أنطون تشيخوف رائد القصة الروسيةالباب: وجوه

نشر بتاريخ: 2023-01-30 10:14:44

فكر - المحرر الثقافي

أنطون بافلوفتش تشيخوف Anton Chekhov كاتب روسي برع في كتابة القصة والمسرحية. ينظر إليه على أنه من أفضل كتّاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي عدّها الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير كبير على دراما القرن العشرين.

تعكس أعماله الأحوال الراكدة والميئوس منها للمجتمع الروسي، وبخاصة الطبقات الوسطى في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. ومعظم شخصياته أناس وقورون وحساسون، يحلمون بأن يحسِّنوا حياتهم، ولكن معظمهم يفشل في ذلك، وهم ضحايا لشعورهم الشخصي بالعجز وعدم الأهمية. ويرى بعض الدارسين أنه ربما كان تشيخوف ينتقد التخلف الذي لمسه في الحياة الاجتماعية والسياسية في روسيا تحت حكم القياصرة. إلا أن تشيخوف لم يصرِّح أبدًا بهذا الاتجاه.

الحياة المبكرة

ولد في مدينة تاغانروغ Taganrog على بحر آزوف Azov. كان جده لأبيه قنّاً افتدى نفسه وأسرته بالمال. وكان أبوه بقّالاً، اضطر في عام 1876 إلى الهرب من تاغانروغ إلى موسكو تخلصًا من ملاحقة دائنيه، وتبعته أسرته إلّا ابنه أنطون الذي بقي في بلدته لمتابعة دراسته. وفي عام 1879 أنهى تشيخوف دراسته الثانوية بتفوق، والتحق في العام نفسه بكلية الطب في جامعة موسكو.

في عام 1884 أنهى دراسته الجامعية، ومارس مهنة الطب بعض الوقت، ولكنه سرعان ما وقف معظم وقته وجهده على العمل الأدبي. في عام 1884 صدرت أولى مجموعات أقاصيصه «حكايا ميلبومينا» Skaski Melpomini، ثم «أقاصيص مبرقشة» 1886 Pyostriye rasskazi، ثمّ «في الغسق» Sumirki التي تقاسم عنها جائزة بوشكين مع كاتب آخر، و«أقوال بريئة» 1887 Nevinniye rechi، ثم «أقاصيص» 1888 Rasskazi، و«العابسون» 1890 Khmouriye l’udi. وفي عام 1890 قام تشيخوف برحلة استطلاعية إلى جزيرة سخالين، ونشر انطباعاته وأفكاره عنها في عامي 1893-1894.

النضج الأدبي

يمكن رسم التقدم الأدبي لتشيخوف خلال أوائل العشرينيات من عمره من خلال الظهور الأول لعمله في سلسلة من المنشورات في العاصمة سانت بطرسبرغ.

في العام 1888 بدأ تشيخوف حياته المهنية في الكتابة كمؤلف لحكايات للمجلات الساخرة، وبدأ بنشر بعض الأقاصيص والطُرف والتعليقات الساخرة في الصحف الفكاهية بأسماء مستعارة أشهرها «أنتوشا تشيخونته»، وأصبح يتمتع بشعبية كبيرة لدى الجمهور، وكان قد أنتج بالفعل مجموعة من الأعمال أكثر ضخامة من جميع كتاباته اللاحقة مجتمعة. وأثناء ذلك، قام بتحويل الرسم الهزلي القصير المؤلف من حوالي 1000 كلمة إلى شكل فني بسيط. لقد جرب أيضًا الكتابة الجادة، حيث قدم دراسات عن البؤس البشري واليأس بشكل غريب في الاختلاف مع السهولة لعمله الهزلي، وصار في تلك الحقبة المعيل الوحيد لوالدته وإخوته الصغار.

على الرغم من أن عام 1888 شهد لأول مرة تركيز تشيخوف بشكل حصري تقريبًا على القصص القصيرة التي كانت جادة في التصور، إلا أن الفكاهة - الكامنة - ظلت دائمًا عنصرًا مهمًا. كان هناك أيضاً تركيز على الجودة على حساب الكمية، حيث انخفضت عدد المنشورات فجأة من أكثر من مائة قصة سنويًا في سنوات الذروة 1886 و1887 إلى 10 قصص قصيرة فقط في عام 1888.

فترة مليخوفو: 1892-1898

المساعدة، كطبيب ومسؤول طبي على حد سواء، للتخفيف من المجاعة الكارثية في روسيا بين عامي 1891-1892، ففي عام 1892 اشترى مزرعة ميلوخوفو Melekhovo في ريف موسكو على بعد حوالي 50 ميلاً (80 كم) جنوب موسكو، وانتقل إلى هناك للسكنى الدائمة مع أبيه وأمه وأخته التي استمرت لنحو ست سنوات، حيث كان يوفر منزلاً لوالديه المسنين، وكذلك لأخته ماريا، التي كانت تعمل مدبرة منزل له وبقيت غير متزوجة من أجل رعاية شقيقها. ولكنه لم ينفك يزور موسكو وبطرسبرغ ولم يمتنع عن السفر إلى القفقاس والقرم ومناطق أخرى من روسيا، كما قام منذ عام 1891 بعدة رحلات إلى الخارج، فزار النمسا وإيطاليا وفرنسا.

وفي عام 1894 أصدر مجموعة بعنوان «قصص وأقاصيص» Povesti i rasskazi. ومارس في تلك الحقبة أنشطة اجتماعية متعددة: كمكافحة الجائحات الوبائية، والمجاعات، وبناء المدارس العامة، وتنظيم التعليم الشعبي.

كان تشيخوف يعمل بجد كطبيب لمساعدة الناس على نطاق واسع ضد وباء الكوليرا. كان منزله دائمًا مليئًا بالزوار ويرحب بالمرضى بينما واصل تشيخوف نفسه التقليل من شأن مرضه. نظرًا لظهوره المتواصل وحبه للحياة، كان لديه العديد من المشاريع الخيرية لرعايتها بينما استمر في كتابة المسرحيات، وكان العديد منها تؤدي في مسرح الفن في موسكو في 25 مايو 1901.

في بعض قصصه عن فترة ميليخوفو، هاجم تشيخوف ضمنيًا تعاليم ليو تولستوي، الروائي والمفكر المعروف، وكبير معاصري تشيخوف. كان تشيخوف نفسه (في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر) تلميذًا مؤقتًا لحياة تولستوي البسيطة وأيضًا عدم مقاومة الشر كما دعا إليها تولستوي، فقد رفض الآن هذه العقائد. وقد أوضح وجهة نظره الجديدة في قصة رائعة بشكل خاص: «المهجع رقم 6» Palata N6 هنا يظهر طبيب مسن نفسه غير مقاوم للشر من خلال الامتناع عن معالجة الظروف المروعة في الجناح العقلي الذي يتحمل مسؤوليته - فقط ليتم سجنه كمريض من خلال مؤامرات المرؤوس.

وبعد موت أبيه في أكتوبر عام 1898، واشتداد مرض السل عليه الذي كانت بوادره الأولى قد ظهرت لديه في الثمانينات قرر الانتقال إلى شبه جزيرة القرم، فباع مزرعة ميلوخوفو عام 1899 وانتقل إلى يالطة Yalta حيث ابتنى دارة، وأقام فيها مع أمه وأخته. وفي العام نفسه صدر المجلد الأول من مجموعة أعماله. وفي عام 1900 انتُخب عضوًا فخريًا في أكاديمية العلوم ـ قسم الآداب، ولكنه تخلّى عن هذا اللقب في عام 1902 احتجاجًا على إلغاء القيصر انتخاب مكسيم غوركي عضوًا فخريًا في الأكاديمية. وفي أيار 1901 تزوج تشيخوف الممثلة المسرحية أولغا كنيبر Olga Knipper. وعندما ساءت حالته الصحية في حزيران 1904 سافر وإياها إلى مصح بادن فايلر Badenveiler في ألمانيا حيث توفي، ونقل جثمانه إلى روسيا ودفن في موسكو.

بدأ تشيخوف نشاطه الأدبي كاتب «منمنمات» فكاهية، وارتقت موهبته الفذة بهذا الصنف الأدبي شكلاً ومضمونًا حتى أوصلته إلى قمة الإبداع الفني، كما في أقاصيص «موت موظف» 1883 Smert’ chenovnika، و«الحرباء» 1884 Khamelyon، و«وحشة» 1886 Toska. وكتب تشيخوف في غضون السنوات الخمس الأولى من نشاطه الإبداعي نحو (400) أقصوصة ومُلحة وأُسخورة (خاطرة نقدية ساخرة) صوّر فيها شخصيات تنتمي إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وسلّط الضوء على طباع أبطاله، فاضحاً صغار النفس، وضيق الأفق، وبلادة الحس والذهن، وساخرًا من التفاهة والنفاق والجبن والقسوة، وكل ما يحرف الإنسان عن إنسانيته ويشوّه حياة المجتمع. ومنذ النصف الثاني من ثمانينات القرن التاسع عشر شرع تشيخوف بتناول موضوعات وظواهر اجتماعية تتسم بالعمق والأهمية والشمول في أقاصيص مثل «الأعداء» Vragi و«الشحاذ» Nishii، و«القبلة» Potsilui. وكتب قصصاً طويلة ذات طابع وجداني نفسي ومحتوى اجتماعي ـ فلسفي كانت مرحلة انعطاف في مسيرته الإبداعية ومنها: «السهب» Step، و«الأضواء» Ogonki، و«حكاية مملة» Skushnaya istoriya.

وفي التسعينيات ذاعت شهرة تشيخوف في أوروبا بأسرها، وأبدع قلمه روائع مشهورة منها: «المهجع رقم 6» Palata N6، و«قصة رجل مجهول» Istoriya neizvesnovo cheloveka، و«الراهب الأسود» Chornij monakh، و«ثلاث سنوات» Tri goda، و«المنزل ذو العلية» Dom S mizaninom، و«حياتي» Moyya jizn، وثلاثية «الرجل المعلَّب» Chelovek v futlare، و«الكشمش الشائك» Krijovnik، و«عن الحب» O lubvi، و«إيونيتش» Ionich، و«السيدة صاحبة الكلب» Dama s sobach koi. وفي هذه الأعمال يتفاعل تشيخوف فنيًا مع أهم المسائل الملحة في عصره. وتتضمن قصصه الجديدة صورًا فنية مكتملة تنطوي على تحليل عميق للواقع، ويثير بعضها في القارئ، على نحو غير مباشر، مشاعر الرفض للحكم القيصري المستبد، ولواقع التفاهة والجشع واللهاث وراء المصالح المادية الدنيئة. وتبرز في هذه الأعمال موهبة الكاتب وحسه المرهف في تصوير شخصيات نموذجية حية تختزل بفنية عالية الطبائع الاجتماعية السائدة. فبعض أبطاله يستكينون لشروط الحياة الرمادية المتكلسة، ويقتصر كل طموحهم على تحقيق رغباتهم التافهة، في حين تطرأ على حياة أبطال آخرين أحداث معينة مادية أو معنوية تدفعهم إلى التفكير في معنى وجودهم ودورهم في الحياة، وينتهون إلى الاقتناع بضرورة الانعتاق من إسار العادة التي تخدر ضمائرهم ومشاعرهم، ومحاولة تغيير نمط حياتهم على نحو يمكنهم من تحقيق إنسانيتهم. ويلاحظ هنا ميل تشيخوف إلى الاقتناع بعدم جدوى أفكار تولستوي المتمثلة في الإحجام عن مقاومة الشر بالقوة، وفي التنافر بين الحب الجسدي والمبادئ الدينية المثالية، وتتكرر على لسان أبطاله عبارات التفاؤل بالمستقبل والإيمان بحتمية التقدم نحو حياة أفضل.

وإلى جانب القصص التي تصوّر نماذج المثقفين ودورهم في المجتمع كتب تشيخوف قصصًا تصور حياة الفلاحين بتناقضاتها وتعقيداتها وسماتها: الجهل والقسوة والبلادة التي أوجدتها الأحوال الاجتماعية السائدة، والطيبة الفطرية المكبوتة وبذور المشاعر الإنسانية الرقيقة التي لا تجد التربة المناسبة لنموها وازدهارها: «الفلاحون» 1897 Mujiki، و«الدارة الجديدة» 1899 Novaya dacha و«في الوهدة» 1900 Vovragi. ويبرز إيمان تشيخوف وتفاؤلـه واضحًا في أعماله الأخيرة، كما في قصة «العروس» 1903 Nevesta وهي آخر قصة كتبها، وفيها لا تكتفي البطلة بأن تحلم بالمستقبل المشرق والحياة السعيدة الآتية، بل تُقْدِم بشجاعة على التخلي عن حياة الدعة والطمأنينة التي يلفها الخمول، وتسير في الطريق التي تعتقد أنها تقربها من تحقيق المثل الأعلى الذي تؤمن به.

ميراث

يتسم أسلوب تشيخوف بالإيجاز والتكثيف والرشاقة، ويعدّ من أجمل أساليب الكتابة في اللغة الروسية. وقد تخلّى الكاتب في مرحلة النضج عن اللجوء إلى التوتر الخارجي والإثارة الحادّة في الحدث، وصار يعتمد على دينامية الحبكة الداخلية التي توحي للقارئ بأن ثمة نصاً آخر يختفي خلف النص المكتوب، وعليه هو أن ينفذ إليه ويقرأ ما بين السطور.

وكما كان تشيخوف رائدًا ومجددًا في فن كتابة القصة، كان ذلك في كتابة المسرحية، ومن أشهر المسرحيات التي كتبها: «إيفانوف» (1887 و1889) كما كتب هزليات من فصل واحد منها: «الدب» Medved'، و«الخطوبة» 1888 Predlojeniye و«العرس» 1889 Svad’ba. ولكن موهبته الدرامية تجلت بأبهى صورها في مسرحياته الأربع الأخيرة: «النورس» 1896 Chaika، و«الخال فانيا» 1897 Dyadya Van’ya و«الشقيقات الثلاث» 1901 Tri sestri، و«بستان الكرز» 1904 Vechnyovisad. وقد لاقت هذه المسرحيات نجاحًا باهرًا عند عرضها في مسرح موسكو للفنون ثم انتشرت على نطاق واسع في مسارح روسيا والعالم. والمزايا الرئيسة التي تتسم بها هذه المسرحيات هي التخلي عن تقسيم الشخصيات إلى «أخيار» و«أشرار»، وتفادي أحادية الجانب في تصوير الطبائع، والانصراف عن الحبكة ذات العقدة المثيرة، والاستعاضة عنها بالحبكة الداخلية المرتبطة بالعالم النفسي للأبطال. ولا يقوم بناء المسرحية عند تشيخوف على أساس التصادمات المباشرة بين الشخصيات، بل على أساس نزاع داخلي عميق يُظهر علاقات الشخصيات بواقعهم، ويكشف عن نفسياتهم وطبائعهم. والحدث الدرامي الحقيقي في هذه المسرحيات ليس الذي يجري على الخشبة بقدر ما هو ذاك الذي يتولد في وعي المشاهِد الواقع تحت تأثير الجو الوجداني العام للمسرحية، وردود أفعال الشخصيات المتجلية في الانفعالات والحوارات التي تتخذ في كثير من الأحيان شكل المناجاة الذاتية. ويمزج تشيخوف في مسرحياته بين العناصر الهزلية والمأساوية، ويستخدم الرمز وعناصر الطبيعة لتقوية التوتر الدرامي غير المباشر الذي يتنامى تدريجياً حتى يصل إلى القمة في الفصل الثالث غالباً، ثم يعود إلى الانخفاض التدريجي.

وقد عالج تشيخوف في مسرحياته الرئيسة مسائل الحب والفن والعمل، والتوق إلى الخلاص من رتوب الحياة اليومية الضحلة، والانطلاق نحو آفاق العمل الخلاق والعلاقات الإنسانية الصادقة. وصوّر في مسرحيته «بستان الكرز» انهيار نمط الحياة القديم الذي فات أوانه، وانبلاج فجر حياة جديدة.

تأّثر تشيخوف في أسلوب كتابة قصصه بكل من بوشكين، وليرمنتوف، في أعمالهما النثرية، وغوغول، وتورغينيف، كما تأثّر على صعيد الإبداع عمومًا بمعاصره الكبير ليف تولستوي، الذي التقاه أول مرة عام 1895. وأثَّر تشيخوف في معاصريه من كبار الكتاب الروس: مكسيم غوركي، وإيفان بونين، وإلكسندر كوبرين، وفلاديمير كورولينكو وسواهم. واستمر تأثيره في كتّاب الأجيال التالية في الاتحاد السوفييتي (سابقًا) والعالم في مجال القصة والمسرح.

وفاته

بحلول مايو 1904، كان أنطون تشيخوف مُصابًا بمرض السل. وأشار ميخائيل تشيخوف إلى أن «جميع من رأوه شعروا بداخلهم أن نهايته ليست ببعيدة» وفي 3 يونيو 1904 انطلق مع أولغا باتجاه مدينة الحمامات الألمانية BADENWEILER، في الغابة السوداء، حيث كتب رسائل مرحة إلى شقيقته ماشا واصفًا المواد الغذائية والبيئة المحيطة، مؤكداً لوالدته بأنه في تحسن مُستمر. وفي رسالته الأخيرة، شكى من طريقة لبس النساء الألمانيات.

توفي تشيخوف في 15 يوليو 1904 عن عمر يناهز 44 عامًا أثناء إقامته في منتجع صحي في الغابة السوداء في بادنفايلر بألمانيا عد صراع طويل مع مرض السل، وهو نفس المرض الذي قتل شقيقه، ونقلت جثة تشيخوف إلى موسكو في سيارة السكك الحديدية المبردة، ودُفن بجانب والده في مقبرة نوفوديفيتشي بموسكو.

تكريمًا لتشيخوف في عام 1954، تمت إعادة تسمية مدينة لوباسنيا باسمه.


عدد القراء: 2186

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-