فَشَرِبوا مِنهُ إِلّا قَليلًا مِنهُمالباب: مقالات الكتاب
محمد بن عبدالله الفريح كاتب ومفكر |
أتذكر عندما كنت في العاشرة من عمري كنا نتنافس أنا وأقراني من أبناء الحارة في شهر رمضان على ختم القرآن مرات عدة، خصوصًا أنه لم يكن وقتها ثمة دراسة أو غيرها من الملهيات والشواغل كما هو حال أولادنا اليوم، وكنت عندما أمرّ على آية طالوت، التي تتحدث عن اختيار الله له ملكًا على بنى إسرائيل نزولًا على رغبتهم، كنت أتعجب من جبروت هذا الملك وظلمه وشدة بأسه، إذ كيف يمنع جيشًا لم يذق الماء منذ ثلاثة أيام من أن يشرب، أو يرتوي من نهر بارد ماؤه عذب شرابه، وهو الجيش الذي سيقابل جيشًا شديد القوة والبأس بعد اجتيازهم النهر، أصدقكم القول: إنني كنت أقفز هذه الآيات عندما أصل إليها؛ نظرًا لعدم قدرة النفس الضعيفة على تصور هذا المنظر وتحمل هذه القسوة والشدة في التعامل، مع أن الله ذكر أنه زاده بسطة في العلم والجسم، فكيف يكون هذا حال من زاده الله من العلم؟
وعندما كبرت، وتمعنت أكثر في مدلولات كلمات الله - عز وجل - لعباده أدركت أن وراء ذلك سرًّا عجيبًا، يجب البحث عنه وتقصي مكنونات هذا التصرف الغريب، الذي يبدو للوهلة الأولى، ثم ما لبثت أن أدركت أنه عندما تكون قائدًا، فإنك ما تلبث أن ترى الأمر بمنظور مختلف تمامًا، فقد كان مطلوبًا من هذا القائد أن يفرز جيشه ويصنفه؛ ليرى من يطيعه وممن سيعصيه؛ إذ إن من يعصيه في شربة ماء من المؤكد أنه سيعصيه، عندما يحتدم القتال، ويرى الموت، والأمر الآخر الذي يجب على القائد العمل عليه هو التأكد من العدد الذي سيُعتمَد عليه في المعركة بعد الفرز، فتُبنَى خطة المعركة على أساس ذلك، والأمر الثالث وهو الأهم أن هزيمة النفس وشهواتها ولجمها عن مبتغاها هو باب للنصر على مصراعيه، فلا يمكن لجيش لا يستطيع لجم رغبته عن شربة ماء على الرغم من حاجته إليها أن ينتصر على عدو، وأن يثبت عند اللقاء والتحام الصفوف، والأمر الآخر الذي تعلمنا إياه هذه القصة العظيمة هو أنه يكفي أن يكون في الجيش عدد قليل يؤمنون بما يقوله قائدهم ليحقق الله لهم النصر على عدوهم: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) البقرة:249 وهم الذين ثبتوا عند اللقاء: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بينما من شربوا، وأسرفوا على أنفسهم قالوا: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) وعندما أدركت هذا المعنى - على فرض صحته - أصبحت أقرأ هذه الآيات الكريمة بمتعة مختلفة تمامًا وبتحليل أعمق لمعنى القسوة (الشدة) والفرق بينها وبين ترويض النفس وفرز الناس: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) 37.
وتؤكد كثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية والسلوكية أن تحقيق النصر والنجاح في أي عمل يبدأ من الداخل، وليس من الخارج، ويبدأ بترويض النفس ولجمها عن كثير من مشتهاياتها، خصوصًا اليوم الذي تكالبت علينا فيه المشغلات والملهيات من كل حدب وصوب.
يقول الحق تبارك وتعالى مفصلًا هذا الموقف العظيم: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة: 249
وفي الحديث الذي رواه ابن النجار عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه ) صححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1099).
أتذكر، وأنا في هذا المقام بعض أشهر ما قيل في هذا الفن للإمام الجليل أبي سليمان الداراني: «أفضل الأعمال خِلاف هوى النفس».
وكذلك المقولة الشهيرة للفيلسوف والرياضي الإغريقي فيثاغورس: «ليس حرًّا من لم يَسُد إمبراطورية نفسه».
حكمة:
«القوي من حكم غيره، والعظيم من حكم نفسه».
لاوتسي
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العقل الهادئ
- فن إخماد الأفكار
- عشبة الحياة
- دقيقة فقط
- عندما يكون الكلام اسثنائيًّا
- كم تجيد توظيف المواقف؟
- العظماء حقًّا هم فقط الخيِّرون حقًّا
- ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانه؟
- سفر الحب عش اللحظة بكل تفاصيلها
- العقيلات مآثر الآباء والأجداد على ظهور الإبل والجياد (سيرة بُعِثت من جديد)
- شخصية مبادرة
- فَشَرِبوا مِنهُ إِلّا قَليلًا مِنهُم
- وأقرب رحما
- مدارس التواضع ما لن تتعلمه في الجامعة
- سجن من دون جدران كف عن إيذاء نفسك ومن حولك
- الموت بحضوره الطاغي
- قلادة الإحسان
- بيل غيتس ... وقواعده الـ «11»
- تجالسنا وأنت تلحن؟!
- الزاوية الإيجابية
- هل ترى بالبصر أم بالبصيرة؟
- دروس الجندي الصغير
- حكاية تيدي ستيوارت ملهمة المعلمين والتربويون والآباء
- هل أنت ناضج بما فيه الكفاية؟
- قيم لم تخفها التجاعيد
- فن صناعة السعادة أحد أروع القصص للروائي الألماني فرانز كافكا
- الاحتلال الناعم (ملاك طنطا أنموذجًا)
- قوة السكينة
- ماذا لو رأيت الجمال كله؟
- المنقاش: الشيخ محمد بن محمود
- ابحث عن مكامن القوة في نفسك!! (وركز عليها)
- دور الذكاء الصناعي في مجال النشر
- لا تخدعنك المظاهر !!
- البِّر وفقه الإحسان
اكتب تعليقك