صفحات مضيئة من تاريخ الكرم العربيالباب: مقالات الكتاب
أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض |
يحفل التاريخ العربي بالكثير من الصفحات المشرقة بسمات الكرم العربي الفريدة وخصائصه العريقة، ولم تُعرف أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب من يضاهي العرب كرمًا وجودًا وسخاءً ويماثلهم بذلاً وأريحية وعطاءً ويبزهم حسن وفادة وكرم ضيافة، وهذه بالطبع خلائقهم وطباعهم وديدنهم ومحتدهم وسجاياهم التي طبعوا عليها واتصفوا بها وأضحوا أهلاً لها. فمنها ما جبلوا عليه منذ عهد الجاهلية الأولى ومنها ما دعَّمها القرآن الكريم وأشاد بها بعد نزوله وصار لهم مرجعًا في المُـثل والأخلاق والسلوك والطاعة والتعبُّد والبلاغة والفصاحة وحفظ اللغة التي نزل بها من عند الرب تبارك وتعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء: 195، ولقد زادهم القرآن الكريم حرصًا وثباتًا على هذه الصفات والسمات والسجايا وتمسكًا بها وحفاظًا عليها. وبادئي ذي بدء لننظر إلى القرآن الكريم ولقصة نبينا إبراهيم الخليل عليه السلام وكيف تعامل مع ضيوفه الذي قدموا عليه، لقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان أوَّل مَن أضاف الضَّيف إبراهيم. كما ذكر محمد المناوي الذي عاش في القاهرة وتوفي بها (952هـ - 1031 هـ): "كان يسمَّى أبو الضِّيفان"، كان يمشي مسافات طويلة في طلب مَن يتغدَّى معه... وفي (الكشَّاف): كان لا يتغدَّى إلَّا مع ضيف . قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) الذاريات: 24، قال مجاهد: سمَّاهم (مُكْرَمين) لاحتفاء إبراهيم بهم وخدمته إيَّاهم بنفسه وقال الرَّازي: (أُكْرِموا إذ دخلوا، وهذا مِن شأن الكريم أن يُكْرِم ضيفه وقت الدُّخول، فإن قيل: بماذا أُكْرِموا؟ قلنا: ببشاشة الوجه أولًا، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانيًا، وتعجيل القِرَى ثالثًا).
ولقد مثَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والمثل الأعلى في الجُود والكَرَم، فكان أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير مِن الرِّيح المرسلة، وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم. عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى معه الفاقة". إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، يقدِّم بهذا النَّموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيَّما حينما نلاحظ أنَّه كان في عطاءاته الفعليَّة، مطـبِّــقًا لهذه الصُّورة القوليَّة التي قالها، فقد كانت سعادته ومسرَّته عظيمتين حينما كان يبذل كلَّ ما عنده مِن مال، ثمَّ إنَّه يربِّي المسلمين بقوله وعمله على خُلُق حبِّ العطاء، إذ يريهم مِن نفسه أجمل صورة للعطاء وأكملها.
وكان صلى الله عليه وسلم يُؤْثِـر على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشَّهر والشَّهران لا يُوقَد في بيته نار، وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرمًا في محلِّه، ينفق المال لله وبالله، إمَّا لفقير أو لمحتاج أو في سبيل الله أو تأليفًا على الإسلام، أو تشريعًا للأمَّة، فما أعظم كرمه وجوده وسخاء نفسه، صلى الله عليه وسلم، وما هذه الصّفة الحميدة إلَّا جزءٌ مِن مجموع الصِّفات التي اتصف بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا أبلغ ممَّا وصفه الرب تبارك وتعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم:4.
وهنا سنستشهد بآي من القرآن الكريم هي غيض من فيض والتي تشير لقول وحث الرب تبارك وتعالى في مجال الكرم والبذل والعطاء والإنفاق، ومنها: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) البقرة: 272، أيضًا: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 261، أيضًا: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 274. كذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) فاطر: 29. ومع أن القرآن الكريم أشاد بالبذل والإنفاق لكن وضع حدودًا ومعايير بين العطاء المندوب له وبين الإسراف المنهي عنه، لذلك قال تبارك وتعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) الإسراء: 29، ففي هذه الآية الكريمة قُصِد باليد المغلولة إلى العُنُق بـ(البُخل) أمّا اليد المبسوطة فهي: (الإسراف). كذلك لنا في أقوال رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ما ينير الطريق ويهدي السالكين نحو الإنفاق والعطاء ومظان الخير: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» متفق عليه. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» متفق عليه. ولعلنا بعد هذ الاستشرافات القرآنية والنبوية نخلص إلى أن قرآننا المجيد وسيرتنا النبوية وتاريخنا لتليد كل ذلك يزخر بمظاهر الكرم والبذل والعطاء والإنفاق والذي جعل العرب يختلفون ويتميزون عن غيرهم من الأمم والشعوب والأجناس والأعراق في مضامير الكرم والسخاء وميادين الأريحية والعطاء، ولهذا دعونا الآن نقلب بعض الصفحات من هذا التاريخ العابق بأريج الكرم لنستشرف هذه الآفاق المشرقة فيما ورد من الأسماء الشهيرة اللامعة، ولنبدأ بأشهرها على الإطلاق وهو حاتم الطائي والذي كان رجلاً معروفًا بالسخاء والأريحية والعطاء والكرم، وكان يسعد عندما يأتي إليه ضيف، لذا كان يأمر غلامًا مملوكًا عنده بإيقاد نار على جبل عالٍ ليراها من يسير ليلاً في الصحراء فيستهدي بها ويضوي إليها ليحتفي به ويُضيّفه ويكرمه، ولذا كان يقول لغلامه:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ والـريـح يا غلام ريح صــرُّ
لعل أن يبصرها المعترُّ إن جلبت ضيفا فأنت حرُّ
وهذا غاية في البذل والسخاء والكرم والجود، ولهذا دخل حاتم الطائي المجد من أوسع أبوابه. كذلك لنأت إلى ذكر طود شامخ آخر من شوامخ البذل والعطاء ألا وهو طلحة بن عُبيدالله بن عُثمان التيمي الخزاعي، دخل عليه كُثيِّر عزة عائدًا زائرًا فقعد عند رأسه فأخذ في الثناء عليه فلم يكلمه طلحة لِشدة ما به من المرض، فالتفت كثير عزة إلى جلسائه فقال: لقد كان بحرًا زاخرًا، وغيمًا ماطرًا، ولقد كان هطل السحاب، حلو الخطاب، قريب الميعاد، صعب القياد، إن سُئل جاد، وإن جاد عاد، وإن حبَّما غمر، وإن ابتُلِي صَبر، وإن فوخر فخر، وإن صارع بدر، وإن جُني عليه غفر، قوي البيان، جريء الجنان، بالشرف القديم، والفرع الكريم، والحسب الصميم، يبذل عطاءهُ، ويرفد جلساءهُ، ويُرهب أعداءهُ، عند ذلك فتح طلحة عينيه فقال: ويلُكَ يا كثير ما تقول؟ فقال كثير عزة:
يا ابن الذوائب من خزاعة والذي
لبس المكارم وارتدى بنجاد
حلت بساحتك الوفود من الورى
فكأنـما كانوا على مــيعــــاد
لنــعــود ســـيدنـــا وســـيد غــيـرنــــا
ليت التـشكي كان بالــعــواد
ثم استوى طلحة جالسًا وأمر له بعطية سنيَّة، وقال لِكثيِّر عزة: هيَ لَكَ في كل سنة ما عشت حيًّا.
كما أنه جرى الكثير من الكنايات والاستعارات في أمثال عربية كثيرة منها على سبيل المثال: قولهم فلان كثير الرماد إشارة إلى كثرة الطبخ وإعداد الولائم للضيوف، كذلك فلان جبان الكلب كناية عن كثرة الضيوف الذين يفدون إليه دون أن ينبح كلب الحراسة الذي من شأنه أن ينبح عند قدوم الأغراب، فلان هزيل الفصيل لحرمانه الفصيل من اللبن ومنحه للضيوف.
كما يذكر التاريخ ثلاثة من أشهر كرماء العرب وأبلغهم جودًا وبذلاً وسخاءً وهم عبدالله بن جعفر وقيس بن سعد بن عبادة وعرابة الأوسي، ومن أجل عدم التوسع والإطالة لسر مآثر كل منهم فسيكتفي بقصة أحدهم وهو عبدالله بن جعفر بحيث تكون في قصته وهج لتك الصفات الخيِّرة وانعكاس على مناقب الكريمين الآخرين (قيس بن سعد بن عبادة وعرابة الأوسي)، فقد ذهب إلى عبدالله بن جعفر أحدهم فوجده يَهمُّ بالركوب للسفر فبادره قائلاً له: يا ابن عم رسول الله جئتك سائلاً قال مرحبًا بالسائل، قال أنا ابن سبيل نفذ مالي وزادي وكان عبدالله قد وضع إحدى قدميه في الركاب فنزع قدمه عن إبله وقال للرجل: ضع قدمك مكاني فإن لك ما كان لي وهو كله لك ولكن احرص على ذلك السيف فإنه من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلا تتصرف فيه، فركب الرجل الرحال فوجد عليها ثيابًا فاخرة وزادًا كثيرًا وصرة بها أربعة آلاف دينار فأخذه كل ذلك ورحل إلى قومه.
وهناك الكثير والكثير من رموز الكرم ورواده الذين يزخر بهم تاريخنا العربي الأصيل لا يتسع المجال لذكر المشاهير منهم ولكن قد يكون القصد هنا هو الإشادة بالكرم العربي المتأصل فينا نحن العرب ففينا أعراق مغروسة وأعراف موروثة من كرم حاتم الطائي وجود طلحة الخزاعي وخزيمة ابن بشر وعكرمة الفياض (جابر عثرات الكرام) وأسلافنا الأوائل المعروفين بالسخاء والجود والبذل والأريحية والكرم ولا يمكن أن تنزع أو تتغير هذه الأعراف والأعراق أو نتخلى عنها في أي زمان ومكان بأي حال من الأحوال.
وأخيرًا نختتم هذا المقال بهذه الأبيات المعبرة من قصيدة للشاعر السعودي حمد بن علي بن مشرف (1285 هـ - 1858 هـ):
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً
ولا تطع في ســـبيل الجـــود عذالا
فـــالمــنـفـقـون لــهــم مـن ربــهم خلــف
ورب شــــح إلى الإتـــــلاف قــد آلا
من جــاد جــاد عـلـيـه الله واســتـــترت
عـيـوبــه وكــفـى بالجــود ســربـالا
من جــاد ســاد ومـن شــحـت أنــامــلـه
بالبذل أمست له الأعـــوان خــذالا
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- كيف نعي ونتقي مخاطر الكهرباء المحتملة ؟
- ترشيد وحسن استخدام الكهرباء
- الاستشعار عن بعد: ماهيته ... أهميته ... تطبيقاته
- من تراث العرب في الهندسة والفلك والرياضيات
- الطاقة الذرية والمتجددة .. قوة دافعة نحو توطين التقنية وتأصيل المعرفة
- مع ألبير كامو وعالم العبث والتمرد
- اهتمامات وطنية وإقليمية وعالمية باللغة العربية
- ذكْر الحيوان والحشرات في القرآن الكريم وفي أمثال وأشعار العرب
- الإنسان والبيئة
- التقنية ... بين النقل والتوطين 1-2
- التقنية ... بين النقل والتوطين2-2
- ترجمة وتعريب العلوم ضرورة حتمية .. أين نحن منه؟
- الخلايا الشمسية بداية عصر جديد للطاقات المتجددة
- إشكالية التعريب في اللغة العربية
- نظرة القرآن الكريم للشعر والشعراء
- مع الكهرباء وبعض جوانبها الداكنة
- ما مدى الحاجة لامتلاك الطاقة النووية
- استراتيجية الحد من المخاطر والكوارث المحدثة
- فضل العرب على الإنسانية في المجالات العلمية
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (ابن سينا) (370 - 427) هـ (980 - 1037) م
- من أعلام العلماء العرب والمسلمين (أبو الريحان البيروني)
- صفحات مضيئة من تاريخ الكرم العربي
- الأبُوَّة والبُنوَّة فِي الإسْلام
- من جماليات لغتنا العربية
- التواضُع منْ صِفَات الأنبياء والرُّسل عليْهم السَّلام
- لمحات من بلاغة القرآن الكريم
- العلاقة بين النظريات الفيزيائية والكهربائية
- الطاقة الكهربائية وارتباطها بالتنمية الحضرية
- من إفرازات الحقبة التنويرية: دون كيشوت مصارع طواحين الهواء
اكتب تعليقك