أوغوست رودان العبقرية الإنسانيةالباب: فنون

نشر بتاريخ: 2021-05-29 05:26:10

فكر - المحرر الثقافي

أوغوست فرانسوا رودان Auguste  François Rodin نحات ورسام ومصور مائي فرنسي ومن المعاصرين للفنانين الانطباعيين، ولد في باريس وتوفي في مودون Meudon.

بدأ رودان يتعلم الرسم والحساب في مدرسة بالحي اللاتيني بباريس وهو في الرابعة عشرة من عمره، وكان ميالاً بفطرته إلى المجسمات. وقضى بالمدرسة ثلاث سنوات، وكان يتردد في أوقات الفراغ على متحف اللوفر لينقل عن التماثيل القديمة ويدرس الرسوم في المكتبة الإمبراطورية، ويدرب مخيلته بالرسم من الذاكرة.

التحق رودان بمرسم المثّال انطوان لويس باري Antoine-Louis  Barye المتخصص في تماثيل الحيوان، ثم حاول ثلاث مرات متتالية اجتياز امتحان مدرسة الفنون الجميلة فأخفق، فدفعه فشله في الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة إلى العمل مساعدًا لمزخرف، ثم انتقل إلى محترف كارييه بلوز Carrier Belleuse المتخصص في زخرفة واجهات القصور بالتماثيل الحجرية أو الجصية، ثم غادر باريس ورحل إلى إيطاليا لدراسة أعمال كبار النحاتين، وعاد ليرحل ثانية إلى بلدان شمال فرنسة لدراسة الكاتدرائيات القوطية الطراز.

ومن المعروف أنه قام بزخارف واجهة مسرح «غوبلان» Théatre des Gobelins ويمثل معظمها آلهة الجمال تسبح في الفضاء بأسلوب عادي جرياً على طراز فن الباروك والفن الأكاديمي في عصر نابليون.

سافر رودان إلى بروكسل مع بلّوز ليعاونه في زخرفة دار البورصة، ومالبثت الحرب البروسية الفرنسية أن اندلعت، مما اضطره للبقاء في بروكسل لتوقف النشاط الفني في باريس، عاد إلى باريس بعد انتهاء الحرب مفلسًا، مما اضطره للتعاون مع «فان راسبرغ» Van Rosbourg، ولكنه سرعان ما أدرك خسارته في هذا الاتفاق، فانفصل عنه ليتفق مع مصنع سباكة التماثيل البرونزية.

راح رودان يزور المتاحف في أنفرس وبروكسل، وكان لفن رامبرانت  Rembrandtتأثير كبير فيه، عندما شاهد على لوحاته الضوء كبريق الذهب يسطع في الظلام الحالك فيحيل الأشخاص المصورة إلى تماثيل تكاد تنبض بالحيوية.

وفي عام 1875 عاد رودان إلى باريس مزودًا بالرغبة في زيارة إيطاليا ورؤية متاحفها، وفي فلورنسا وروما التقى وجهًا لوجه مع أعمال دوناتلو وميكلانجو وأعجب بها، ولكنه لم يجد ما يكشف عن أسرار عظمة ميكلانجو إلا فيما لم يكتمل من تماثيله.

اتخذ رودان مرسمًا على قمة «مونمارتر» وبدأ يستعيد ما شاهده من تماثيل وما أحس به من عظمة ونشاط وقوة الأجسام وروعة النحت في المرمر مباشرة مثلما كان يفعل المصريون القدماء والإغريق. وبدأ بإنجاز تمثال «رجل من العصر البرونزي» الذي عرضه في عام 1877.

لم يصدق الجمهور أن هذه المعجزة خرجت من يد مثّال مجهول، واعتقد الكثيرون بأن المثّال صب قالب التمثال على الجسم الحي، ولكن رودان أسكت أقاويلهم عندما أنجز تمثالاً من الحجم الطبيعي بالروح نفسها ومع الكثير من التحضير والتدقيق، ولكن الجمهور استقبل التمثال ببرود في صالون عام 1880، وذلك لأنه لم ير تمثالاً على واجهة الأبنية يندفع إلى الأمام، ثم ما لبث الجمهور أن وجد فيه معجزة في النحت الحديث. لم يلق رودان من الجمهور ما يستحق من تكريم، ولكن جماعة من ذوي العقول المستنيرة استشفت ما في أعماله من قيمة، وقدرت طريقته الرهيفة في التقاط تعابير الجسد وارتعاشاته، ورأت فيه مجددًا في معالجة السطوح وخشونة الملمس، فهو كالانطباعيين الذين فتتوا عناصر المنظر الطبيعي إلى بقع لونية صغيرة، فحطم بدوره الكتلة النحتية من خلال تنوع الملمس بتأثيرات البقع الضوئية والظلال التي أثْرت عمله باللون والحركة في ثنائية لم يتمكن أحد ممن سبقوه بلوغها.

استمد رودان موضوعه من جحيم دانتي، ليكون رمزًا لانفعالات الإنسانية وآلامها، عبر أجساد عارية مكونة من مئتي شكل إنساني كانت مصدرًا لبعض أشهر منحوتاته: تمثال «المفكر» le penseur الذائع الصيت (1880، متحف رودان، باريس)، وتمثال «القبلة» الذي عرضه في لندن وأثار فضيحة كبرى (1888، متحف رودان)، وتمثال أوغولان وآدم وحواء.

وفي عام 1893 دعي رودان لعرض أعماله في شيكاغو ولكنه لاقى من الفشل مالقيه في لندن من قبل. وبعد أربع سنوات واجهته عاصفة من الاستنكار في السويد على إثر اشتراكه في المعرض الدولي في ستوكهولم. ولم يلبث حتى واجه موجة أخرى من السخط والاستهجان على أثر ظهور تمثال بلزاك Balzac، وكادت عزيمة الفنان تنهار أمام النقد السام والسخرية اللاذعة بتمثال بذل فيه كل الجهود وأضفى عليه نور عبقريته. وقد قال النحات الشهير أنطوان بورديل في هذا النُصب: «في هذه الكتلة تسمع فوران العبقرية الإنسانية» إن هذا العمل يمثل مرحلة جديدة في بحثه الإبداعي، فمن خلاله يلاحظ الانتقال من معالجة السطوح بالطريقة الملساء إلى الخشونة بحيث تبدو للملاحظ بأنها غير منتهية.

هذه التأثيرات أعطت نتائج تصويرية ناجحة بحيث لونت سطح المنحوتة عن طريق التناغم ما بين الأنوار والظلال. 

نفّذ رودان أعمالاً نصبية من أبرزها مجموعة «برجوازيو كاليه» الشهيرة، العمل النحتي الذي نفذه بين عامي 1885 و1888 وتم تدشينه في كاليه 1895. وهذا العمل يلقي الضوء على مرحلة تاريخية تعود إلى منتصف القرن الرابع عشر، عندما قرر الملك الإنجليزي إدوارد الثالث احتلال مدينة كاليه Calais الفرنسية على قنال المانش. استرجع رودان الأنباء القديمة المتعلقة بهذا الموضوع فعرض أبطال القصة مجموعة من الوطنيين الذين وهبوا أنفسهم فداء لمدينتهم، فتقدموا رهائن إلى معسكر العدو حفاة ذليلين، يرتدون الثياب الرثة، وقد اختلفت جبلّة وسيماء كل منهم مع أن مصيرًا واحدًا يجمعهم: هيئة الرجل المسن الهادئة تعكس صورة الإنسان الذي أغلقت في وجهه السبل بحيث أبصر نهاية المصير بوضوح. والثاني الحليق يحمل بيده المفتاح كرمز لتسليم المدينة، متحفزًا دونما اكتراث، لاستقبال الموت، والثالث يرغب في السؤال إلى أي هاوية يقود كل هذا؟ أما الأخير وقد عصر رأسه بقبضتي يديه وكأنه تقدم خطوة في عتبة البكاء المطلق. بهذه الصورة استعرض رودان منهجيته في التعبير. لم يكن مشدودًا في جميع الأحوال لنزعة التصنع البطولي، ولم يشأ تقديم شخوصه إلا مُجَسِدة المفهومات الراسخة، إذ وضع نفسه أمام خيارين إما أن تكون شخوصه على مشارف السقوط في الهاوية أو مشحونة بالأفكار والأحاسيس، لهذا نراها تمتلك تسميات متفردة: الحب، والحياء، والألم، والإلهام، والقنوط. كما يلاحظ المتقصي أنه مشدود بتأثيرات الأدباء الرومنسيين أمثال فكتور هوغو.

وفي مقالة نشرت عام 1909 تحت عنوان «رودان والنحت» للنحات أنطوان بورديل سمى فيها رودان «شاعر الجسد الإنساني». إن عملية المزج بين الأدبي، والرمزي والفلسفي، والنفساني، والطبيعي، أوصلت أعمال رودان إلى تخطي جميع معطيات النحاتين السابقين. فأعماله من خلال الايحاءات والأصالة التي تتميز بها تفتن المشاهد وتشحنه بالعواطف.

أحب رودان الخامة التي كان يصنع منها أمجاده الفنية، وعرف كيف يصوغ منها تماثيل تتلألأ كالجواهر تحت تأثير الضوء الساطع، وأدرك المغزى الكامن وراء حركة كل عضو من أعضاء الجسم، ثم جعل آخر الأمر من التمثال كتلة ووحدة متماسكة من المرمر أو البرونز تنطق بعواطفه ومشاعره الإنسانية، واستغل هاتين المادتين في الوصول بالتمثال إلى مرتبة الخلود، وأكسب سطح المرمر الأملس أنفاقاً من الضوء الفضي تختلف عن الضوء المتوهج كألسنة اللهب على سطح تمثال آخر خشن الملمس أو مصنوع من البرونز. وفي الوقت نفسه فإن رودان باتجاهه الانطباعي هذا يظل مصدر إلهام للأجيال القادمة ودافعًا قويًا للبحث عن إبداعات جديدة.

 

المصدر:

الأحمد، أحمد، الموسوعة العربية، المجلد: العاشر، ص 44.


عدد القراء: 4724

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-