الطهارة والقذارة بين الشرق والغرب – 2الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-08-04 17:31:39

أ.د. مهند الفلوجي

لندن

الاستنجاء بين المسح والماء، وبين جلستي

 الكرسي والقرفصاء

 

عبقـرية الغرب في النظافة العامة ... ولكن:

هناك مستويان للنظافة: المستوى العام والمستوى الشخصي.

ففي مستوى النظافة العامة، فاق الغرب الحديث الشرق بعبقرية تنظيماته وابداعات إداراته وتطبيقات علومه العملية: في حقول النظافة العامة التي نرى شواهدها المُبهرة في نظافة وتنظيم الشوارع وساحات تقاطعاتها الجميلة وبحسابات رياضية دقيقة، وفي تصميم الحدائق العامة وجمالها وتموضعها في قلب كل منطقة في البلاد للترويح عن العباد واستجمامهم، وفي نظافة وجمالية أماكن التبضع والتسويق العامة، وفي وساعة وجمال ونظافة المطارات ومرافقها العامة (أي الحمّامات أو أماكن التواليت) التي تخضع للمسح والتنظيف الدوري الموثق على لائحة عمال التنظيف داخل الحمّام مع رقم هاتف للشكاوي إن لم تكن نظيفة. وهناك العقوبات الصارمة على كل من يخِلّ بنظام النظافة العامة فيُمنع رمي القاذورات إلا في أماكن القمامة المخصصة (وحتى هذه الأماكن لها جمالية الشكل لتغطي على قبح المضمون). بل صار الغرب اليوم كعبة القاصدين وموئل القادمين من شتى أنحاء المعمورة للدراسة والتدريب في علوم الإدارة والبيئة والتنمية المستدامة. ولكن النهضة الأوروبية هذه لها جذور عميقة، منها فضول الأوروبيين وتطلعهم الوثّـاب للكمال والإحسان. وهناك سبب آخر خطير متغلغل في التاريخ يكمن في نقلهم لعلوم العرب والمسلمين وتوظيفها عمليًّا للنهضة الأوروبية.

فلقد كان للأندلس قصب السبق في الغرب الأوروبي، بل كانت الأندلس مركز إشعاع حضاري ومصدر إلهام لحُكّام أوروبا كلها بحدائقها الهندسية الغنّاء وتصميماتها البارعة، ونافورات مياهها الرائعة، وحمّاماتها العامة الصحية الماتعة، وفي إنارة شوارعها النظيفة الرائدة ولأول مرة في أوروبا المظلمة؛ كانت البعثات الدراسية والزيارات المهنية العلمية تترى للأندلس من مختلف أصقاع أوروبا. ومن سخرية القدر أنه خلال ما يسمى بحقبة الإسترداد الإسباني Spanish Reconquesta ومع مطلع القرن الحادي عشر الميلادي وحتى سقوط الأندلس عام 1492م  قامت حركة ترجمة محمومة على قدمٍ وساق بأمر ملوك إسبانيا النصرانية التي كانت تترجم وتطبق كتب الحضارة الإسلامية، فتنتصر على المسلمين (الذين نسوا تراثهم ودينهم وعلومهم) بسلاح علوم ومعرفة المسلمين أنفسهم!!! ولقد تُرجمت كتب الفلاحة والزراعة مع كتب الطب والهندسة والفلك وسائر علوم الحياة من اللغة العربية الأصل إلى اللغة اللاتينية في مراكز الترجمة المزدحمة في طليطله Toledo مثل خلايا النحل والمشغولة باستمرار ليل نهار بحركة التراجم والمترجمين (النقّالين) الدؤوبة النشيطة وبأجور مغرية وبرعاية ملوك الإسبان وإشرافهم. وبعد سقوط الأندلس قامت السلطات الإسبانية المُجحفة خلافًا لكل العهود والمواثيق (في اتفاق قشتالة 1492م) بتعصب ديني Religious Intolerance يتمثل برفض الآخر ورفض فكره ونمط حياته فقامت بحرق ممنهج وبقوائم متتالية تشمل المصاحف وكتب التراث العربي الإسلامي بل وتشمل حتى التراث اليهودي والمكتوب باللغتين العربية والعبرية. ومن ثم بقت التراجم اللاتينية لهذه الكتب العربية لتنتحلها إسبانيا وأوروبا من بعد ذلك ... والباقي صار تاريخًا، والتاريخ يكتبه المنتصر!

لكن تظل هناك مفارقتان كبيرتان على مستوى النظافة الشخصية (لها جذور إسلامية):

الأولى:  في جزئية التطهر والاستنجاء بالماء.

والثانية: في جزئية الاستنجاء على الكرسي الغربي، مقابل جلسة القرفصاء في الخلاء الشرقي. 

الأهمية المحورية للتطهر بالماء في الإسلام

نصّ الإسلام على أن الماء هو مادة الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، بل جعل الماء عماد قيام الحضارات المرتبطة بالفكر القويم (وَأَلّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا).

 كل الحضارات قامت في حضانة الأنهار وشطآنها من حضارة وادي الرافدين (على نهري دجلة والفرات) لحضارة مصر (وادي نهر النيل) إلى الحضارة الصينية (بمحاذاة نهر يانغتسي) والحضارة الهندية (على ضفاف نهر كانجي). بل صار الماء عاملاً من عوامل السعادة (السعادة في الماء والخضار والوجه الحَسَن).

يُخطئ خطأً جسيمًا مَن يعتقد بأن الاستنجاء الإسلامي النبوي كان بالحجارة وحسب (الاستجمار)، دون استعمال الماء. وسبب هذا الاعتقاد المخطوء يكمن في انبعاث الرسالة من أرض جزيرة العرب وأغلبها صحراء قاحلة يشحّ فيها الماء.

فلقد خلّـد الله ثناءه في القرآن الكريم على المطهرين والمتطهرين بالماء. قال تعالى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) التوبة: 108، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة: 222.

يقول عبد الستار المرسومي في (الله يحب المطهرين والمتطهرين- على شبكة الألوكة): 

"فالمطَّهِّرون والمتطهِّرون كلمتان تنحدران من نفس الأصل، ولكن الفرق في أنَّ المطَّهِّرين أبلغ، وتدلُّ على المبالغة والمداومة على الطهارة، في حين أنَّ التَّطهرَ يكونُ في أوقات معينة، فيكون قبل بعض العبادات؛ كالصَّلاة والطواف مثلاً، وهو إما بالوضوء أو بالغسل، يقول الخازن في تفسيره: "إنَّ طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله جل جلاله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي، وقيل: يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين؛ يعني: طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي، وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء، والله يحب المطَّهِّرين: فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم، بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة".

 لقد جعل الله تعالى التَّطهر نصف الإيمان؛ بل وربطه بدعائم الإسلام، فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ، والحَمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبحانَ الله والحمد لله تملأان ما بينَ السمواتِ والأرض، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدقةُ بُرهانٌ، والصَّبرُ ضِياءٌ، والقرآنُ حُجةٌ لكَ أو عَليكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغدو، فبايعٌ نفسَهُ؛ فمُعتِقُها، أو مُوبقُها).

ويسّر الله الطهارة وجعل أجرها عظيمًا، فالغسل من الجنابة يطهِّرُ المرء، فإنْ غاب الماء أو خشي الهلكة، فصعيد الأرض بديل ورخصة ورحمة، وفرك المني من الثوب بعد جفافه يطهره، والوضوء من الحدث الأصغر يُطَهِّرُ المرء، وفي الغسل والوضوء تيسير عجيب، يقول الكاساني في بدائع الصنائع: "أما بيان مقدار الماء الذي يغتسل به، فقد ذكر في ظاهر الرواية، وقال: أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع، وفي الوضوء مد؛ لما روي عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكفنا؟ فغضب، وقال: لقد كفى من هو خير منكم وأكثر شعرًا"، كل هذا في الطهارة الحسية. أما الطهارة الروحية، فهي الأصل، وهي المراد، فحين تكون النفس خبيثة، وتمتلئ بالشهوات الشيطانية، والشبهات الشركية، والحقد والكيد، وتمني هلاك الآخرين، فلا معنى للثوب النظيف والجلد النظيف.

وفي تفسير ابن كثير، تتظافر الأحاديث النبوية في الثناء على الذين يتطهرون بالماء: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة ".

وقال أبو داود: عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) قال: كانوا يستنجون بالماء.

وقال الطبراني: عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟". فقال: يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه- أو قال: مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم. "هو هذا".

وقال الإمام أحمد: عن عويم بن ساعدة الأنصاري: أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء، فقال: "إن الله تعالى قد أحسن (عليكم الثناء) في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ "فقالوا: والله – يا رسول الله - ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا.

ورواه ابن خزيمة في صحيحه. عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة. "ما هذا الذي أثنى الله عليكم: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قالوا: يا رسول الله، إنا نغسل الأدبار بالماء (من الغائط).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: قباء، فقال: "إن الله، عز وجل، قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا، أفلا تخبروني؟". يعني: قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فقالوا: يارسول الله، إنا نجده مكتوبًا علينا في التوراة: الاستنجاء بالماء.

وفي السنن وغيرها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: "قد أثنى الله عليكم في الطهور، فماذا تصنعون؟ "فقالوا: نستنجي بالماء".

لقد جاءت صفة الاستنجاء الثابتة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان أحيانًا يستعمل الماء للتنزه من الخارج (الغائط) ولربما استعمل الحجارة, وكثيرًا ما جمع بينهما؛ ففي الحديث المتفق عليه عن أَنَس بْن مَالِكٍ، قال : "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ (يدخل الخلاء)، أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ، مَعَـنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْـنِي يَسْتَنْجِي بِهِ" (متفق عليه) والْإِدَاوَة: إِنَاء صَغِير من جلد يتَّخذ للْمَاء (يصبّ منه على فرجه). وفي مسند الإمام أحمد، وغيره، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَغْسِلُوا أَثَرَ الْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعله". (صححه الألباني).

وفي (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) للمباركفوري: (يؤخذ منه، ومن غيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يقتصر على الماء تارة، وعلى الحجر أخرى، وكثيرًا ما كان يجمع بينهما)، قاله القاري، وفيه رد على من أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وهو مالك، ومن وافقه. انتهى.

وكان صلى الله عليه وسلم يمسح يده بالتراب بعد الاستنجاء بالماء.

وفي سبل السلام للصنعاني: ومن آداب الاستنجاء بالماء مسح اليد بالتراب بعده، كما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيت بماء في تور أو ركوة فاستنجى منه، ثم مسح يده على الأرض».

وأخرج النسائي من حديث جرير؛ قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء فقضى حاجته، ثم قال: ياجرير، هات طهورًا، فأتيته بماء فاستنجى، وقال بيده فدلك بها الأرض» ويأتي مثله في الغسل. انتهى.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يستهلك الكثير من الماء، فقد كان يستنجي من (إداوة) أي: مطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء. وأفضل صفة للاستنجاء عمومًا هي الجمع بين الحجارة ـ أو نحوها ـ مع الماء.

والاستنجاء هو إزالة ما خرج من أحد السبيلين بماء أو حجر ونحوه (مثلاً باستخدام ورق المسح)، وإذا انقطع الخارج من السبيل فلا مانع من الاستنجاء برشّ الماء (الشطّاف). واليد التي تباشر الاستنجاء هي اليسرى ولا يشرع باليمنى إلا لعذر، أما صبّ الماء عند الحاجة إليه فيكون باليمنى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وفي صحيح مسلم من حديث سلمان لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم.

قال النووي: أي نهانا أن نستنجي باليمين والنهي عن الاستنجاء باليمين يدل على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها لأن اليمين للأكل والشرب والأخذ والإعطاء ومصونة عن مباشرة الثفل وعن ممارسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات وخلقت اليسرى لخدمة أسفل البدن لإماطة ما هنالك من القذارات وتنظيف ما يحدث فيها من الدنس وغيره.

يجب الإنقاء في الاستنجاء، وفي حال الاستنجاء بالماء فقد ذكر بعض الفقهاء أنه يُسنّ فيه التثليث من باب غـسل النجاسات أي يغـسل المحل حتى يغلب على ظنه أنه طهر، ثم يغسله مرتين بعد ذلك.

 ففي (تحفة الحبيب على شرح الخطيب) في الفقه الشافعي: (أما الاستنجاء بالماء فيُسنّ فيه التثليث كسائر النجاسات، ومعناه أنه إذا استعمل ماء حتى غلب على ظنه زوال النجاسة فهي كالغسلة الواحدة فيُسنّ أن يأتي بثانية وثالثة (كما في الاستجمار بالحجارة لا يكون إلا بالتثليث أي باستعمال ثلاثة أحجار). انتهى.

بعد الاستنجاء:  كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء دلك يده بالأرض، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: "وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ"، (متفق عليه) وفي رواية: "ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ، أَوْ بِالْحَائِطِ". فإذا كان يمكن أن يصب من الإناء بيمينه ويغسل بيساره فعل ذلك.

فلو غسل يديه بالصابون ونحوه مما يزيل ذلك الأثر، فهو كما لو دلكها بالأرض، بل أولى. قال النووي رحمه الله: "يُسْتَحَبُّ لَلْمُسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إِذَا فَرَغَ أَنْ يَغْسِل يَدَهُ بِتُرَابٍ أَوْ أُشْنَانٍ أَوْ يَدْلُكُهَا بِالتُّرَابِ أَوْ بِالْحَائِطِ لِيَذْهَبَ الِاسْتِقْذَارُ مِنْهَا" انتهى من "شرح مسلم" (3/231) .

ثم يتوضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة، فيبدأ بغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلها في الإناء.

روى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "حَدَّثَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ، قَالَتْ: أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِهِ عَلَى فَرْجِهِ، وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الْأَرْضَ، فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِلْءَ كَفِّهِ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ". وفي رواية لمسلم: "فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ".

العواقب الطبية لعدم استعمال الماء في الاستنجاء

وعدم غسل المخرج بالماء له عواقب طبية وخيمة: كالتهاب الجلد، والخراج حول المخرج, والناسور المخرجي إضافة لرائحة العـرق المقرفة الممزوجة بريح الغائط. كما أن عدم تطهير المخرج بالماء يؤدي لبقاء فضلات الخرء هناك، مما يتسبب بـ حكّة مخرجية شديدة pruritus ani . ولعل الأهم منها الإصابة بالنواسير العصعصية pilonidal sinuses في الأشخاص ذوي البنية الممتلئة والشعر الكثيف الكثيري التعرق ممن يلبسون بنطلونات الجينز بلا مسامات تهويه (non-porous Jeans trousers). ولعل السبب بكثرة النواسير العصعصية في الغرب وقلتها نسبيًّا بين الفرنسيين يعود لاستعمالهم النافورة المائية (Bidet) في الحمام والمقتبسة من الأندلس، ويقوم مقامها أنبوبة "الشطّاف" للتطهر والتنظيف في الخلاءات الشرقية، وابتكار الأتراك لنافورة الماء في الكرسي الغربي.

بين جلستي الكرسي والقرفصاء

يقول الأستاذ الجراح الاستشاري البريطاني روبن تاغرت: (نوقش تأثير ثني مفاصل الوركين على زاوية الشرج والمستقيم، واستُنتِج أن زاوية الشرج والمستقيم تنفرج وتستقيم مع ثني مفصل الفخذ، وترتفع القناة الشرجية منفتحة بنفس الوقت، واستقامة زاوية المخرج تزداد بتأثير الدفع مما يؤدي لتقليل المقاومة عبر التقاء الشرج بالمستقيم ولسهولة التبرّز (أي الاستنجاء). وثني الوركين أثناء التغوط (بوضع القرفصاء) يوصى به كجزء من علاج الإمساك وكوقاية من البواسير) – أنظر الصورة.

على الرغم من الأدلة الدامغة على أهمية القرفصاء، فإن وضع الجلوس في المراحيض الغربية لم يتغير. ومع ذلك، قام مكتب الضرائب الأسترالي مؤخرًا (15 آب/أغسطس 2016) بتثبيت اثنين من مراحيض القرفصاء الشرقية في مكتب بوكس هيل الجديد، لأن أكثر من واحد من كل خمسة من موظفيهما كان من أصل إسلامي – وأيضًا لمعالجة مسألة الموظفين بمقر كانبيرا الذين يجلسوا القرفصاء فوق مقاعد المراحيض الغربية (لتنجسهم من المقاعد، هذا بالرغم من الإعلان بعدم عمل ذلك - انظر الشكل).

تاريخيًّا، يمكن أن تنسب "مرحاض الكرسي الغربي" إلى الملك هنري الثامن. وفي الملكية الإنجليزية، كان "مسؤول البراز 'Groom of the Stool' "أصلاً خادمًا يُساعد الملك في وظائفه الجسدية وفي التنظيف. كان "مسؤول البراز" هذا مقربًا من الملك ومن أولاد النبلاء، ووظيفته ابتُكِرَت خلال عهد الملك هنري الثامن لمراقبة ومساعدة حركات أمعاء الملك (لمسح مقعده من الغائط، ومساعدته في التنظيف).

وكلمة "ستول Stool" تشير لقعادة محمولة (هي صندوق، ثم صارت أيضًا تعني البراز، لإرتباطها بقعادة الملك - انظر الصورة)، وتُحمل القعادة في كل الأوقات (جنبًا لجنب مع الماء والمناشف ووعاء الغسيل). ولضمان قيامه بعمله بأقصى قدرٍ من الكفاءة، كان مسؤول البراز أيضًا هو الراصد عن كثب لغـذاء الملك وتنظيم أوقات وجبات طعامه، وكان ينظم يومه حوالي الأوقات المتوقعة لتبرّز الملك.

كان أبناء النبلاء عادةً هم من يحصل على هذه الوظيفة. ومع مرور الوقت، صار مسؤول البراز يعمل كأمين وسكرتير للملك ويُكافأ بأجور عالية مع فوائد عظيمة أخرى. وبطبيعة الحال، يكافأ مسؤول البراز أكثر إن كان هو من يقوم بتنظيف مؤخرة الملك بنفسه. وكان للملكات سيدات خاصة بهن. واستمر دور مسؤول البراز حتى عام 1901 عندما قرر الملك إدوارد السابع إلغائه أخيرًا.

وهكذا، جاء كرسي المرحاض الغربي من جلوس الملوك. لم يكن هناك أي علم فيها؛ ثم تم تجهيز أول مرحاض جلوس ثابت للملكة فيكتوريا. كان الجلوس على كرسي المرحاض للملوك والملكات، وكان جلوس القرفصاء للفقراء. ثم صار الكرسي "رمزًا للعظمة Status Symbol".

اعتمد الناس وضع الجلوس لمحاكاة ومشابهة الملوك، ولكن القليل منهم الذين علموا إن جلسة القرفصاء هي الأصح. في هذه الأيام، 37% فقط من البالغين يمكن أن يجلسوا القرفصاء بالكامل (في الغرب)، مما يجعل مراحيض القرفصاء الشرقية صعبة لكثير من الناس.

المرحاض الشرقي هو مرحاض القرفصاء squat toilet، بدلاً من جلوس الكرسي sitting toilet. هناك عدة أنواع من مراحيض القرفصاء، ولكنها جميعًا تتكون بالأساس من ثقب في الأرض. يتم استخدام الماء للطهارة، وذلك باستخدام إبريق ماء من الصنبور أو باستخدام ماء الشطاف (خرطوم) أو بيديت bidet (نافورة) من الماء.

في الواقع، نحن مُصمّمون لنجلس القرفصاء أثناء الاستنجاء. وعلميًّا، فإن القرفصاء يمنع جميع الأمراض الناتجة عن وضع الجلوس الغربي، بما في ذلك:

1. العصر، والإمساك، وركود البراز مع اختناق الغشاء المخاطي للقولون والمستقيم. مع الاستفراغ غير الكامل للغائط لعدم وجود ضغط الفخذين وبسبب الطوية الحادة لطوق زاوية المستقيم بالمخرج مما يتسبب بخلل العصب الشرجي Pudendal nerve dysfunction .

2. البواسير هي مشكلة شائعة للغاية، خاصة في البلدان الغربية، حيث تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن ما يصل إلى نصف السكان الذين تزيد أعمارهم على 40 عامًا قد يعانون بشكل أو آخر من البواسير. وإن أحد الطرق المقترحة لمنع وعلاج البواسير هو جلسة القرفصاء لأجل التغوط.

3. بل أن سرطان القولون يرتبط بالإمساك (وجلوس الكرسي). ووفقًا لتقرير عام 1998 في مجلة، علم الأوبئة، "الناس الذين غالبًا ما يشعرون بالإمساك كانت أكثر من أربعة أضعاف باحتمال تطور سرطان القولون أكثر من الذين لم يشكوا من الإمساك". وجدت الدراسة أيضًا إن استخدام المسهلات التجارية في كثير من الأحيان كان مرتبطًا "زيادة كبيرة في خطر الإصابة بسرطان القولون".

 


عدد القراء: 21638

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 4

  • بواسطة عاصف الأسعد القدومي من بريطانيا العظمى
    بتاريخ 2017-08-17 22:40:16

    نشكر الاستاذ الدكتور مهند الفلوجي المحترم على هذا العمل القيم و الذي يدل على عمق البحث الذي قام به من اجل توضيح الفروقات بين الحضارتين الشرقيه والعربيه في مجال النظافه الشخصية والنظافه العامة مستخدما دلائل تاريخية، طبية و دينية وأثر ديننا الاسلامي الحنيف في تطوير الانسان المسلم في كافة المجالات الشخصية والاجتماعيه ومنهج الحياة ولو طبق ديننا الحنيف لكانت البشرية في أفضل حال وسلام .

  • بواسطة أ.د. عبدالحميد العباسي من
    بتاريخ 2017-08-16 17:55:03

    نعم تاريخ منسي وانا اظن كثيرون غيري لم يسمعوا عن سفارة للمسلمين في أوروبا في عصورها المظلمة. اما مظاهر النظافة عندهم آنذاك فكانت معدومة. أقول آنذاك وثق اني اطلعت على مثلها عند من عرفتهم منهم تذكر محاكم التفتيش الاسبانية كانوا اذا وجدوا حماما او ابريق في بيت احد يعتبروه مسلما وتم اقصائه. المصيبة اننا تبادلنا الأدوار معهم في قذارة الفكر المستورد إبتعدنا عن الجوانب المضيئة من تاريخنا وشكرا جزيلا. وانا أرى ان لك وفرا واسعا من المعارف ومدلولاتها فهنيئا لك ذلك ووفقك الله الى المزيد من العلم والسلام

  • بواسطة استاذ ثروت سليمان ادريس من
    بتاريخ 2017-08-16 17:10:03

    موضوع لطيف جدا يعكس روعه تعاليم النبي محمدالذي نشا في بيئه يشح فيها الماء ولكنه انشا مجتمعا تفوق في أخلاقياته على الغرب لقرون طويله والنظافة هنا لا تعني فقط نظافه الجسم بل نظافه ورقي الروح وهذا ما يتميز به الدين الاسلامي وبالمناسبة هناك فلم اجنبي عن رحله ابن فضلان وتحطم مراكبه ونزوله مع الفايكنغ the thirteenth worrier عاشت ايدك فقد تناولت الموضوع من زوايا مختلفه أرجو إكمال البحث وعرض رحله ابن فضلان بإسهاب ان كان لديك مصادر عنها أنا معجب بشخصيه هذا الرجل الذي لو قدر له الوصول الى نهايه رحلته لكان الاسلام قد امتد الى كل أوربا هناك قصه تقول ان ملك إنكلترا هو الذي أرسل الى الخليفة العباسي يطلب منه إرسال بعثه لنقل الفكرزالاسلامي الى بريطانيا الا ان حاشيته ودخولهم من زوال سلطتهم ارسلوا أسطولا لإغراق السفن ألعربيه فتاه ابن فضلان في البحر لينزل على شواطئ الدانمارك وهنا التقى بالفايكنغ وبدات القصه

  • بواسطة خالد عبدالله من الأردن
    بتاريخ 2017-08-16 16:52:09

    مقال جداً رائع

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-