قيم لم تخفها التجاعيدالباب: مقالات الكتاب
محمد بن عبدالله الفريح كاتب ومفكر |
سمعت عنها كثير في مجالس مختلفة، وسمعت أكثر عن أعاجيب كانت تفعلها عندما كانت يافعه نظرة الشباب، فقلت ربما ذلك ضرب من ضروب المبالغة ومجاملة بنات جيلها لها، فطلبت من أحد أبناء أختها أن نزورها زيارة سريعة لنسمع منها بعض الذكريات التي شارف النسيان والحضارة أن يطوياها! فلبى على الفور وضرب لنا موعدًا معها بعد صلاة عصر أحد الأيام، وعندما ذهبنا إليها كان عنصر المفاجئة حاضرًا، عجوز بلغت من الكبر عتيًا إلا أن روح الشباب وخفة الظل كانت حاضرة بشدة!! فقلت في نفسي النضارة شيء وخفة النفس والدم موضوع آخر، كانت غرفة بسيطة متواضعة في كل شيء إلا من حسن الاستقبال والترحيب وكرم الضيافة الأمر الذي أذهلنا عن ما جئنا من أجله، قال مرافقي ابدأ بطرح أسئلتك، فسألتها عن أغرب ما سمعته عنها (هل فعلاً كنت تنزلين القليب(1) بيد واحدة وتمسكين ابنتك بيدك الثانية)؟ قالت بكل بساطة نعم وبشكل شبه يومي، وما تفعلين بالأسفل؟ أقوم بتزييت (الماكينة) وهي التي تقوم بإخراج المياه لسقيا المزرعة، وكانت وقتها توضع أسفل القليب!! فقلت لها وماذا تفعلين بعد خروجك من القليب تذهبين لإكمال النوم؟ فقالت بعد أن نظرتني نظرة خاطفة كانت كافية لإعطائي الجواب! قالت أذهب مع ابنتي ذات الخمسة أشهر لحصد ما تيسر من العلف للبقرة التي كانت لدينا فهي مصدر قوتنا وغذائنا، وإذا لم تأكل في وقتها المعتاد فلا وجبة لنا هذا اليوم، فقلت وماذا تفعلين بعد ذلك عندما تكون الشمس قاربت أن تصير في كبد السماء؟ فقالت لن أجيب على سؤال حتى تبادروا بشرب القهو وتناول ما تم تجهيز من تمر وكليجا(2) وبعض من زاد القوم الذي لا يخلوا من الفائدة المركزة، بعدها باشرنا أنا ومرافقى لتلبية رغبتها طمعًا في الحصول على مزيد من برنامجها اليومي، فبادرتها ونحن نحتسي أكواب القهوة وماهو التالي في البرنامج اليومي؟ فقالت بعد تشغيل الماكينة يكون الماء قد بدأ بالوصول لحياض المزرعة فأتناول المسحاة (أداة لتوجيه الماء داخل المزرعة تعتمد على الجهد البدني والعضلي في الاستخدام!! وأبدأ بسقي النخيل وأحواض المزرعة المختلفة!! وكم يأخذ هذا من الوقت؟ قرابة الأربع ساعات ونيفًا، فقلت من المؤكد أنك تذهبين للقيلولة بعد هذا اليوم الشاق في العمل؟ فنظرتني نظرة ثانية وكأنها تشير إلى بالتوقف عن السخرية منها؟ قالت أبدأ بطحن ما تيسر من القمح لإعداد وجبة العشاء للزوج والأولاد، وقبل ذلك تذهب لحلب البقرة واستجلاب ما وهبه الخالق في هذه المخلوقة العجيبة الخارقة من لبن سائغ لم يتغير طعمه!! وقد يأخذ هذا قرابة الساعة أو ما حولها! بعدها تبدأ معركة تجهيز العشاء فمن إحضار وتجهيز الحطب وهو غالبا من مواد البيئة المحيطة كالنخيل والأثل وغيرها، وإعداد وتحضير الدقيق والعجن والخبز وما يتبع ذلك من مكونات للعشاء البسيط الدافئ، إلا إذا لم يكن لدى الأسرة ضيوف فالأمر يحتاج لقصة ورواية أخرى.
ثم بعد ذلك سألتها وماذا تقولين عن نساء الوقت الحاضر(المترف)؟ فتوقعت أن تقول فيهم ما قال مالك في الخمر! إلا أنها لم تفعل بل ذكرت لهم من الثناء والدعاء لهم بصلاح الحال ما تعجبت منه فالكثير من الناس يريد التسلق على انتقاص الآخرين والنيل منهم لإظهار فتوته وقدرته، إلا أن جمال روح هذه العجوز فاقت كل تصور، وفي خضم حديثنا معها عن برنامجها اليومي ورد في طيات الحديث ذكر أخاها صالحًا الذي انتقل إلى جوار ربه فخنقتها عبرة لم تكن عابره، والتي لم تستطع هذه السنون مسح ذكرياته من الذاكرة فأكملت جمال روحها وطيب حديثها بوفائها ونبلها عن أخيها الذي لبى نداء ربه قبل ما ينيف عن العشر سنوات.
وفي ختام لقائنا معها طلبت منى أرقام هاتف والدتي وخالتي وعمتي لتتصل بهم وتسلم عليهم مع أنها أكبر منهم سنًا (والحق كما يقول المثل العامي للكبير)، إلا أن كبر السن وعدم معرفتها بحفظ الأرقام كون هاتفها أرضيًا لم يمنعاها من هذا الطلب، وتلك شيمة النفوس الطيبة المحبة للخير دون الالتفات لمثبطات الهوى ونوزاع الكبر. فطلبت منها أن أقوم بإبلاغهم للاتصال بها في صاحبة الحق والأولى بالوفاء.
تلك يا سادة قصة لم تكن لتروى كونها الرتم السائد في ذلك الوقت لمعظم إن لم يكن لكل بنات جيلها، ولولا أني سمعت الحديث منها مباشرة لقلت ان فيما ذكر مبالغة شديدة، ولكنها بين أيديكم يرويها السلف للخلف لتكون دروسًا ننهل من معانيها معنى الصبر والتجلد والحكمة والوفاء.
بقي أن تعرف عزيز القارئ أن تلك المرأة صاحبة قصتنا هي السيدة العاقلة الرشيدة حميدة الشيم أم عبدالله عائشة بنت إبراهيم بن عبدالعزيز الحميدان وهي زوج الشيخ فريح بن محمد العقلا متعهما الله بالصحة والعافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - القليب: البئر.
2 - الكليجا: أقراص كعك مجوفة تصنع من الدقيق وتُحشى بالتمر أو العسل أو السكر أو دبس التمر.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العقل الهادئ
- فن إخماد الأفكار
- عشبة الحياة
- دقيقة فقط
- عندما يكون الكلام اسثنائيًّا
- كم تجيد توظيف المواقف؟
- العظماء حقًّا هم فقط الخيِّرون حقًّا
- ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانه؟
- سفر الحب عش اللحظة بكل تفاصيلها
- العقيلات مآثر الآباء والأجداد على ظهور الإبل والجياد (سيرة بُعِثت من جديد)
- شخصية مبادرة
- فَشَرِبوا مِنهُ إِلّا قَليلًا مِنهُم
- وأقرب رحما
- مدارس التواضع ما لن تتعلمه في الجامعة
- سجن من دون جدران كف عن إيذاء نفسك ومن حولك
- الموت بحضوره الطاغي
- قلادة الإحسان
- بيل غيتس ... وقواعده الـ «11»
- تجالسنا وأنت تلحن؟!
- الزاوية الإيجابية
- هل ترى بالبصر أم بالبصيرة؟
- دروس الجندي الصغير
- حكاية تيدي ستيوارت ملهمة المعلمين والتربويون والآباء
- هل أنت ناضج بما فيه الكفاية؟
- قيم لم تخفها التجاعيد
- فن صناعة السعادة أحد أروع القصص للروائي الألماني فرانز كافكا
- الاحتلال الناعم (ملاك طنطا أنموذجًا)
- قوة السكينة
- ماذا لو رأيت الجمال كله؟
- المنقاش: الشيخ محمد بن محمود
- ابحث عن مكامن القوة في نفسك!! (وركز عليها)
- دور الذكاء الصناعي في مجال النشر
- لا تخدعنك المظاهر !!
- البِّر وفقه الإحسان
اكتب تعليقك