دقيقة فقطالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-05 13:57:12

محمد بن عبدالله الفريح

كاتب ومفكر

«فقط دقيقة»... حكمة أعرضها للبيع، فمن يشتريها مني في زمن نهدر فيه كثيرًا وكثيرًا من الساعات دون فائدة؟

 كنت أقف في دوري على شباك التذاكر؛ لأشتري بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة تبعد نحو 330 كم، وكانت أمامي سيدة ستينية قد وصلت إلى شباك التذاكر، وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانبًا، فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة؟ فقالت لي: إن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر، وليس معها يورو قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة، وهذا ممنوع، فقلتُ لها: هذا يورو، وأعطيها البطاقة. وتراجعتُ قليلًا، وأعطيتُ السيدة مجالًا لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجددًا.

 اشترت السيدة بطاقتها، ووقفت جانبًا، وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، ولكنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي، وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالت لي بصيغة الأمر: احمل هذه، وأشارت إلى حقيبتها.

 كان الأمر غريبًا جدًّا بالنسبة إلى هؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل، دون تفكير حملت لها حقيبتها، واتجهنا معًا إلى الحافلة، ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها؛ لأنها كانت قبلي تمامًا في الدور.

 حاولت أن أجلس جهة النافذة؛ لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة، وأقسم بأن يمحو جميع ألوان الطبيعة معلنًا بصمته الشديدة: أنا الذي آتي لكم بالخير، وأنا من يحقّ له السيادة الآن! لكن السيدة منعتني، وجلستْ جهة النافذة دون أن تنطق بحرف، فرحتُ أنظر أمامي، ولا أعيرها اهتمامًا، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي، وتحدق فيه، وطالت التفاتتها دون أن تنطق ببنت شفة، وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها، لكنني أشعر بها، فالتفتّ إليها.

 عندها تبسمتْ، قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك.

 - صبري على ماذا؟

 - على قلة ذوقي. أعرفُ تمامًا فيما كنتَ تفكر.

 - لا أظنك تعرفين، وليس مهمًّا أن تعرفي.

 - حسنًا، سأقول لك لاحقًا، لكن بالي مشغول كيف سأردّ لك الدين.

 - الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك.

 - عندي حاجة سأبيعها الآن، وسأردّ لك اليورو، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك؟

 - هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي؟

 - إنها حكمة، أعطني يورو واحدًا؛ لأعطيك الحكمة.

 - وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟

 - لا، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو الواحد يلزمني؛ لأنني أريد أن أردّ به دَيني.

 أخرجتُ اليورو من جيبي، ووضعته في يدها، وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها. مازالت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبران عن ذكاء ثعلبي. مظهرها يدلّ على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها، فرحلتنا مازالت في بدايتها.

 أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها، كما يفرح الأطفال، عندما نعطيهم بعض النقود، وقالت: أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي، وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، ولكن سائق التاكسي أحرجني، وأخذ مني يورو زيادة، فقلت في نفسي: سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنه ممنوع. أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى، بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك، الموضوع ليس ماديًّا. ستقول لي: إن المبلغ بسيط، سأقول لك: أنت سارعت بفعل الخير دونما تفكير.

 قاطعتُ المرأة مبتسمًا: أتوقع أنك ستحكين لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ؟ أين الحكمة؟

 - «فقط دقيقة».

 - سأنتظر دقيقة.

 - لا، لا، لا تنتظر. «فقط دقيقة»... هذه هي الحكمة.

 - ما فهمت شيئًا.

 - لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال؟

 - ربما.

 - سأشرح لك: «فقط دقيقة»، لا تنسَ هذه الكلمة. في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قرارًا، عندما تفكر فيه، وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية. هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالجها خلال ستين ثانية؟ في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرة، ولكن بشرط.

 - وما الشرط؟

 - أن تتجرد عن نفسك، وتُفرغ في دماغك، وفي قلبك جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجها معالجة موضوعية، ودون تحيز، فمثلًا: إن كنت قد قررت أنك صاحب حق، وأن الآخر قد ظلمك، فخلال هذه الدقيقة، وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف أن الطرف الآخر لديه حق أيضًا، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إن كنت نويت أن تعاقب شخصًا ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذرًا، فتخفف عنه العقوبة، أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائيًّا. دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك، لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكًا بإنسانيتك وأكثر بعدًا عن هواك. دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغيّر مجرى حياة قوم بأكملهم، هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟

 - صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.

 - تفضل، أنا الآن أردّ لك الدين، وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.

 أعطتني اليورو، فتبسمتُ في وجهها، واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة، لأنتبه إلى نفسي، وهي تأخذ رأسي بيدها، وتقبله قائلة: هل تعلّم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حلّ لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب يورو من أحد.

 - حسنًا، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة يورو؟

 - سأعتبره مهرًا، وسأقبلك زوجًا.

 علتْ ضحكتُنا في الحافلة، وأنا أُمثـلُ أنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي، وهي تمسك بيدي قائلة: اجلس لا تخف، فأنا متزوجة، وأنا أقول لها: «فقط دقيقة»، «فقط دقيقة»....

 لم أتوقع أن الزمن سيمضي بسرعة، كانت هذه الرحلة من أكثر رحلاتي سعادة، حتى إنني شعرت بنوع من الحزن، حين غادرتِ الحافلة، عندما وصلنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريبًا.

 قبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها؛ كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد، فأعطيتها جوالي لتتصل. المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريبًا تسلّمت رسالتين على الجوال: الأولى تفيد أن هناك من دفع لي رصيدًا بمبلغ يزيد على 10 يوروهات، والثانية منها تقول فيها: كان عندي رصيد في هاتفي، لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك، فأجزيكَ على حسن فعلتك. إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم أن لك فيها أمًّا ستستقبلك، فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنهما عينان ثعلبيتان، لكنني لم أتجرأ أن أقول ذلك لك، أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة، واعلمي أنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.


عدد القراء: 8600

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-