) حيث إن (اليتيم) في اللغة هو الصغير الذي مات أبوه؛ ولا يعقل أن الصغير يأخذ المال ولكنه عندما يكبر ويصبح راشدًا يأخذ. أموال أبيه، وقد أطلق لفظ (اليتامى) باعتبار ما كان وهذه الكلمة في علم البلاغة (مجاز مرسل) علاقته (ما كان) ويقصد بها الراشدون فلولا فهمنا لعلم البيان والبلاغة ومعرفتنا بالمجاز المرسل ما استطعنا أن ترد على أعداء الإسلام وتضع أسهمهم في نحورهم وتدفعهم ناكسي الرؤوس مهطعين من الخزي والضعّة والصغار. ومن بلاغة القرآن أيضًا هو ما ورد في تفسير أبي المظفر السمعاني (426 – 489 هـ) في قوله تعالى: (ٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ) الحِجْر: 99، أي الموت. والسؤال هنا: أما كان يكفي قوله: (وَٱعۡبُدۡ رَبَّك)، فما جدوى إذن قوله: (حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ)؟ الجواب: لو اقتصر قوله على: (وَٱعۡبُدۡ رَبَّك) لكان إذا عبد مرة خرج عن موجب الأمر، فقال (حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ) ليداوم عليها إلى أن يموت. وهذه الآية امتداد لما جاء في معنى الآية التي ذكرت في سورة (مريم)، وهي قوله تعالى: (وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ) ريم: 31، أي أداوم على الصلاة والزكاة ما دمت على قيد الحياة. وهناك ألفاظ وردت في القرآن الكريم يطلق عليها "الألفاظ الاهتزازية" وهي ألفاظ تشعرك بشدتها وقوتها وتأثيرها من خلال تكرار حرفين متتاليين أو تكرار كلمة كاملة قوية اهتزازية لبيان أحداث في غاية الأهمية والأمر الجلل تتجلى فيها الروعة القرآنية المؤثرة نذكر شيئًا منه، فمثلاً عندما أخبرنا الله جلّ وعلا عن الأرض في الآية الكريمة: (إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا) الزلزلة: 1، تأمل هنا لفظة (زل زل) فهي تكرار حرفين. وعندما غضب الله تعالى على قوم صالح للذين عصوا أمر الله ورسوله وعقروا الناقة تأتي لفظة: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا ) الشمس: 14 فتأمل دم دم، وعندما تنكشف الحقيقة وبقوة عن ظلامة يوسف الصديق لبقائه سنوات طوال يقبع في غياهب السجن ظلمًا من قبل امرأة عزيز مصر زليخا تأتي لفظة (قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقّ) وسف: 51 فتأمل حصحص، وعندما يتحدث القرآن عن حدث مهم تقشعر له الأبدان يوم القيامة تأتي لفظة (كـَلَّآۖ إِذَا دُكَّتِ ٱلۡأَرۡضُ دَكّٗا دَكّٗا 21 وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا) الفَجر: 21. وعندما يتحدث القرآن عما أعدّ ﻷهل الجنة من نعيم تأتي لفظة: (مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرٖ وَعَبۡقَرِيٍّ حِسَانٖ) الرحمن: 76 فتأمل رف رف، وعندما يتحدث عن شدة ظلمة الليل تأتي هذه الآية: (وَٱلَّيۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ) التكوير: 17،فتأمل عس عس.
ونأتي إلى بلاغة مؤثرة تلامس شغاف القلب وهي الفرق بين (الأبوين) و(الوالدين) في القرآن الكريم. وهي معلومة رائعة تتجلى لنا فيها عظمة القرآن الكريم وبلاغته وروعته وجمال اللغة العربية فيه والتي نزل فيها آخر أعظم وأقدس الكتب السماوية المنزلة. إذا رأيت كلمة (الأبوين) فاعلم أن الآية قصدت الأب والأم معًا، مع الميل لجهة الأب، لأن الكلمة مشتقة من الأبوة التي هي للأب وليست للأم. أما إذا رأيت كلمة (الوالدين) فاعلم أن الآية قصدت الأب والأم، مع الميل لجهة الأم، فالكلمة مشتقة من الولادة والتي هي من صفات المرأة دون الرجل. لذا، كل آيات المواريث، وتحمل المسؤولية، والتبعات الجسام، تكون متبوعة بكلمة (الأبوين) ليناسب ذلك الرجل. فالرجل هو المسؤول عن الإنفاق، فميراثه مصروف، وميراثها محفوظ. قال تعالى: (وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) النساء: 11. وقوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ) يوسف: 100. أما في كل توصية ومغفرة ودعاء وإحسان إلا وتكون الكلمة (الوالدين) ليتناسب ذلك مع فضل الأم. قال تعالى: (وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ ) الأحقاف: 15. وقوله تعالى: (۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ ) الإسراء: 23. فسبحان الله العظيم، على دقة اللفظ وروعة البلاغة وحلاوة البيان في القران الكريم. إنه كلام رب العالمين تقدس في سماه وجل في علاه.
كما وجه بعض المغرضين الجهلاء طلقاتهم الطائشة على القرآن أيضًا ضاربين بعرض الحائط أن بلاغة القرآن الكريم ستقف لهم بالمرصاد حينما شككوا في ما جاء في هذه الآية: (إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ) يوسف: 36، قائلين إن القرآن لا يستطيع التعبير، لكن بلاغة القرآن الكريم ترد عليهم بأن (الخمر) المراد به العنب وهذا في علم البيان يطلق عليه (المجاز المرسل) باعتبار ما سيكون. وفي موضع آخر حاول أعداء الإسلام أن يوجهوا رماحهم المسنونة على قرآننا الكريم الذي سيظل إلى يوم الدين في منأى عن تطاولهم وأباطيلهم وادعاءاتهم وذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ) فاطر: 28 محاولين التشكيك فيه ومدعين أنه مُحرَّف - حاشا لله ذلك - فقد حفظه الرحمن في السموات من عبث المردة والشياطين وحفظه في الأرض من المبطلين والمشككين إلى يوم الدين، وهؤلاء يُرد عليهم بالقول أن هناك في علم النحو العربي مواضع للتقديم والتأخير وىالإعراب لفهم المعنى، فالذي يخشى ويخاف هم (العلماء) وهم الفاعل الذين يخشون ويخافون من المولى عز وجل وهو الله تعالى، ولفظ الجلال (الله) لا نقول هو المفعول به تأدبًا مع الرب في الإعراب بل نقول: اسم الجلال منصوبٌ على التعظيم، بدلاً من: "مفعول به". ثم يأتي دور البلاغة لبيان لماذا كان تقديم المفعول به لفظ الجلالة (الله) على الفاعل (العلماء) وهذا ما يقال عنه ويؤخذ به في علم المعاني (أسلوب القصر) وجاء استخدامه هنا لغرض التخصيص و التوكيد باعتباره أقوى الأساليب توكيدًا ليؤكد حقيقة إلهية وهي مكانة العلماء وعلو قدرهم ومنزلتهم عند المولى عز وجل لأنهم ورثة الأنبياء وحاملي الأمانة وهم الذين يخشونه ويعزرونه ويوقرونه لذا كرمهم في آية أخرى بقوله تعالى: (يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ )المجادلة: 11.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- كيف نعي ونتقي مخاطر الكهرباء المحتملة ؟
- ترشيد وحسن استخدام الكهرباء
- الاستشعار عن بعد: ماهيته ... أهميته ... تطبيقاته
- من تراث العرب في الهندسة والفلك والرياضيات
- الطاقة الذرية والمتجددة .. قوة دافعة نحو توطين التقنية وتأصيل المعرفة
- مع ألبير كامو وعالم العبث والتمرد
- اهتمامات وطنية وإقليمية وعالمية باللغة العربية
- ذكْر الحيوان والحشرات في القرآن الكريم وفي أمثال وأشعار العرب
- الإنسان والبيئة
- التقنية ... بين النقل والتوطين 1-2
- التقنية ... بين النقل والتوطين2-2
- ترجمة وتعريب العلوم ضرورة حتمية .. أين نحن منه؟
- الخلايا الشمسية بداية عصر جديد للطاقات المتجددة
- إشكالية التعريب في اللغة العربية
- نظرة القرآن الكريم للشعر والشعراء
- مع الكهرباء وبعض جوانبها الداكنة
- ما مدى الحاجة لامتلاك الطاقة النووية
- استراتيجية الحد من المخاطر والكوارث المحدثة
- فضل العرب على الإنسانية في المجالات العلمية
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (ابن سينا) (370 - 427) هـ (980 - 1037) م
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (أبو الريحان البيروني)
- صفحات مضيئة من تاريخ الكرم العربي
- الأبُوَّة والبُنوَّة فِي الإسْلام
- من جماليات لغتنا العربية
- التواضُع منْ صِفَات الأنبياء والرُّسل عليْهم السَّلام
- لمحات من بلاغة القرآن الكريم
- العلاقة بين النظريات الفيزيائية والكهربائية
- الطاقة الكهربائية وارتباطها بالتنمية الحضرية
- من إفرازات الحقبة التنويرية: دون كيشوت مصارع طواحين الهواء
اكتب تعليقك