«سور الأزبكية» للكتب.. ذاكرة مصر الثقافيةالباب: قصة مكان

نشر بتاريخ: 2018-06-16 03:20:15

فكر - المحرر الثقافي

سلام من صبا بردي أرق

                      ودمع لا يكفكف يا دمشق

 

ألقى الشاعر المصري أحمد شوقي هذه الأبيات في حديقة الأزبكية منذ نحو 90 عامًا، وفي المكان نفسه، وبالقرب من تمثال إبراهيم باشا بميدان العتبة وسط القاهرة أقيمت أكبر ساحة ثقافية، وأصبحت المصدر الأول للمصريين والعرب في شراء الكتب الأدبية والتاريخية والثقافية والمترجمة والروايات.

كان السلطان المملوكي أبو النصر سيف الدِّين قايتباي (ت 1496م)، صاحب القلعة المشهورة المطلة على البحر بالإسكندرية، سببًا ببداية الأزبكية وحديقتها وسورها ثم أسواق وراقتها، وذلك عندما أهدى أرضًا خالية فيها بركة ماء، لأبرز قادة جيشه سيف الدِّين بن أزبك، فشيّد عليها رصيفًا للمشاة، ومتنزهًا حول البركة، ومسجدًا وحمامات وأفرانًا، وجعل لهذه المناسبة عيدًا سنويًا، وما إن حلّ العام (1495م) إلا وغدت الأزبكية عامرة وسط القاهرة، ثم زاد عمرانها في العهد العثماني، وظلت منسوبة لاسمه على الرغم مِن تبدل الأزمان وتوالي الانقلابات والثَّورات.

قيل كان نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية إلى مصر (1798م)، يتردد عليها لتعلم الإسلام، واتخذ فيها دارًا له، ومن ميدانها نودي بالوالي العثماني محمد علي باشا أميرًا عليها، خارج سلطة العثمانيين، وذلك العام (1805م)، فجعلها محمد علي مركزًا للعاصمة المصرية القاهرة، ومقامًا للذوات من كبار الموظفين والأغنياء، وصارت مركزًا للتعليم لكثرة المدارس ووجود إدارة المعارف فيها. بعدها، وتأثرًا بما شاهده الخديوي إسماعيل بباريس، أُعيد تخطيطها وإعمارها (1867م)، وبعد حريق القاهرة (1952م) بدأ الحي بالتغير، فقد نُقلت الدوائر التي دمرها الحريق من ميدان التحرير إليه.

غير أن ما يعنينا مِن هذا التَّاريخ، أنه كيف غدت الأزبكية سوقًا لبيع الكتب وتبادلها، وبالتالي أصبحت مَعلمًا مِن معالم الثَّقافة، ومنارًا لها، يُضيء المكان وإشعاعه إلى داخل مصر وخارجها؟! يذكر المهتمون بتاريخ المكان أن باعة الكتب الجائلين والطائفين على مقاهيها، أرهقهم الطواف ببضاعتهم، فاتخذوا من سور حديقة الأزبكية محط قدم، يعرضون الكتب على السّور، فتعرف الزبائن إليهم، وغدا السور سوقًا للوراقين، ولم تثنهم مطاردة الشُّرطة، كونهم شكلوا سوقًا غير قانونية، وسط القاهرة، وكانت الأخيرة آنذاك معروفة بتنظيمها ونظافتها وجمال طرقاتها، هذا ما تعكسه لنا الأفلام المصرية قبل الخمسينيات، مِن القرن الماضي، وأثناءها. حتى حصلوا (1949م) بعد مطالبات على إفساح المجال، وبعد نحو عشرة أعوام أُقيمت لهم أكشاك لبيع الكتب، فتحول اسم الأزبكية مِن دار لقائد جيش ومكان لبركة وحديقة زاهية إلى سوق وراقة، يباع فيها الكتاب ويُشترى، حيث يعرض ورثة كبار الأدباء والكُتاب والمثقفين مكتبات ذويهم بأسعار رخيصة، ومكتبات مَن ضاقت بكتبهم دورهم، أو استغنوا عن الكتاب.

ويشكل "سور الأزبكية" لبيع الكتب القديمة والمستعملة بوسط القاهرة حالة معرفية وثقافية وتاريخية نادرة، تمتد في ذاكرة مصر المعاصرة لأكثر من قرن من الزمان، ويعرفه المثقفون والباحثون والأدباء والمهتمون بالقراءة عمومًا.

وعقب حريق دار الأوبرا المصرية عام 1981، قررت محافظة القاهرة بناء "جراج" متعدد الطوابق لانتظار السيارات مكان دار الأوبرا القديمة، وزاد الأمر سوءًا بالحفر أسفل سور الأزبكية لإنشاء خط سير "مترو الأنفاق" في التسعينيات، وهو ما أدى إلى إزالة السور بالكامل، وإغلاق المكتبات لفترة.

قاد المثقفون والصحفيون حملة إعلامية لإعادة اهتمام الدولة بمكتبات سور الأزبكية كأحد معالم القاهرة الثقافية، مما أدى إلى تخصيص الهيئة المصرية العامة للكتاب أحد الأجنحة المفتوحة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، لعرض كتب سور الأزبكية، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن.

شكّل هذا السور سوقًا رائجة للكتب التي تجمع بين الثمن الزهيد والندرة في الوقت نفسه، وتعتمد أساسًا على الكتب القديمة والمستعملة في مختلف مجالات المعرفة، يبيعها أصحابها بعد الانتفاع بها، أو يشتريها التجار من ورثة الكتّاب والأدباء، وبالتالي فهي فرصة للمواطن البسيط، الذي يسعى للقراءة والاطلاع مع ضيق ذات اليد، وينتشر بين المثقفين مقولة أن أي "كتاب (قديم) تبحث عنه ستجد منه نسخة في سور الأزبكية".

نوعية الرواد 

رواد سور الأزبكية للكتب في الأساس هم محبو القراءة من الطلاب والباحثين والصحفيين والموظفين والأدباء، كما يحرص أيضًا كثير من العرب على ارتياد السوق، حيث يستطيع أحدهم شراء ما يحتاج إليه من الكتب والمجلات النادرة بمال قليل.

وكان من الرواد أيضًا بعض مشاهير الأدباء والشعراء والسياسيين، منهم على سبيل المثال الروائي نجيب محفوظ، والأديب إبراهيم المازني، والأديب والشاعر عباس محمود العقاد، ومن رجال السياسة  الرئيس الراحل أنور السادات، كما يشير في مذكراته، ويُذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يتردد بنفسه عليه لاقتناء الكتب.

وما زال ينظر الكثيرون من مثقفي المجتمع المصري إلى "سور الأزبكية" بوصفه حالة ثقافية وتاريخية نادرة، أسهمت في تعزيز الوعي الثقافي في نسيج المجتمع لأكثر من مئة عام، من خلال ما يقدمه من كتب نادرة قديمة لشريحة من الباحثين والأدباء وهواة القراءة عمومًا في شتى أرجاء مصر.


عدد القراء: 6668

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-