بين حـضارتين: مفارقـاتٌ بين الشرق والغـرب (شهادة ُطبيبٍ عـربيّ في الغـرب)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-17 08:15:26

أ.د. مهند الفلوجي

لندن

لكل منا قصة شهدها وتجربة عاشها في الغرب (إن لم تكن له أقاصيص كُثُرٌ طِوال)، وسواء انتهت هذه بنهايات محزنة مؤلمة أو بنهايات سارّة سعيدة، لكن جميعها تشكل ثروة هائلة من مخزون التجارب المفيد سلبًا كان أو إيجابًا: لأجل أن يحذر المتأخرون من سلبياتها، وليحذو حذو إيجابياتها.

في حياة كل واحدٍ منا أحداثٌ شتى، تكتسب أهميتها من أهمية مستوى الشخص العلمي والوظيفي، ومن أهمية موقعه وعلاقاته في دائرة محيطه، ثم من جرأته في الحق، وتداخلاته وتأثيراته في المجتمع.

ثم إنّ الأحداث تتفاوت في قوتها، فمنها العادية الروتينية، التي لا تتعدى مستوى الرتابة، (لا فائدة من ذكرها)؛ ومنها أحداث توصيفية واقعية ثابتة مهمة (لا بد من ذكرها)؛ ومنها أحداث استثنائية في أمور الحياة، قد يُستفاد من ذكرها والاستشهاد بها، حتى وإن كانت شخصية، خصوصًا إذا كانت أبعادها وتأثيراتها تتجاوز الحدود الشخصية، وتفيد الصالح العام.

والأحداث تورد بدقائقها، ويراعى فيها أمران:

المصداقية والتوازن، مصداقية الرواية، واتزان العرض برؤية شمولية واسعة، لكيلا لا تكون رؤية محدودة، ومن زاوية واحدة ضيقة تفسد الفائدة المرجوة.

لم تكن مذكراتي في الغرب أيامًا عادية، فقد كنتُ من القلائل الذين صعدوا سلم الوظائف البريطانية إلى ذروة قممها المهنية.  ومن الذين قاموا ببحوث بشرية وبحوث مختبرية على الحيوانات في إحدى أهم مستشفياتها: مستشفى هامرسميث التعليمي في لندن، (وهي في أوج نتاجها العلمي الأكاديمي المميز عالميًّا آنذاك)، وتدرجت وظيفيًّا حتى صرت مسجلاً قدمًا في مستشفيات بلفاست التعليمية (أهم مراكز جراحات الطوارئ الأوروبية) ثم أصبحت جراحًا استشاريًّا في أصعب حقول الجراحة تحصيلاً، وهو :حقل الجراحة العامة واختصاص جراحة القولون والمستقيم والمناظير (نظرًا لجاذبيته وأهميته)،  ثم مدربًا في مركز لندن MATTU  (في كلية الجراحين الملكية الإنجليزية) لجراحات المناظير.

ثم صرت أستاذًا في علوم الجراحة وأستاذًا زائرًا في المملكة السعودية والإمارات وليبيا. وتكللت مسيرتي العلمية بتأليف العديد من الكتب المرجعية باللغة الانجليزية لطلاب الجراحة في المملكة المتحدة وفي العالمين العربي والاسلامي:

1. 'Postgraduate Surgery' –First Edition 1986 published by Heinemann Medical Books, Oxford

2. 'Clinical Radiology in Postgraduate Surgery' 1992 by Heinemann Medical Books, Oxford;

3. Postgraduate Surgery –Second Edition 1998 by Butterworth-Heinemann, Oxford;

4. Paradise Dictionary for English words of Arabic origin

معجم الفردوس للكلمات الإنجليزية ذوات الأصول العربية. (طباعة العبيكان للنشر)                     

ومعجم الفردوس هو أول قاموس مرجعي في العالم، بل وفي التاريخين الهجري والميلادي للكلمات الإنجليزية ذوات الأصول العربية، هذا إضافة لتأليف عدد هائل من البحوث الطبية والعلمية الرصينة والمنشورة عالميًّا في أمهات المجلات الشهيرة. ثم كنت المشرف على (معهد تاريخ الطب والعلوم عند العرب والمسلمين).

وبذلك توفرت لي فرص نادرة للتواصل والاحتكاك المباشر مع أعلى المسؤولين البريطانيين في الحقول الطبية وعلى أعلى المستويات العلمية، وتوافرت لي فرص نادرة لبحوث ميدانية مثيرة وخصبة وأصيلة مع تقييم لرؤى الآخرين من الداخل البريطاني الأوروبي، بل ومن مصادرها ومنابعها الأولى.

ولعل اطلاع الطبيب على أسرار المجتمع أكثر من اطلاع المحامي القانوني، بل وأكثر حتى من اطلاع المعلم، لأن القانوني يطلع على حالات خاصة في أوقات متباعدة لا تعكس حقيقة المجتمع، والمعلم يتواصل مع شريحة معينة من طلاب المجتمع. وأنا كنت طبيبًا يطلع على جميع شرائح المجتمع وطبقاته، ممثلاً بحالات مطردة ثابتة متكررة وحالات فريدة نادرة على السواء، وخلال عصرين متفاوتين: خلال دوراني بمراحل التدريب العالي في التخصصات المختلفة، قبل أن أكون استشاريًّا، ومن ثم عندما صرت استشاريًّا وعلى أعلى المستويات وفي أكثر التخصصات الجراحية إقبالاً وانتشارًا بين المرضى.

لعل من عادة الأجانب إنهم يكتبون مذكراتهم دومًا، فكلما سافر أحدهم أو عمل في بلد أجنبي يرجع لبلده ويكتب مذكراته. ويقوم بذلك كل رئيس وزراء سابق، بل وأغلب السياسيين، ومقدمو البرامج التلفزيونية، ومقدمو البرامج الزراعية والحدائق بكتابة مذكراتهم. فتزدحم مكتبات الغرب حاليًا بالكتب والمذكرات، بينما نحن بالشرق يندر نسبيًّا مواكبتهم في هذا الحقل، بل جُلّ كتاباتنا هي ترجمة لكتبهم، والتي لا تمتّ لنا بصلة كبيرة!!!  

(بين حضارتين: مفارقات بين الشرق والغرب) يفوق تفاصيل (قصة مدينتين) لشارلس ديكنز بين باريس ولندن آنذاك، و(تخليص الإبريز في تلخيص باريس) لرفاعة رافع الطهطاوي، وما كتبه غيرهم من الزوّار العرب في توصيف الغرب. الفرق بيننا وبينهم هو فرق في توصيف المنبع عن المصب، وفرق السماء عن الأرض، أي الفرق بين مصدر المطر في السماء وبين موضع انهماره على الأرض. فرق بين المؤثر المركزي الأصل وبين مُتلقي التأثير البعيد، فمتلقي التأثير الغربي من العرب والمسلمين في المشرق إنما هو توصيف لموضع التأثير في المصب، بينما العيش في المركز المؤثر ومعرفة مداخله ومخارجه ومعايشة أهله والقرب من صُنـّاع القرار في المنبع الأصل في رُؤاهم للعالم ولغيرهم من شعوب العالم وكيفية تفعيلهم لهذا التأثير وطبخهم  الطبخات السياسية في لندن (مطبخ السياسة العالمية) قبيل تفعيلها وتوزيعها على دول العالم. وتُعدّ بريطانيا بلد محافظ بين دول أوروبة، ولها أنفاسها وتأثيراتها في دول العالم جميعًا شرقًا وغربًا, فمثال بريطانية مركزي في المفارقات بين الشرق والغرب.  وللكتاب نظرات عميقة في الاستظلال في ظل دولة عظمى (كـ بريطانية العظمى) مقارنة ببلادنا العربية، وفي مدوناته تحليل لأصول المجتمع البريطاني خاصة والمجتمع الغربي عامة. 

مع ابن بطوطة وماركو بولو وسَمَك السَلـَمون

شاءت القدرة الإلهية أن أكون عربيًّا (عراقيًّا على وجه التحديد)، ليكون لي حِملٌ وقسطٌ  من أحمال أهلي وبلادي.  ولكي لا يكتبُ وصفة َ الشفاء مَن لم يعان آلام المرض، حيث لا يعرف الخيرَ إلا من ذاقَ الشرَّ وعانى ظرفه وقساوته، ولا يعرف عظمة الإسلام في التاريخ إلا مَن عاشَ الجاهلية َ وعايشها عن كثب. وبرغم الأهوال والنوازل التي حلـّت بالعراق وبأهله، وأحمالهم هي من أكثر أحمال الأمم؛ فلقد قال صلى الله عليه وآله وسلم تسليةً لهم: (إنّ من أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم ، ثم الذن يلونهم)؛ وفي جوابه لسؤال سعد بن أبي وقاص قائلاً: أيُّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه).

ولا زلت أبتسم بل وأفخرُ بعروبتي، كما أفخر بنسبي الحسيني الهاشميّ الشريف. ولا زلت أتفاءل دومًا بالمستقبل والفرج القريب وبالخير الوفير إن شاء الله، لأنها سُنّة الله في خلقه عبر التاريخ (إن مع العسر يُسراً).

لقد خبرت هذا العالم أسفارًا وترحالاً برًّا وبحرًا وجوًّا، ولقد أحببت البحر كحبي لليابسة. 

ولعل من الطبيعة البشرية وأنا أستوطن بريطانيا (جزرٌ في شمال المحيط الأطلسي) هو عشقي للماء والأنهار وعشقي للبحيرات والبحار، (ليتناغم مع سكني في بريطانية الأطلسية): أو ليس الإنسان قد خُلق من ماء (وجعلنا من الماء كل شئ حيّ)، فالمرء يتحرك بقلبه النابض بالدم (وجلـّه من ماء)، ويصول ويحول بدماغه المليء بالسائل النخاعي، ويجول بعينيه المليئتين بالسائل المائي، ويتغذى بأمعائه من الغذاء المهضوم بالعصارات السيّالة.

هي الطبيعة البشرية إذن تحكمني بتأمل البحار: في مدها وجزرها، وفي ملوحتها وأجاجها، بل وفي أسماكها وحيتانها:

ولله الحكمة البالغة في تأثير القمر على مدّ البحار وجزرها، ففيهما حياة للبشر يستخرجون منها النفائس والأسماك والقواقع ومفصليات البحر وثماره يجمعونها من الساحل والقاع بعد الجزر، ويغادرونها قبيل المد الراجع؛ ولله الحكمة البالغة في تأثير القمر علينا وعلى السوائل في أجسادنا، ومن ثم على مزاجنا النفسي والسلوكي.

ولله الحكمة البالغة في تمليح البحار، تكمن في حفظ الأسماك وأحياءه، فتؤكل وهي ميتة، لأنها محفوظة بماءٍ مركـّز بالملح الأجاج (كمُخلل الطـُّرشي).

ثم إن ملوحة البحار هذه تمنع التعفن، فلولا الملح الأُجاج لكانت تيارات مياه البحار وتيارات الرياح فوق ماءه تنقل عفونة الجيَف والسمك الميت في البحار آلافَ الأميال وعبر السواحل والمدن للبشر كلهم وتقتلهم باستشراء جائحة الوباء القاتل.

ولعل في انتحار الحيتان، وهي أكبر الكائنات على الإطلاق قوتٌ للعالمين؛ تأتيك بنفسها لتموت على السواحل لتوفر عليك مؤنة البحث عنها واصطيادها من باطن البحار، فبدل أن تذهب إلى منتصف المحيطات وأعماق البحار، وقد لا تستطيع حتى الإبحار إلى مواضعها لاصطيادها، فكيف بالغوص لأعماقها.

لكن للبحر عندي سحرٌ آخر:

ففيه ظاهرة لطالما كانت تشدّني دومًا وهي عودة سمك السلمون (Homing of Salmon fish) من البحار إلى الأنهار، التي ولدن فيها ورجوعها لموطن ولادتها. يولد سمك السلمون في الأنهار الحلوة بالآلاف، ثم تترعرع في طريق المياه المنسابة الجارية مُنجرفةً مع التيار من أعالي الأنهار ومنحدرة نحو البحر، حيث يكتمل تكوينها وعندما تبلغ إناث سمك السلمون سن البلوغ ويلقحها ذكور السلمون في البحر، تبدأ رحلتها العجيبة الغريبة المُضنية من البحر إلى النهر الذي ولدت فيه، فترجع مسرعة عكس التيار وتنطّ من الواطئ للعالي من مجرى المياه الصخري، فيترصدها الدببة والثعالب على حواف الأنهار. وعندما تعود الناجيات البالغات من السلمون لموطن ولادتها تشرع بوضع بيوضها بالآلاف ثم تموت بعدها في النهر في نفس البقعة التي ولدت فيها.

 وهكذا فعل ابن بطوطة (ولد في طنجة المغرب 1304 - 1369م حيث يرقد في طنجة) ترك بلاده عام 1325م وهو ابن الواحد والعشرين من العمر حاجًّا لبيت الله الحرام برًّا، وقضى في رحلاته  قرابة 29 سنة من عمره، ومن ثم قفل راجعًا أخيرًا لطنجة عام 1354م. وبناءً على طلب حاكم المغرب المريني آنذاك (أبي عنان فارس) كتب رحلته الشهيرة (رحلة ابن بطوطة المسماة: "تحفة النـُظـّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار").

وهكذا فعل ماركو بولو (1254م – 1324م) الذي ترك بلاده قرابة 19 سنة (ترك فنيسيا راحلاً للصين عام 1276م، ورجع لفنيسيا عام 1295م ليموت فيها). 

كم يتشابه هذان الرحالتان المتعاصران: لقد دارا العالم المعروف آنذاك, ثم رجعا إلى موضع ولادتهما، ليموتا فيها.

وأنا لا أكاد أختلف عنهما، فأنا أنتمي لعالمين مختلفين: عربي من الشرق يستوطن الغرب في بريطانية الأوروبية. أنتمي لثقافتين وحضارتين مختلفتين عن بعضهما عن بعض: حضارة الإسلام العربية وحضارة الغرب الأوروبية.

وبرغم مكتبتي العامرة الكبيرة وقراءاتي المستفيضة، لم أجد كتابًا توثيقيًا واحدًا مفصلاً يُرجَعُ إليه في مفارقات الشرق عن الغرب، يكتبه عربي أو مسلم استوطن الغرب وعاش الغُربة ردحًا من العمر.  ولكن هناك أشتاتٌ كثيرة من معلومات شفوية ممن عايش وسبّ الغرب، وممن مدحه وانتصر له، وممن يكيل اللوم لظروف الشرق التي دفعته للهجرة إلى بلاد الغرب. وهناك أيضًا كتيبات وفصول كتبها زائرون سوّاح، لم يقضوا في بلاد الغرب سوى أيامًا معدودات على أقل تقدير، وقد تتجاوز بضع شهور، قد تصل أحيانًا لبضع سنين من الإقامة والدراسة على أبعد تقدير.

إن الكثير ممن استوطن الغرب وعاش فيه، كان قد شقّ أحد طريقين:

 n إما أنهم نزعوا هويتهم بالكامل وتغرّبوا واغتربوا تمامًا، خصوصًا بعد أن تزوجوا بأجنبيات وصاروا ينظرون نظرة دونية لأوطانهم في المشرق، (وإن كانوا لا يخلون أحيانًا من نظرات العطف والحنان لأوطانهم).

أقول: في الوقت الذي أثـّرَ هؤلاء المسلمون إيجابيًّا في الغرب وتطوره خدميًّا وعلميًّا، فقد تأثر هؤلاء ولشديد الأسف بالمجتمع الغربي سلبيًّا.

n وإما أنهم عاشوافي الغرب محتفظين بالكثير من مزايا هويتهم وشخصيتهم الشرقية، لكنهم نسوا في معمعمة الحياة وحركتها الرتيبة هناك من تسجيل مشاهداتهم المفيدة سلبًا أو إيجابًا، وحتى لو كانت لهم مشاهدات، فقد لا يكونوا قد امتلكوا ملكة الكتابة لتسعـفهم بتسجيلها في كتاب. 

أقول: تواصلت مع هؤلاء وكنت أسجل مشاهداتهم الشخصية وملحوظاتهم العامة، لأحتويها في المفارقات بين حضارتين.   

إنّ الثقافة هي منظومة متشابكة من العلم والروح والعادات والسلوك. وهي التي تفضي للحضارة التي هي نتاج الثقافة المادي الملموس. فكل حضارة لها ثقافة ترتكز على مبادئها، لكن ليست كل ثقافة تتطور إلى حضارة.

والثقافة العربية الإسلامية هي التي احتضنت علوم الإغريق والفرس والروم وصهرتها جميعًا في بوتقة الإسلام ومبادئه السمحاء لتصنع أعظم حضارة في العالم والتاريخ، حضارة ترتكز على العلم والإيمان؛ وما تأخرها اليوم إلا بسبب عدم تفعيل أو سوء تطبيق الثقافة العربية الإسلامية، وعدم نهضة أبنائها للجهاد والاجتهاد في سبيل إعلائها.

لقد كانت بغداد العباسيين مركز الحضارة والعلوم والتسامح الديني والتحرر الفكري والتعايش الإنساني والأخوة الحقيقية بلا عنصرية، بينما صار الغرب اليوم ممثلاً بالعاصمة البريطانية: لندن هو مركز العلوم وموضع التسامح الديني والحرية الفكرية والتعايش الإنساني، ولكن بلا أخوة حقيقية وبـعلاقة ممزوجة بعنصرية مُبطـّنة.

تركز المدونات على المفارقات بين الشرق والغرب بشهادة طبيب عربي عاش في الغرب وسجّل الأحداث والأمور ذوات العبر والفائدة والاعتبار, مع إهمال وحذف للكثير من التفاصيل الشخصية المملة وغير المفيدة، التي ليس للقارئ فيها ناقة ولا جمل.

وهذا يجعل كتاب (بين حضارتين أو بين ثقافتين) مرجعًا مركزيًّا معتمدًا وكتابًا فريدًا وحيدًا في المفارقات بين الشرق والغرب، بل وكتابًا ممتعًا ومكتنزًا بأسرار دقيقة وعميقة ومدهشة يُفصَحُ عنها لأول مرة عن تفاصيل الأحوال الطبية والعلمية والاجتماعية والسياسية والقانونية مع الخلفية التاريخية لثقافة الغرب مقارَنة ً بثقافة الشرق العربي الإسلامي.

فالكتاب ذو مقاصد شريفة سامية تعرض:

المفارقات الإيجابية المفيدة (للتعلم منها)،  والمفارقات السلبية الضارة (لتجنـّبها والاحتراز منها).

من هنا، يكون الإلمام بهذه المفارقات جميعها ومعرفة مفيدها من ضارّها، موضوعًا شيّقًا شديد الأهمية والخطر، بعيد الرؤية والنظر، وعميق التأثير والأثر، في تفسير أحداثنا التأريخية قديمًا، وفي تفعيلها وتطبيقها حاضرًا، وفي تطلعاتنا وآمالنا مستقبلاً.

القرية العالمية

والمفارقات بين الشرق والغرب مهما اختلفت وتباعدت وتعمقت وتعددت، لكن يظلّ الشرق والغرب وجهين لعملة عالمية واحدة، وانعكاسًا لحضارتين مختلفتين، لكن في قرية عالمية واحدة، يتأثر كلٌّ منهما بالآخر ويؤثر به كذلك.

لكننا اليوم في وقت تكاد تذوب فيه الفروق بين الشرق والغرب، في وقت صار أبناء الشرق يقلـّدون أبناء الغرب في طباعهم وشمائلهم، وفي وقتٍ صار أبناء الشرق يتنافسون للمجيء الى بلاد الغرب زيارةً وهجرةً، ويقومون بترجمة كلَّ ما عندهم من نتاج إلى لغتنا، سواء في مجال العلوم البحتة والفلسفة (وهذا قليل نسبيًّا) أو في مجال الآداب في حقول القصص والروايات المسرحية والأفلام السينمائية (وهذا كثير). ويرجع ذلك كله الى عقدة النقص عندنا (inferiority complex) بسبب تأخرنا تقنيًّا وعدم مواكبة الغرب في علومه. هذا في حين ٍ لا يأبه الغـرب اليومَ كثيرًا بترجمة ما عند الشرق من نتاج أدبيّ أو علميّ إلى لغتهم، اللهم إلا ما ندر، وذلك بسبب عقدة الاستعلاء والاستكبار عندهم (superiority complex).

وصار للغرب اليوم قنوات ووسائل إعلام كثيرة تتواصل بلغة الشرق! لا لتأخذ منه بل لتـُديم وتـُحكم من تأثيرها الفكري على الشرق في زمن صار العالم كله قرية صغيرة عالمية، تـُنقلُ فيه الأخبار مباشرة، وتتواصل فيه الشركات إليكترونيًّا، وتقصرُ فيه المسافات بين الدول سفرًا.  

إذن ما الفائدة من كتابة كتاب المفارقات بين حضارتين والعالم كله صار قرية واحدة؟

والجواب:

لأن الشعوب تختلف بعاداتها وطبائعها وقوانينها ونُظم حكمها عبر التاريخ، فالشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقي الإثنان أبدًا.

وبينهما فواصل جغرافية (وحروب صليبية في حملات حكومية هائلة دامت 200 سنة). وهذا ما يؤكده شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كبلنغ  Rudyard Kipling في قصيدته:

 Oh, East is East and West is West,

And never the twain shall meat

وقد يكون للشرق تفاضل رباني على الغرب لأن نبيه الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم) أُرسل رسولاً للعالمين والناس كافة، ولهذا لم يرسل الله تعالى نبيًّا واحدًا إلى أوروبا؟ 

والله أعلم بعباده، لأنه يعلم أن لو أرسل لهم نبيًّا في أوروبه، أنهم لن يتقبلوا دعوة نبيه بحرارة وعاطفة ولن ينصروه، فمن مواصفات الغربيين البرودة وقلة الغيرة والفلسفة البيزنطية السفسطائية المعقدة والانتقام الزائد، ويغلب على الإنجليز النفاق عدم الإخلاص والخيانة (فالكثير من الإنجليز مخبرون سرّيون حتى على جيرانهم). بينما العرب فبرغم مشاكساتهم وعداواتهم البينية، إلاّ إنهم أهل حرارة عاطفية وأشعار وأهل غيرة وشجاعة وكرم. ويغلب على الشرقيين خصوصًا العرب بساطة ووضوح التفكير والثقة الزائدة بالناس والجيرة وحب الجيران.

ثم إن الماضي يختلف جوهريًّا بين شعوب الشرق والغرب، وهو الذي يرسم شكل الحاضر والمستقبل.  

يرتبط الماضي بالحاضر والمستقبل بوشائج تكوينية لا تنفصم، فيمدّ الماضي جذور الحاضر، وهذا بدوره يُنبت شجرة المستقبل وفروعها. نحن تربينا في الشرق وتعلمنا ونشأنا بالطرق التقليدية القديمة Old is Gold، لكن الجيل الجديد في الغرب (والآن في الشرق) من أبنائنا سطحيون ومعلوماتهم انتهازية تكاد تقتصر على الشبكة العنكبوتية، لذا فإن جيل الإنترنت هذا يفتقر للخبرة: خبرة الجيل القديم، وأبناء الجيل الجديد متلوّنون ومتغيرون في خُلُقهم كما هم متغيرون في خَلقِهم وعمليات التجميل المصطنعة وعمليات تحويل الجنس، يؤمنون بكل تغيير بلا ثبات واستقرار New is Change .  فنحن كنا مثل الديناصورات العملاقة قياسًا بالجيل الجديد الذي يشبه الكائنات الطفيلية opportunistic organisms لكن للأسف الديناصورات منقرضة، وجيلنا سينقرض إلا لمن حافظ على التربية التقليدية لأبنائه في بعض بلاد الشرق مع المرونة لاحتواء تقنية الشبكة العنكبوتية.

والشرق اليوم يمثل الذهب القديم، بينما الغرب اليوم يمثل الجديد المتطور.

وهما يشكلان مفارقات لطيفة تذكرني بنكتتين:

الأولى:

حكي أن الحجّاج بن يوسف الثقفي (عفا الله عنه) اشترى غلامين أحدهما أسود، والثاني أبيض (يذكرانني بالشرق والغرب تباعًا)، فقال لهما في بعض الأيام: كل واحد يمدح نفسه، ويذم رفيقه.

فقال الأسود:

 ألم تر أن المسك لا شيء مثله  

                                       وأن بياض اللفت حمل بدرهــم

وأن سواد العين لا شك نورها

                                       وأن بياض العين لا شيء فاعلم

فقال الأبيض:

ألم تر أن البدر لا شيء مثله 

                                        وأن سواد الفحم حمل بدرهم

وأن عباد الله بيض وجوههم

                                       ولا شك أن الــســود أهل جهنم

فالخير إذن موجود في الإثنين (في الشرق والغرب).

الثانية:

حال الشرق (بسحره وجماله وأسراره) أمام الغرب (المفعم بالحياة والحيوية الجديدة) يذكرنا بسجال زوجة الرجل القديمة مع زوجته الشابة الجديدة، حيث كانت الجديدة تمرّ بدار ضرّتها القديمة، فمرةً تقول لها :

 

وما تستوي الرجلان: رِجلٌ صحيحة 

                                          ورجلٌ رمى بها الزمان فشُلَّت

ومرة تقول لها:

وما يستوي الثوبان: ثوب به البلى

                                        وثوب بأيدي البائعين جـديــــد

 

فخرجت إليها الضرة القديمة قائلة لها:

نقلْ فؤادك حيث شئت من الهوى

                                       ما  القلب  إلا  للحبيب  الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

                                      وحنـيـنه  أبـــدًا  لأول  مـنــزل

روى الخطيب البغدادي بإسناده عن موسى بن يسار أنه قال: (لا تأخذوا العلم إلا من أفواه العلماء) وقال أيضًا:

(الذي يأخذ العلم من الكتب، يقال له: الصحفي. والذي يأخذ القرآن من المصحف يقال له مصحفي). والتصحيف والتحريف هما آفة الكتب. لكن هذه العبارة اللطيفة تنطبق على الزمن الماضي أكثر من زماننا الحالي، فقد قيلت في وقت كانت الكتب تُخط باليد، فتختلف الخطوط، ويتداخل الكلام، ويقع التصحيف، ويكتب أحيانًا بلا نقط - فضلاً عن الشكل-... إلى آخر مايعترض طالب العلم في الكتب حينئذ.

لقد تربينا في الشرق، وتعلمنا تعلم التلميذ مع أستاذه والطالب مع شيخه، ولكم كنا نستهجن من يعتمد الكتاب وحده دون أستاذ أو شيخ, مستشهدين بالمقولة: (من كان إمامه كتابه. كثر خطؤه وقلّ صوابه)  أو (من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه). فالكتاب برغم أهميته وتأثيره إلا أنه أحيانًا قد يشكل معلومات أكاديمية نظرية باردة، لا تُقارن بمخزون المشاهدات الميدانية والمعايشات القريبة والدراسات العملية (كهذا الكتاب).  وأعظم الكتب هي التي تعتمد التفعيل والترجمة العملية الحقيقية للمعلومات الأكاديمية النظرية البحتة.

منافع الترحال وفوائد السفر

إن الكلمة الإنجليزية  (Travel) هي من أصل عربي (ترحال) ، بل إنّ العبارة الإنجليزية (Travel Agency)  هي الأخرى من أصول عربية، وتعني بالنصّ: (أجير الترحال)؛ حيث إن الكلمة ( Agency) مشتقة من أصل لاتيني (agere) أي أجير من الفعل أجّر يؤجر. وكان العرب قبل الإسلام قبائل رُحّل، يشتغلون بالتجارة والغزو، فجاء الإسلام فهذّب طباعهم.

وهذا يعني أن المسلمين لهم قصب السبق في الترحال للحجّ والعمرة، والهجرة في سبيل الله من أجل العقيدة وفتح البلدان، ومن أجل التجارة والاستكشافات الجغرافية, وقد جابوا البلاد سياحة وزيارة وأسفارًا، وقطعوا الأرض طولاً وعرضًا. ودوّنوا مشاهداتهم ورحلاتهم في كتب موثقة، مثل رسالة أحمد بن فضلان البغدادي وسفارته لشعوب الفايكنغ في قلب أوروبة، ورحلات الإدريسي وابن بطوطة وابن جبير وغيرها الكثير الكثير.

والأرض كلها (بمشرقها ومغربها) في مفهوم الإسلام هي أرض الله، يقول تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة:115 (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) المزمل:9 (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) الرحمن:17  والله تعالى يُقسم بنفسه قائلاً: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) المعرج:40

وكانت فتوح الإسلام استعمارًا وعمارةً للبلاد المفتوحة، ثم كان التوسع الغربي في العالم مستجلبًا معه تجارة الرقيق الأسود للمستعمرات الزراعية تحت إدارته، ثم فتح الغرب باب الهجرات له  لسدّ الشاغر بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكانت البعثات العلمية والإجازات الدراسية الشرقية تتابع إلى بلاد الغرب للنهل من علومهم وتقدمهم التقني، ومن ثم صارت الهجرات اليوم بسبب الظروف السياسية، التي تمرّ بالعالمين العربي والإسلامي (أشبه ما تكون بتجارة الرقيق، لكن بإرادة وجهد ومال المهاجرين أنفسهم!).

كنا في لندن عاصمة بريطانية نقول: «إذا رميت نواة التمر بالهواء، تسقط على رأس هندي» لكثرة الوافدين من الهند للأرض البريطانية. لكن اليوم نقول: «إذا رميت نواة التمر بالهواء، تسقط على 5 رؤوس عربية أو عراقية» لأن الوافدين من العرب والعراق والمغرب صار يبزّ ويفوق عدد الهنود في لندن.

 فحين تتجول في شارع إيدجوير روود Edgeware road في لندن تبصر المطاعم بأسماء عربية (كبّة الموصل) (سمك مسكوف عراقي) (كباب) (قوزي) (كبسة).  بل صارت كبة الموصل والمأكولات العربية تباع في سوق ساوث- هول south hall في لندن.  وفي كل سبت تجد الزوار يفدون على سوق بورتوبيللو روودPortobello Road Market ، وفيه عشرات الأطباق المغربية اللذيذة.

ذات مرة، لفت انتباهي في لندن عنوانان:

  (Damas Gate)، و(Moussaka Restaurant)، و(Meze Restaurant)، فاستغربت أشد الاستغراب من مُسمياتهما، فاتضح لي بعد البحث والتقصّي أنها جميعًا مُسميات عربية تعني (تباعًا): 

(بوابة دمشق), (مطعم مسقعة – أي  شرائح مطبّق الباذنجان)، (مطعم مزّه – أي مقبلات في أواني صغيرة مُنوّعة، تؤكل أحيانًا مع شرب الخمر) !!!

نعم، الأرض، كلّ الأرض هي أرض الله. وما هاجر العرب والمسلمون من المشرق للمغرب إلا سياحة في أرض الله: إما للعلم وللدراسة ونيل الشهادة، وإما للعمل، وإما للتجارة، وإما هجرة بسبب الظلم والطغيان في أوطانهم، ولعلها إرادة الله فوق كل إرادة تحكم في أرض الله بالتعريف ونشر الإسلام في قلب الغرب الصليبي، ولله الحكمة البالغة في كل شيء. 

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) النساء: 97 - 100.    مُراغمًا أي مكان لجوء.

يقول الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) في هذه الآية:

إنها نزلت في أناس تخلفوا في مكة ولم يهاجروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- فلما كانت غزوة بدر، أجبرهم الكفار على الخروج معهم، وحضروا القتال، فنزلت الآية الكريمة فيهم لمّا قتل من قتل منهم، وإن قوله جل وعلا: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم). معنى ظالمي أنفسهم بالإقامة بين أظهر المشركين، وهم قادرون على الهجرة، (قالوا فيم كنتم): يعني قالت لهم الملائكة: فيم كنتم؟ (قالوا: كنا مستضعفين في الأرض)، يعني في أرض مكة، (قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة)، يعني قالت لهم الملائكة: (ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين).. الآية. فهو متوعدون بالنار، لأنهم أقاموا بين أظهر الكفار من دون عذر، وكان الواجب عليهم أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام، إلى المدينة المنورة ..... وبكل حال فهم بين أمرين: من قاتل منهم وهو غير مكره فهو كافر، حكمه حكم الكفرة الذين قتلوا، وليس له عذر في أصل الإكراه، لأنه لما أكره باشر وقاتل ومساعدة الكفار، فصار معهم وصار مثلهم، ودخل في قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من ظاهر الكفار والمشركين وساعدهم بالسلاح أو بالمال فإنه يكون كافرًا مرتدًا عن الإسلام، أما من أكره ولم يقاتل ولم يرض بقتال أهل الإسلام، ولم يوافق على ذلك، ولكن أجبر وأكره بالقوة والرباط والإكراه، حتى وصل إلى ساحة القتال ولم يقاتل، فهذا يكون عاصيًا بأصل إقامته، ومتوعد على ذلك بالنار لأنه، أقام معهم من دون عذر، ولهذا ذكر ابن كثير رحمه الله وجماعة آخرون من أهل العلم: أن الإقامة بين أظهر الكفار وهو عاجز عن إظهار دينه محرمة بالإجماع، ليس للمسلم أن يقيم بين الكفار وهو يقدر على الهجرة، وهو لا يستطيع إظهار دينه، بل ومغلوب على أمره، بل يجب عليه أن يهاجر بإجماع المسلمين لهذه الآية الكريمة، لأن الله وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم بهذه الإقامة وتوعدهم بالنار، فدل ذلك على أنهم قد عصوا الله بهذه الإقامة، والهجرة لم تنقطع ما دام هناك دينان فالهجرة باقية، وإنما الهجرة التي انقطعت من مكة لما فتحت: لأنها صارت بعد الإسلام بعد ما فتحها الله على يد النبي صلى الله عليه وسلم صارت بلد الإسلام، فقال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح). يعني من مكة بعد الفتح، أما الهجرة في أصلها هي باقية، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة).

فكل بلدٍ صار فيها الكفار، ولم يستطع المسلم فيها إظهار دينه، ولا إقامة دينه، ولم يستطع الخروج يلزمه أن يهاجر، فإن أقام كان عاصيًا بالإجماع، أما المستضعف من الرجال والنساء والولدان فقد عذرهم الله. وهم الذين لا يستطيعون حيلة لعدم النفقة، أو لأنهم مقيدون، مسجونون، أو لا يهتدون سبيلاً، لأنهم جهال بالطريق، لا يعرفون الطريق، لو خرجوا هلكوا، لا يعرفون السبيل فهم معذورون، حتى يسهل الله لهم فرجًا ومخرجًا من بين أظهر المشركين، والله المستعان.

لكن السفر والترحال بذاته له فوائد جمّة، لخّصها الإمام الشافعي في خمسة، (بل هي أكثر) :

تغرّب عن الأوطان في طلب العـُلا

                                   وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائـد

تـفـرّجُ هـَـمٍّ، واكـتســابُ معـيشــةٍ،

                                   وعلـمٌ،  وآدابٌ،  وصحبـةُ  مـاجـــد

وإن قيل في الأسـفار ذل ومِحـنة

                                   وقطعُ الفيـافي واكـتسـاب الشدائـد

فموت الفتى خـيـرٌ لـه من حـياتــه

                                   بـدارِ  هـوان ٍ  بين  واشٍ  وحــاســـد

 1.  انفراج الهم والغم: فمما عرف واشتهر بين الناس أن الملازم للمكان الواحد، أو الطعام الواحد قد يصاب بالسأم والملل منه، فتنتابه الرغبة في التجديد، وهذا حال بعض المقيمين، إذ قد يعتريهم ما يُضيّقُ صدورهم، ويغتمون به، فيصابون بالملل والسآمة، ويحسون بالرتابة في حياتهم، فإذا سافر الواحد منهم تغيّرت الوجوه من حوله، واختلفت المشاهد والأجواء عليه، فحينئذ يذهب همه وينشرح صدره.

وهذا ما ينصح به الأطباء النفسيون من أصابه همّ أو غمّ أن يسافر، وقد قيل: لا يصلح النفوس إذا كانت مدبرة، إلا التنقل من حال إلى حال.

2 .  اكتساب المعيشة: فإن من ضاق عليه رزقه في بلد نُصح بالسفر إلى بلاد أخرى، طلبًا للرزق، فالله سبحانه وتعالى يقول:  (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك 15

فكم من رجل سافر لاكتساب الرزق ففتح الله عليه، ومن نوابغ الكلم: ( صعود الآكام وهبوط الغيطان خير من القعود بين الحيطان).

3 .  تحصيل العلم: فقد كان الأنبياء والصالحون، يرتحلون في طلب العلم، ويقطعون المسافات الطويلة أحيانًا لأجل سماع حديث واحد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يقول الإمام البخاري (رحمه الله تعالى – (رحل جابر بن عبدالله (رضي الله عنه)، مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس (رضي الله عنه)، في حديث واحد.

وفي كتاب الله العزيز، ذكر الله سبحانه وتعالى لنا قصة سفر موسى (صلى الله عليه وسلم) للخضر (عليه السلام) في آيات من سورة الكهف.

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ).

وقيل: لولا التغرب ما ارتقى درُّ البحور إلى النحور

4.  تحصيل الآداب: وذلك لما يُرى من الأدباء ولقاء العلماء والعقلاء، الذين لا يردون بلده، فيكتسب من أخلاقهم، ويقتدي بهم، فيحصل له من الأدب الشيء الكثير، وتسمو  طباعه. ومن العلوم والآداب معرفة طبائع الشعوب ومنتوجاتهم الزراعية والصناعية، بل وتذوق أطباق مطبخهم ونقلها لوطن المسافر.

5.  صحبة الأماجد: ويشهد لها الحس والواقع، فكم سافر إنسان فلاقى كرام الرجال وأطايبهم، فخالطهم وعاش معهم، لأنهم أهل الضيافة والكرم، ومساعدة المحتاج والعناية بالغريب، ولله درّ القائل:

نزلت  على  آل  المهلب  شاتيًا   

                                 غريبًا عن الأوطان في زمن المجد

فما زال بي إحسانهم وجميلـهم

                                 وبـرُّهُمُ    حتى    حسبـتهمُ    أهلي

ويقول الإمام الشافعي ( رحمه الله تعالى):

سافر تجد عوضًا عمن تفارقه

                              وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

إني رأيت وقوف الماء يفسده

                              إن  ساح  طاب وإن  لم يجرِ لم  يـطِبِ

6 .  استجابة الدعاء، كما ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:

"ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد لولده، ودعوة المسافر"  رواه الترمذي.

فلذا ينبغي للمسافر الحرص على الإكثار من الدعاء بالمغفرة والرحمة له ولوالديه ولجميع المسلمين، وأن يسأل الله عز وجل التسهيل والتوفيق لما فيه خير الدنيا والآخرة.

7.  زيارة الأحباب من أقارب وأرحام وأصحاب: وهذا من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ: لا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عز وجل. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ".

8.  صيانة النفس من الذل، فإن الإنسان قد يقيم بأرض يُذل فيها، فيسافر طلبًا لعزة نفسه، بل وأعظم من ذلك الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، كما كان ذلك أيام النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان المسلمون يهاجرون من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود في السنن.

ويشهد لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة، وهي أحب البقاع إليه، وهاجر إلى يثرب الطيبة، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها عزيزًا فاتحًا. يقول عن هذا العلامة بدر الدين الزركشي ( رحمه الله):

( يستنبط منه مشروعية الانتقال من مكان الضرر).

يقول الإمام الشافعي ( رحمه الله تعالى):

إرحل بنفسك من أرض ٍ تُضامُ بها

                                   ولا تكن من فراق الأهل ِ في  حُرَقِ

مَن ذلّ بين أهـالـيـــــــه ببلـدتــــه

                                     فالاغترابُ له من أحســن  الخـُلـُق ِ

فالعنبرُ الخام رَوْثٌ فـي مواطِـنِــه

                                  وفي  التغرّب  محمولٌ  على العـُنـُق ِ

والكحلُ نوع ٌ من الأحجار تنظـره

                                  في أرضه  وهو  مَرميٌّ على الطـُّرُق ِ

لمـا تغـرّب حـاز الفضـلَ أجمعـه

                                فصار يُحـمل بين الجـفــن والحَـدَق

9. ومن فوائد السفر النسك والعبادة: كالسفر إلى حجّ بيت الله الحرام.

10.  ومن فوائد السفر المهمة: الخبرة في الناس ومعرفة أخلاقهم، وهذا يُعبَّر عنه بتجربة الناس.

قال العجلوني: (السفر يسفر عن أخلاق الرجال)  وقال النجم: هو من كلام الغزالي في الاحياء بلفظ : (وانما سمي السفر سفرًا لأنه يسفر عن الأخلاق).  


عدد القراء: 7568

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-