الاحتلال الناعم (ملاك طنطا أنموذجًا)الباب: مقالات الكتاب
محمد بن عبدالله الفريح كاتب ومفكر |
عندما سمعت عنه أول مره ظننت أن ما يقال عنه ضرب من الخيال أو المبالغة المذمومة، لكن عندما قرأت وسمعت أكثر وجدت أن ما قيل هو نزر يسير لم يوفي الرجل حقه، طلق الدنيا بكل تفاصيلها وترفها ناذرًا نفسه لخدمة المعدمين والمطحونين من أبناء جلدته، ذاك هو د. محمد مشالي، الشهير في مصر بـ "طبيب الغلابة" تعددت الروايات حول سبب تكريس مشالي حياته لعلاج الفقراء، ومن أبرزها أن ذلك جاء تنفيذًا لوصية والده، بينما قالت رواية أخرى إن ما دفعه لذلك وفاة طفل بين يديه، بسب عجز أسرته عن شراء الدواء.
ظل مشالي طيلة عقود يتقاضى أجرًا زهيدًا مقابل علاج زبائنه، وهو خمسة جنيهات مصرية، وزاد أخيرًا ليصل إلى عشرة جنيهات، أي أكثر قليلاً من نصف دولار، بينما يتقاضى غيره مئات إن لم تكن آلاف الجنيهات، لكن في حالات كثيرة كان طبيب الفقراء يرفض أن يتقاضى أي أجر، بل يدفع من جيبه الخاص للمرضى لشراء الدواء، عاش مشالي حياة بسيطة للغاية، وكانت عيادته متواضعة ولم يمتلك سيارة أو هاتفًا محمولًا.
عندما رأى أحد المذيعين الساعة المتهالكة على مكتبه سأله إن لم يكن لديه ساعة من ماركة (رولكس) فقال بكل بساطة (أعمل بيها إيه) هذه الساعة التي بين يديك تخبرني بمواعيد القطار مثل الرولكس!!!
عندما تدخل عيادته سترى عجبًا من الصور لن تجدها عند غيره في الغالب، ستجد الملفات المكدسة أمام مكتبه ليسهل عليه استرجاعها بسرعة، وسترى المجهر فوق مكتبه ليوفر على المرضى قيمة التحاليل، وسترى مكتبًا متهالكًا يقبع خلفه شخصية من أعاجيب هذا الزمن.
رفض الرجل عروضًا كثيرة بالمساعدات من منظمات خيرية وأثرياء، للانتقال إلى عيادة أحسن حالًا، وحين قبل بعض تلك المساعدات، في مرات نادرة، تبرع بها للفقراء واشترى أجهزة طبية لإجراء التحاليل الأولية الضرورية لمرضاه.
رحل مشالي عن دنيانا تاركًا إرثًا من القيم الانسانية والأخلاقية يندر وجودها في زمن تكالبت فيه مطامع الدنيا وشح الأنفس وطغيان الحياة المادية الرأسمالية البغيضة التي كشرت عن أنيابها علي حياة البشر، رحل مشالي تاركًا لنا ضوء في نهاية النفق محتلاً قلوب الناس وعقولهم بأساليب ناعمة لا تستطيع فعلها كل قوى الأرض، حتى أطلق عليه المصريون (ملاك طنطا) لما رأوه من تعالي على حظوظ النفس وملذات الدنيا وإيثار مساعدة الخلق وعونهم على تحمل أعبائها.
وما أجمل ما قاله الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس:
"أفضل شيء هو ترك الحياة كما تترك مأدبة: لا عَطِشًا ولا ثَمِلا"ً.
خاطرة
ليس للرجل سوى مجد واحد حقيقي، هو التواضع.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العقل الهادئ
- فن إخماد الأفكار
- عشبة الحياة
- دقيقة فقط
- عندما يكون الكلام اسثنائيًّا
- كم تجيد توظيف المواقف؟
- العظماء حقًّا هم فقط الخيِّرون حقًّا
- ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانه؟
- سفر الحب عش اللحظة بكل تفاصيلها
- العقيلات مآثر الآباء والأجداد على ظهور الإبل والجياد (سيرة بُعِثت من جديد)
- شخصية مبادرة
- فَشَرِبوا مِنهُ إِلّا قَليلًا مِنهُم
- وأقرب رحما
- مدارس التواضع ما لن تتعلمه في الجامعة
- سجن من دون جدران كف عن إيذاء نفسك ومن حولك
- الموت بحضوره الطاغي
- قلادة الإحسان
- بيل غيتس ... وقواعده الـ «11»
- تجالسنا وأنت تلحن؟!
- الزاوية الإيجابية
- هل ترى بالبصر أم بالبصيرة؟
- دروس الجندي الصغير
- حكاية تيدي ستيوارت ملهمة المعلمين والتربويون والآباء
- هل أنت ناضج بما فيه الكفاية؟
- قيم لم تخفها التجاعيد
- فن صناعة السعادة أحد أروع القصص للروائي الألماني فرانز كافكا
- الاحتلال الناعم (ملاك طنطا أنموذجًا)
- قوة السكينة
- ماذا لو رأيت الجمال كله؟
- المنقاش: الشيخ محمد بن محمود
- ابحث عن مكامن القوة في نفسك!! (وركز عليها)
- دور الذكاء الصناعي في مجال النشر
- لا تخدعنك المظاهر !!
- البِّر وفقه الإحسان
اكتب تعليقك