إميل نولده: رائد الحركة التعبيرية والانطباعيةالباب: فنون

نشر بتاريخ: 2023-09-29 23:03:40

فكر - المحرر الثقافي

إميل نولده (1867-1956) كان رسامًا ألمانيًا بارزًا في حركة التعبيرية الفنية وفن الانطباعية مما أثر في جيل من الفنانين اللاحقين.

وهو ابن عائلة تعمل في الزراعة. دفعته الحاجة في بداية حياته إلى العمل في الحفر على الخشب في إحدى ورش نجارة المفروشات، ثم مصممًا للبطاقات البريديّة التي كان يضمنها صورًا لجبال الألب السويسريّة. وما فاض عن حاجته من المال الذي اكتسبه من اشتغاله في الفنون التطبيقيّة والحرفيّة مكَّنه من دراسة الفن في مدينة مونيخ ثم في باريس عام 1899.

تتميز أعمال نولده بالألوان الجريئة واللوحات القوية، وبالشغف العاطفي الذي يعبّر عن مشاعره وتجاربه الداخلية. غالبًا ما رسم مشاهد من الحياة الريفية والمناظر الطبيعية واللوحات البورتريه.

اشتهر بأعماله الفنية التي تعبر عن مشاعره الداخلية وتنتقد المجتمع الذي يحيط به. استخدم نولد ألوانًا زاهية والتكوينات الديناميكية وخطوطًا متحركة لإضفاء حيوية وحركة على لوحاته. بعض أشهر أعماله هي "الجسر" و"الرقص" و"الحصاد" ولوحة "العشاء الأخير" و"عيد الخمسين والعنصرة" المنفذتان عام 1909، غير أن الأعمال التي جعلت من تجربة نولده أحد المرتكزات الأساسية في حركة التعبيريين الألمان فهي تلك التي عالج فيها موضوعات ذاتيّة، تتعلق بقناعاته ومواقفه وأفكاره تجاه الحياة المعاصرة، بتلاوينها الاجتماعية والسياسية والدينية، وبأسلوبٍ رمزي اختزل خصوصيته، وأظهر خبرته وموهبته.

يُصنَّف نولده واحدًا من أبرز التعبيريين الألمان. على الرغم من انضمامه المبكر إلى حزب النازية خلال الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات حاربه النازيون، ووصفوا فنه بالمنحط، بسبب عدم تطابقه مع أفكارهم وأبعدوا أعماله من المتاحف، ومنعوه من الرسم، لكنه غافلهم وأنتج سرًا مجموعة من اللوحات المائية أطلق عليها تعبير (اللوحات غير المرسومة)، وهذه الأعمال لم تُعرف إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وأفول نجم النازيين.

بعد الحرب العالمية الثانية، تم تحسين سمعة نولده إلى حد ما، وظل يستمر في إنتاج أعمال فنية حتى وفاته في عام 1956. تبقى إرثه معقدًا بسبب انتمائه المتناقض والجدل الذي يحيط بمعتقداته الشخصية والسياسية.

ولد نولده عام 1867 في مدينة سيبول الواقعة في شمال ألمانيا وبدأ حياته متدرباً على نحت الخشب، فخلال النهار قضى وقته وهو يتعلم فن النحت، وفي الليل يتلقى دروسًا في الفن. وكان إميل نولده يتطلع منذ نعومة أظافره إلى ابتكار نوع جديد وفريد من فن الرسم التعبيري يحافظ فيه على الأصالة الألمانية. وهو ما ساهم في إنتاجه الغزير حيث ترك بعد وفاته العديد من اللوحات التي تثير فضول الملايين من عشاق الفن في شتى أنحاء المعمورة. وبالرغم من صعوبة الوصول إلى منزل إميل نولده، إلا أن الكثير من السياح يأتون من جميع أنحاء العالم، ليروا هذا المنزل الذي عاش فيه أهم رسام تعبيري ألماني، والذي تحول فيما بعد إلى متحف يضم أهم أعماله.

رسم لوحاته الأولى عندما كان في الثلاثين من عمره. وكانت عبارة عن مجسمات ساخرة، يظهر فيها تضارب الألوان الصارخة. وعلاوة على ذلك فهو أول من ابتكر هذا الأسلوب الذي ألهم فيما بعد حركة الجسر الفنية The Bridge -وهي حركة فنية نشأت في بدايات القرن العشرين تسعى إلى كسر التقاليد الفنية التقليدية واستكشاف أشكال فنية جديدة-التي سارت فيما بعد على منواله، ثم قامت بدعوته للانضمام إليها عام 1906، لكنه بقي عضوا فيها لمدة عام واحد فقط. ومن المعروف عن نولده تفضيله العيش بانفراد في برلين، خاصة في فصل الشتاء وبالاستمتاع بالصيف وبحره.

تميز نولده بإحساسه الفريد من نوعه عند استخدامه للألوان. فتراه تارة يرسم مناظر مختلفة من المدن ويبرزها باللون الأزرق المشع، وتارة أخرى يرسم الحدائق ويملؤها بالورود بمختلف ألوانها، الأحمر والوردي والأصفر، لذلك تتميز لوحاته بالتجرد من كل شيء. كما أن هاجسه الأكبر لم يكمن في رغبيه في إظهار الحقيقة كما هي، بل بطبيعتها الداخلية والمشاعر التي تثيرها. وازداد استخدامه لهذا الأسلوب بكثرة بعد عودته برفقة زوجته الممثلة الدنماركية آدا فيلسترب من رحلة استكشافية إلى البحيرات الجنوبية عام 1913. وعاد الزوجان الى سيبول عام 1927 الى مزرعتهما الواقعة في ولاية شليسفيش هولشتاين، التي تبعد بضع دقائق عن الحدود الدنماركية.

تأثر في البداية بالانطباعيّة، ثم اتجه نحو التعبيرية ليكون فيما بعد أحد أهم رموزها في ألمانيا. أُعجبت جماعة الجسر Die Brücke التي تأسست في مدينة درسدن الألمانية وتشتغل على الاتجاه التعبيري بأعمال نولده؛ ما دفعها لدعوته إلى الانضمام إليها، لكن نولده المسكون بالكآبة العميقة، والوحدة المكربة، والانعزاليّة الشديدة سرعان ما انفض عن هذا التجمع الفني المحدود العدد، وعن التجمع الألماني التعبيري الآخر الفارس الأزرق الذي تعرَّفه واحتك بأفراده، ثم ما لبث أن انفض عنه عائداً إلى هواجسه الشخصية.

يعكس انشغال نولد الشديد بالألوان والزهور، وخاصة عباد الشمس، تفانيه المستمر لفان جوخ.  كان على دراية بفان جوخ في وقت مبكر من عام 1899، وخلال العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، زار العديد من المعارض لأعمال الفنان الهولندي.  كانوا يشتركون في حب عميق للطبيعة. وجد تفاني نولد في التعبير والاستخدام الرمزي للون امتلاء في موضوع عباد الشمس، وأصبح رمزا شخصيا له، كما فعل مع فان جوخ.

وعلى الرغم من حبه للتأمل المتماهي بنزعة دينية غامضة، وقيامه ببعض الأعمال الفنية المستوحاة من الكتاب المقدس وحياة القديسين، لم تمكث أعماله هذه طويلاً في الكنائس والأديرة، ومن بينها سلسلة الأعمال المستلهمة من أسطورة القديسة ماريا آجبتيكا Maria Aegyptica المنفذة عام 1912، والتي تتسم شخوصها بالفجاجة والخشونة وإخفاء وجوهها بالأقنعة الشيطانية، وهي بمجموعها أعمال متنافرة الألوان، متواضعة القيمة الفنية.

تأثر إميل نولده بالفنانين: تتسيانو ورمبرانت Rembrandt وإدوار مانيه غير أن ظنه خاب بدراسة الفن في المؤسسات الرسمية، فانتقل مطلع القرن العشرين إلى كوبنهاغن ثم إلى برلين عام 1902 وفيها تزوج ليخرج قليلاً من عزلته وكآبته، وليشعر بشيء من الاستقرار، وبدَّل نولده باسمه الأصلي إميل هنسن. هذه الحالة من الاستقرار والطمأنينة والسكينة التي دخلت حياته لم تستمر طويلاً، إذ إن رحلته إلى الشرق وعودته إلى أوروبا عام 1914 أعادته إلى عزلته، دافعة إياه إلى الانكفاء والتأمل في أحد المنتجعات على شاطئ بحر البلطيق.

توفرت له بين عامي 1913- 1914 فرصة ثمينة للاتصال بالشرق، إذ كان عضواً في بعثة لدراسة الأصول البشرية والفنون البدائية، ما جعله يتأثر بقوة إيمان الشعوب الشرقية البسيط والعفوي، وقد جعلته هذه التأثيرات التي حملها من رحلته يتغير حياتيًا وفنيًا، فعاودته حياة الكآبة والانعزال، وأخذت موضوعات (موتيفات) بدائية شرقية تظهر في أعماله الفنية كما في لوحته «مساكن جزيرة البحر الجنوبي» المنفذة عام 1914، وفي عدد من محفوراته المنفذة والمطبوعة بوساطة الحجر ليتوغراف Lithogragh ومنها عمله «راقص» المنفذ عام 1913.

وبالمقابل، فإن شخصيته الغامضة، المنعزلة، والكئيبة تبدت في غالبية أعماله ومنها لوحته «منظر طبيعي في آذار» المنفذة عام 1914 وفيها يبدو الأفق منخفضاً، تسيطر عليه الغيوم الداكنة، ما يخلق إحساسًا مهيبًا بالكآبة والانعزال. أما أعمال نولده المنفذة بعد عام 1916 والمخصصة لموضوع المنظر الطبيعي فقد جاءت أكثر هدوءًا وانسجامًا وفرحًا من أعماله الأولى، غير أن براعته في معالجة الألوان المتوافقة والمعبرة لم تظهر إلا في أعماله الأولى، ولا سيما تلك التي عالج فيها موضوع الزهور بألوانٍ قوية مترعة بالحياة.

توجد أعمال نولده في العديد من المتاحف الفنية والمجموعات الكبرى حول العالم، ويتم التعرف على مساهماته في حركة التعبيرية وتطور الفن الحديث بشكل واسع.


عدد القراء: 2178

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-