الأبُوَّة والبُنوَّة فِي الإسْلامالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 04:48:37

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

تحرص الأديان السماوية جمعاء على تنشئة الأبناء ورعايتِهم رِعاية شاملة تقوم على الصَلاحِ والرشد والتقوى والاستقامة وحسنَ التربيةِ، وتؤسِس لِمجتمعٍ فاعلٍ متكافل يقوم على بِناء الكيانِ القويمِ المتماسك، والإسلام بدورِه أسهم بنصيب كبير في التوجيه نحو الاهتمام بقضايا رِعايةِ الأبناء وتَنشِئتِهم التنشئة المثلى التي تليق برسالة الاستِخلافِ التي تُحتِّمُ على الجيلِ العمل من أجل نشر الخير والفضيلة وإنقاذ البشريَّة من غياهب الضَّلال ومتاهات الضياع. ولنا في قرآننا المجيد وفي آياته الكريمة خير شاهد من أصول التوجيه والتهذيب والتربية وأساليبِها وثمراتِها، ومن ذلِك على سبيل المثال ما حوتهَ آياتُه في قصة إبراهيمَ الخليل عليهِ السَّلام وابتلاءُ اللهِ له باختيارِ ابنه وفلذة كبده (إسماعيل) قُربانًا له، وكيف أن ذلك الابن البار المطيع أسلم نفسه مستسلمًا منقادًا لأمر أبيه مُلبيًا خاضعًا لإرادة ربه مناديًا بصوت يغمره الخضوع والاستكانة لأبيه: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102) بيد أن الإرادة الإلهية العليا تأبى إلا أن تضع البلسم الشافي على هذا القلب المفجوع لتحل الرحمة ويأتي الشفاء وتزول الفاجعة في قول رب العالمين: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: 107)‏ جزاءَ إيمانِهما وإخلاصهما وخضوعهما وصدقِ ما كانا عليهِ. وقد رَسَم الإسلامُ بتشريعاتِه وآدابِه سلوكيات متكاملة ومنهجيَّات شاملة تحضُّ على رعايَةِ الأبناءِ وتربيتهم وتنميتِهم بأحسنِ ما يكون عليهِ المجتمع، لتضمن تنفيذِها تنفيذًا سليمًا نقيًّا خالصًا لأفضل المُخرَجاتِ وأميزها وأصلَحِها إلهامًا وعطاءً وإسهامًا لما لذلك من دور بالغ الأهمية عظيم الأثر في تحديد معالم الشخصية الإسلامية لدى الفرد، ولدى المجتمع، تلك الشخصية التي تتسم بسمات الصلاح والهيبة والرفعة والمجد والنبل والكرامة والاتزان، وتؤهل المسلم لأن يقوم بدوره في تشييد بناء الحضارة الإنسانية، وتعينه على الإسهام في النهضة العلمية والفكرية والتقنية، ذلك لأن مهمة المسلم في الإصلاح والتهذيب والتربية والتعليم تجعله في مقام السيادة والإمامة والقيادة والريادة لسائر أمم العالم وشعوب الأرض وتحمّله أمانة السماء إلى الأرض ورسالة الله إلى البشرية. والإسلام شرعَ بِعدالتِهِ الرحيمة وشريعته السمحة أحكامًا خاصة بكل مكون يقع ضمن محيط الأسرةِ والمجتمعِ وما يتعلق بهما، ومن ذلكَ أنَّ لكل فردٍ حقوقًا يستحقها بوجودِه ومكانتِه وارتِباطاتِه، فحقوقه مضمونة صيغت في الكتاب المجيد المُنزلِ من عندِ اللهِ على نبيه عليه وعلى آله وأصحابه  أفضل الصلاة والسلام، أو اشتملتها سُنَّة الرسول الكريمِ لِتبيّن للناس عدالة الإسلامِ وتكفلِه بإيتاء الحقوق واستيفائها، كما ضمِن الحقوق ونظَّمها، وحدَّد الواجبات اللازِمة على الأفرادِ والمستحقة لذواتِهم، ليسعى كل فرد لأداء واجباته ومسئولياته تجاه الآخرين، فتتحقَّق بذلك العدالة والنِظام اللَّذينِ يقوم عليهما كيان المجتمع والأسرة. وممَّا اشتمله الإسلام في نِظامه وتشريعاته حقوق الآباء على أبنائهم وحرصه على حسن العلاقةِ بينهم، وسلامةِ توجيهِهِم وتنشئتهم. ومن الواجباتِ التي خصَّ الإسلامُ بها الأبناءَ مِن آبائهم على سبيل المثال حسن اختيار الزوجة التي ستصبح أمًّا يقع على عاتِقها تربية الأبناء، فإن صلحت الأمُّ صلُح الأبناء وحسنت تربيتهم وتنشئتهم، كما أن من واجباتِ الأباء نحو أبنائهم حُسن اختيارَ أمِّهم بما يُحقِّقُ لهم الخير والفضل ويُجنِّبهم العارَ والسُّخرية وسوء الحديث، وفي ذلك قول الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: (تُنكَح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين). كذلك حسن اختيار الاسم إذ من حقوق الأبناء أن يُحسن الآباء اختيارِ أسمائهم؛ فيُسمّي الوالد ولده بما يليق ويُحمد، ليكون اسمه مبعث فخر ورفعة وكرامة، فلا يُسميه باسم خارج عن المألوف أو بما لا يصحُّ معناه ولا ما يَكونُ دافعًا لذكرهِ بسوءٍ مما يُنْزل من شأنه ويحط من قدْره. كذلك على الأب أن يكون أسوة وقدوة حسنة لأبنائه وأن يدلهم على سبل الخير والهداية وما عليهم أن يجتنبوه من طرقِ الشّر والغواية والضلال، وأن يُعينهم على طاعته فلا يُكلِّفهم بما لا يَحتملون ولا يُحملهم بما لا يطيقون فيستدعي ذلكَ حيرة الأبناء فإما أن يرضخوا على مضض وإما يعصوه فيكون في ذلك عقوق وخروج عن طاعة الأب. أيضًا من واجبات الآباءِ نحو الأبناء توجيههم  بما فيهِ طاعة الله تعالى، وإعانتهم على أعمال الخيرِ والبر والإحسان، فلا يكونُ منها التَّحريضُ على المعاصي والمُحرَّمات، كالعقوق وقطعِ الرَّحم وحبس الصَّدقة وأشكال العنف والظُّلم في الميراث. كما أن المساواةُ بين الأبناء مَطلبٌ ضروريٌّ يتحقَّقُ به العدلُ والبرّ والمعروف، وقد نهى نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه عن التمييز بين الأبناء والتفضيل بينهم في الهبات والعطايا والقسمة والمُعاملة، كذلك الحث على إعانتهم على اختيار زوجاتهم، فإذا بلغَ الابن الرشد ورغب الزَّواج سعى والده لتزويجه إعانة له على بناء أسرته وتكوين حياته وحفظًا ووقاية له من الزيغ والغي والانحراف.

وعندما نتأمل في قرآننا المجيد كلام رب العالمين ونتدبر آياته، نجد معلومة رائعة تتجلى لنا فيها عظمة القرآن الكريم وبلاغته وروعته وجمال اللغة العربية فيه والتي نزل فيها آخر أعظم وأقدس الكتب السماوية المنزلة. لقد ورد في القرآن الكريم تعريف وتحديد لمعنى "الأبوين والوالدين"، فإذا وردت كلمة (الأبوين) فنعلم أن الآية قصدت الأب والأم معًا ولكن مع الميل لجهة الأب لأن الكلمة مشتقة من الأبوة التي هي سمة للأب وليست للأم، أما إذا رأيت كلمة (الوالدين) فنعرف أن الآية قصدت الأب والأم معًا لكن مع الميل لجهة الأم لأن الكلمة مشتقة من الولادة والتي هي من صفات المرأة دون الرجل. لذا، كل آيات المواريث وتحمل المسؤولية والتبعات الجسام تكون متبوعة بكلمة (الأبوين) ليناسب ذلك الرجل، فالرجل هو المسؤول عن الإنفاق، فميراثه معروف، وميراثها محفوظ. قال تعالى: (النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) (النساء: 11). وقوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) (يوسف: 100). أما في كل توصية ومغفرة ودعاء وإحسان إلا وتكون الكلمة (الوالدين) ليتناسب ذلك مع فضل الأم. قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (الأحقاف: 15). وقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء: 23). فسبحان الله العظيم، على دقة اللفظ وروعة البلاغة وحلاوة البيان في القران الكريم، إنه كلام رب العالمين تقدس في سماه وجل في علاه.

والتَّهيئةُ المُثلى لِلتنشئة والإعداد للأبناء ذات متعلقات عديدةٌ أهمُّها السَّعي في توفيرِ الرِّزقِ والمالِ للتَّوسعة على الأبناء حتَّى تُحسِنَ تربيتهم ورِعايَتهم والعناية بهم، وفي التَّوسعةِ على الأبناءِ حفظٌ لهم من الزلق والانحرافِ وحماية لهم من المعاصي والعقوق، فالبخل والشح صفات مذمومة تدعو إلى التَّقصيرُ والزيغ والنكران والعقوق، لذلك يجدُرُ بالأب (ولي الأمر) أن يُهيِّئ البيئة الصالحة لحُسن النشأة والبنية والتكوين، والسَّعي في الكسبِ من أجلِ الرعاية أمرٌ محمودٌ، كذلك التَّربيةُ الإيمانيَّةُ السَّليمة وحقُّ التعليم، إذ أن الأب مسؤولٌ عن تنشئة أبنائهِ وتربيتهم تربيةً إسلامية صحيحة نقية سليمة تُعرّفهم بالحلال والحرامَ وتبصرهم بالحق والباطل، فتحفظ عليهم دينَهم وفطرتهم واختيارهم السَديدَ، كذلك التأكّد من أنّ جميع رُفقائهم من الصحبة الطيبة الذين لا يُخشى عليهم من صحبتهم ورفقتهم؛ فإنّ الرّفيق السّيئ يورث من العادات الرديئة والخصال السيئة ما لا يستطيع الآباء إصلاحه  في سنوات مُتعاقبة، وتتأتَّى التَّربيةُ الحسنة بتنشئة الأبناءِ على الفضائل وتنبيههم من الوقوع في الرَّذائل، وتلقينِهم العباداتِ وتعريفهم بالصَّلوات، وتعليمهم القرآن الكريمِ وعلومه وشمائله، وتحصينِهم من الإفراطِ الذي فيه انحِرافُ العقيدة والفكر والسُّلوك، ومن التفريط الذي فيه ضياعُ النَّفسِ وابتعادها عن الدين القويم، فإذا تحقّقَ التوجيه الصحيح من الآباءِ تكفَّلَ الله عز وجل بهداية الأبناء وصلاحهم. ِ

والآن، مهما قدَّم الإبن لوالديه من طاعة وبر ومعروفٍ وإحسان فإنّه لن يبلغ ولو نسبة ضئيلة مما قدماه له من تربيةٍ وبذل وقت وجهد وطاقة وتضحية ليكون من أفضل النّاس إن لم يكن أفضلهم على الإطلاق، لذا يكون الإحسان إلى الوالدين ببرِّهما والعطف عليهما والرأفة بهما والانصياع لهما وعدم رفع الصوت بحضرتهما أو مجادلتهما، حيث أمر الله سبحانه وتعالى الأبناء عمومًا في آيات كثيرة ببرّ الوالدين، ووجوب طاعتهما، والإحسان إليهما والاعتراف بفضلهما حيث بيَّن الله سبحانه وتعالى كيفيّة ذلك في سورة الإسراء إذ يقول عز من قائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23 - 24)‏. ولا يقتصر البر والإحسان إلى الوالدين وهما ىعلى قيد الحياة فحسب، بل يستمر حتى بعد وفاتهما لأن دعاء الابناء لوالديهم المتوفين يصل إليهما مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»، رواه مسلم في صحيحه، وفي هذا الحديث الشريف تبيان ودلالة على أن عمل الابن الصالح يعود بالنفع على الأبوين لأنهما هما اللذيْن يكونا سببًا في وجود الأبناء الصالحين; وفي هذا حث وتشجيعٌ للأبناء على الحرص والإكثار من الدعاء لآبائهم وأمهاتهم، ولقد قُـيَّـد الولد بالصلاح لأنه أتى من تربية أب صالح كما جاء في قصة اليتيمين الذين لم يبلغا الحلم بعد وحفظ مالهما بصلاح أبيهما كما في  قول الرب تبارك وتعالى في الآية الكريمة: (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (الكهف: 82)‏، والرجل الصالح تُحفظ ذريته بسببه، ويشفع لهم في الآخرة ويرفعون إلى درجته لكي تقر عينه بهم، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (الطور: 21)‏، فذريته تلحقه وترفع إلى درجة أعلى، من غير أن ينقص من ثوابه شيء، ولهذا قال: "وَمَا أَلَتْنَاهُم" أي: ما نقصناهم من ثوابهم من شيء. اللهم ارحم أباءنا إن كانوا أمواتًا واحفظهم إن كانوا أحياءً واحفظ لنا أبناءنا وذرياتنا فأنت خير حافظا وأنت أرحم الراحمين.


عدد القراء: 2200

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-