قصر دولما باهجة جوهرة تتلألأ على مضيق البوسفورالباب: قصة مكان

نشر بتاريخ: 2015-06-12 12:16:35

فكر - المحرر الثقافي

قصر دولما باهجة قصر مهيب على الطراز الأوروبي كان مركزًا للدولة العثمانية في أثناء الستين عامًا الأخيرة من عمرها.

يقع قصر دولما باهجة على ضفاف مضيق البوسفور بالقرب من ميدان تقسيم، وتطل واجهته المهيبة على النهر مباشرة. وقد بُني القصر ما بين 1843 و1856، وحل محل قصر الباب العالي ليصبح مقر الإقامة الرئيسية للسلطان العثماني والمركز الإداري للدولة.

وما بين افتتاح قصر دولما باهجه ونهاية الدولة العثمانية، تعاقب على سكنى القصر ستة سلاطين. وعقب تأسيس الجمهورية التركية عام 1922، آل القصر للدولة، وأصبح مقر إقامة مصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس لتركيا ومؤسس الجمهورية التركية.

يضم قصر دولما باهجه 285 غرفة، وبه ثريا من الكريستال تزن أربعة أطنان ونصف. تم فتح قصر دولما باهجه للزوار حيث يمكنهم زيارة السلاملك والحرملك. ويشتهر السلاملك بسلم مصنوع بالكامل من الكريستال. أما أشهر غرف الحرملك، فهي الغرفة التي تُوفي بها أتاتورك عام 1983.

أقيم قصر دولمة باهجة في استانبول في تركيا على الضفة الأوروبيةِ من البوسفور، والاسم مشتق من واقعة أن قطعة الأرض التي بني عليها كانت جزءًا من البوسفور تم ردمها (أي حشيها). «دولمة» بالتركية تعني محشي و«باهجه» تعني حديقة.

بُنِى القصر ما بين السنوات 1843 و1856 تحت طلب السلطان عبد المجيد وهو السلطان العثماني الحادي والثلاثونِ، بكلفة خمسة مليون باونِ ذهبيِ عُثمانيِ أي ما يكافئ 35 طنًّا من الذهب. واستخدمت أربعة عشر طنًّا من الذهب ضمن بناء القصر لتذهيب سقوف القصر. كان الحاج سعيد آغا مسؤولاً عن أعمال البناء في القصر.

أشرف على بناء القصر المهندس المعماري الخاص بالسلطان عبد المجيد وهو قارابيت بايلان، واستغرق العمل فيه حتى عام 1856م، وقد بُني على طراز النهضة الباروكي في القرن التاسع عشر، وهذا لا يعني خلوه من بعض خصائص الفن المعماري التركي، وبلغت تكلفة تشييد القصر حوالي خمسة ملايين ليرة عثمانية أي ما يعادل بليار دولار أمريكي الآن.

كان السلاطين العثمانيين وعائلاتهم وحاشيتهم يقيمون في قصر (طوب قابي)، وبعد تشييد الدولما باهجة استقر هؤلاء في القصر الجديد باستثناء السلطان عبد الحميد الثاني الذي أقام في قصر يلدز طيلة مدة حكمه.

وقد عرف القصر الجديد الدولما باهجة أحداثًا تاريخية كثيرة منها: اجتماع البرلمان العثماني الأول فيه عام 1877م للمرة الأولى، كما أن رجل الدولة العثماني مدحت باشا اعتقل في هذا القصر مع أنصاره، وأمام هذا القصر سلم الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى الراية العثمانية بعد جلائهم عن استانبول، وفي هذا القصر مات في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1938م الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك وسجي جثمانه لإلقاء النظرة الأخيرة إليه، وكان الدولما باهجة مقرًّا لإقامة ضيوف استانبول من الزعماء مثل الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، والملكة الإنكليزية فكتوريا الثانية، والملك غيوم الثاني وغيرهم.

قبل الوصول إلى الدولما باهجة وأمامه مباشرة يوجد مسجد دولما باهجة وبرج الساعة، وشيد المسجد عام 1853م من ابن المهندس قارابيت وهو نيكوكوس، والمسجد له مئذنتان رفيعتان ورقيقتان من أرق المآذن في استانبول، أما برج الساعة فارتفاعه حوالي 27 متراً وشيد عام 1890م.

لقصر الدولما باهجة تسعة مداخل ضخمة منحوتة متشابهة، وأهمها مدخل السلطان. أما الزوار فيدخلونه من البوابة الشمالية المواجهة للمسجد، وما أن تعبر البوابة المزخرفة بنقوش جميلة جدًّا حتى تواجهك حديقة غاية الروعة تغطيها الأشجار والأزهار تتوسطها بركة زينت بتماثيل رائعة ومغطاة بالزنبق الأبيض. أما أشجار الحديقة فقد أحضرت من الهند قبل 150 عامًا. كما توجد في الحديقة تماثيل عديدة لأسود في وضع جالس أو متحفز.

ينقسم القصر إلى ثلاثة أقسام: قسم الرجال والنساء والاحتفالات ويتألف من ثلاث طوابق متماثلة مع رصيف بحري يقارب طوله 660 مترًا. درجات الدخول إلى القصر تقودنا إلى جناح الرجال وجناح النساء، وهنا يوجد 285 غرفة و43 صالون استقبال مزينة بلوحات لأشهر الرسامين وأثاث في غاية الفخامة، و 6 حمامات تركية، 43 مرحاضًا. استخدم في بنائه 14 طنًّا من الذهب، و60 طنًّا من الفضة، وهذا المبنى مؤلف من طابقين أحجاره من الخارج منحوتة ومن الداخل مغطاة بزخارف خشبية جميلة. بعد المرور بقاعات الخدم والحرس والانتظار والاستراحة تصعد سلالم رخامية ذات قوائم من الزجاج اللامع البلوري. بهو السلالم يرتكز على أعمدة من الخام الاصطناعي. أما الأرض فمغطاة بسجاد موشى بخيوط من الذهب.

قبل الدخول إلى قاعة السفراء نلتقي بتحف فنية تتوزع زوايا الفسحة التي تسبق الدخول إلى قاعة السفراء منها شمعدان زجاجي صنع تشيكوسلوفاكيا، وإناء فرنسي مرصع بحجارة ثمينة وتماثيل صغيرة لأسد وفرس ونمر، وكذلك شمعدان من العاج المغطى بالفضة مع تماثيل من أفيال فضية على القاعدة.

أما قاعة السفراء فهي ضخمة واسعة عالية، والأبواب حمراء من الخشب الصلب وبداخلها سجادة مساحتها 88 مترًا مربعًا تغطي جزءًا من الأرض، وساعة رائعة وفريدة من الفضة مزينة بتماثيل فضية لأسود وأيل، وعقرباها عبارة عن ثعبانين من المعدن، وهذه الساعة هدية من فرنسا، وفي كل ركن من أركان القاعة مدخنة مزينة اثنتان من المداخن من الفضة. أما سقف القاعة فمزين من قبل فنانين إيطاليين وفرنسيين، وفي القاعة أيضًا ثلاث ساعات مذهبة ومرصعة بأحجار ثمينة جدًّا ومن صنع تركي. أما المداخن فمغطاة برخام أزرق وأحمر ومزينة بتصاميم وأشكال مختلفة. أمام إحدى هذه المداخن جلد دب أهداه القيصر الروسي نيقولا الثاني إلى السلطان عبد المجيد، ويقال أن لجلد الدب ميزة خاصة حيث يتأثر بالسم من مسافة مئات الأمتار مثل الرخام الصيني فيفشي سر السم في وجبات الطعام، وإلى جوار صالة السفراء صالات أخرى خاصة بالمترجمين وقاعات انتظار.

وفي الحقيقة إن أبهة وعظمة صالة السفراء بذهبها في السقوف والجدران والموجودات وبأناقتها الفنية كانت عملاً مقصودًا من قبل السلطان العثماني للتأثير على السفراء الأجانب وإعطائهم الانطباع الفوري والمذهل حول عظمة وجبروت الإمبراطورية العثمانية فيزرع في قلوبهم الرعب والاحترام قبل البدء باجتماعه معهم.

من غرف القصر الأخرى غرفة نوم السلطان عبد العزيز وهنا يوجد سرير ضخم طوله 220 سم إذ إن السلطان كان بطول 205 سم ويزن 160 كلغ، وغرفة نوم السلطان رشاد بسرير من الفضة يحمل أعلاه شعار الملك، وغرفة مطالعة ونوم أتاتورك مع بعض أغراضه مثل فنجان قهوة وقارورة فارغة للعطر وعلبة شفافة للدخان ولوحة لمدينة بروسه، وكل غرف النوم كانت في الطابق الثاني ماعدا غرفة نوم السلطان عبد المجيد فإنها في الطابق الأول، وهي غرفة كل ما فيها ثمين ومزين ومحفور، وكان هذا السلطان يضع في الغرفة علب ماء ساخن لاعتقاده أنها تطرد الحشرات، وقد عاش السلطان عبد المجيد في هذه الغرفة خمس سنوات فقط حيث توفي عام 1861م.

أما أجمل وأروع أقسام القصر بلا شك فهي قاعة العرش والاستقبال ففي هذه القاعة كانت تعقد الاجتماعات الهامة للسلطان وتجري الاحتفالات الرسمية تقوم القاعة على 56 عمودًا من الخام الاصطناعي وارتفاعها 36 متراً القبة مزينة بنقوش فائقة الجمال أشبه بنقوش فرساي وهي نموذج رائع للفن الباروكي, تنير القاعة 750 لمبة وتتسع لأربعة آلاف وتنفتح على مضيق البوسفور بباب كبير حيث كان السلطان يقف لاستقبال الضيوف وعند قاعدة القبة نوافذ تطل على البحر ومغطاة بالشعريات. لذا كانت النساء تستطيع مشاهدة الاحتفالات دون أن تُرى إلى جانب ذلك يوجد في أعلى القاعة وتحت جوانب القبة أربعة شرفات داخلية للزوار الأجانب.

في قاعة العرض هذه ثريا ضخمة لا نظير لها في العالم وتزن أربعة أطنان ونصف الطن مهداة من ملك روسيا نيقولا أما الأرض فتغطيها سجادة بمساحة 124م مصنوعة في بلدة هركة التركية المركز الشهير لصنع السجاد الفني.

تعلو جدران القصر بمختلف أجنحته لوحات رائعة لفنانين عالميين، ولا سيما في الصالون الوردي، والذي سمي كذلك لألوانه الوردية وهو جزء فائق الجمال من القصر له شرفة تطل على البوسفور وفيه باب على هيئة خزانة أمامه مزهرية خضراء ويؤدي الباب إلى الحمام وقد صنع بهذا الشكل حتى لا يفسد الانسجام والتناسق الفني للقاعة كما فيه طغراء بالحرف العربي فيهل زهور اصطناعية من البرونز المطلي بالذهب كما في القاعة الوردية شمعدانات وثريات زجاجية تزيدها رونقاً وبهاء.

وأما اللوحات فنذكر لوحة عن الحرب العثمانية – اليونانية عام 1879م, بريشة الفنان العالمي ورسام البلاط زونارو، وتصف الجنود العثمانيين وهم يهزمون اليونانيين، ولوحة تمثل (جول) وهي إحدى السريات وتحمل في يدها إناء فخم مشتعل لتضعه على رأس النرجيلة ولوحة (قرا فاطمة) إحدى المحاربات التركيات ضد الإنكليز في الحرب العالمية الأولى، ولوحة تمثل فرس السلطان عبد المجيد، ولوحة تمثل دخول السلطان محمد الفاتح إلى استانبول بعد فتح المدينة، ويبدو السلطان فيها على حصان أبيض يرافقه أستاذه الشهير آغا شمس الدين ذو اللحية وذلك تحت رواق مقنطر لأحد أسوار المدينة، ولوحة جميلة جدًّا للسلطان محمد الفاتح يركب حصانًا أبيضًا كذلك مع أستاذه آغا شمس الدين ويراقب جر السفن إلى الجبال بمساعدة الأخشاب المغطاة بالدهن، وبهذه الطريقة استطاعت سفن الجيش العثماني أن تعبر بحر مرمرة عن طريق البحر أثناء محاصرة وفتح استانبول.

الزائر لقصر الدولما باهجة لا يمل التطوف في جو أخاذ من الدهشة والعظمة والأبهة إذ يخرج من كنفه فكأنه يغادر عالمًا من الأساطير التي لم تكن أيام عظمة العثمانيين المسلمين سوى واقعًا ملموسًا.


عدد القراء: 6974

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-