الاقتراب الصّعب من معلم تذكاري اسمه.. فردريش دورينمات !الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 04:51:36

فكر - المحرر الثقافي

عد مرور 20 عامًا على وفاته، لا تزال سُـمعة فردريش دورنمات، الكاتب والرَسّام والمؤلف المسرحي السويسري، تَستَند على أعماله القديمة "المُتَجَددة" على الدوام، في الوقت الذي بَقيَت فيه أعماله المُتأخرة غير مُكتَشَفة إلى حَد كبير.

وحسب الكاتب بيتر رودي، الذي يعمل على تأليف السيرة الذاتية لدورينمات، فقد تَحَوَّل الأخير إلى شخصٍ غيْـر مرغوب فيه، بعد أن كان شخصية مُتَمَيزة تتلقف أخبارها الصحف، على إثر الهزيمة التي مُني بها في القضية المُتَعَلِّـقة بمسرح مدينة بازل في عام 1969.

ويرى الزائر إلى مكتبة بيتر رويدي، عَددًا لا يُحصى من الكُتُب والأقراص المُدمَجة، المُرتَّـبة حسب الحروف الأبجدية، على مجموعة كبيرة من الرفوف. وبعد عملٍ وبحثٍ دؤوبين، إستغرَقا نحو عشرين عامًا، أعلن رويدي أخيرًا نبأ إصدار الجُزء الأول من السيرة الذاتية للكاتب والرسّام ومؤلف المسرحيات المَلحمية فردريش دورينمات في خريف عام 2011.

وعند سؤاله عن السبب في عَدَم إصدار السيرة الذاتية لدورينمات قبلَ انقضاء كل هذه الأعوام، يَتَنهَّـد رويدي ويُجيب ضاحِكًا: "يعود السبب إليّ شَخصيًّا بالدرجة الأولى"، ويُضيف: "يَضُمُّ إرثُ دورينمات 37 مترًا طوليًا من المخطوطات والنُسَخ المطبوعة. وكان عليَّ تأمين وحماية جزءٍ من هذه المخطوطات على الأقل والتأكد من أصالتها". ويقول روَيدي بأنَّه انشغل طيلة هذه الأعوام بِعَملهِ في الصحافة أيضًا، قبل الانغماس مُجَدَّدًا في أعمال دورينمات، التي شَبَهَها بـ "كعكة الفاكهة" الغنية بالفواكه المُجففة والمُكسرات والتوابل المُختَلِفة، والتي تُصنَع عادةً بمناسبة عيد الميلاد.

ومن خلال تشبيه رويدي لأعمال دورينمات بهذه الكعكة، فإنَّه يصف بالواقع "الكَون الخاص بدورينمات"، الذي اهتم منذُ وقتٍ مُبَكَّر جدًّا بعلوم الفلسفة والفَلَك واللاهوت، كما اهتم لاحِقًا، وبشكلً جدّي، بالرياضيات والفيزياء وعلم الكونيات. ويُعَلَّق رويدي هنا بالقول: "لَمْ يَكُن دورينمات عالِمًا بهذه المواد بالطبع، ولكنه كان مُهتَمًا بأشياء مَلموسة بالفِعل، مثل "نظرية الأنظِمة" (وهي حقل مُتَشعِّب مُرتَبط بعدة مجالات علمية ويدرس العلاقات بين الأنظمة كَكُل).

ويستطرد الكاتب والصحفي بيتر رودي قائِلاً: "من أجل التَحَقُّق من صَحَة ما أورده دورينمات من المعلومات أو عَدَمها، ولمَعرفة مَدى استخدامه لهذه العلوم والمعارف بشكلٍ مجازي فقط لخِدمة أغراضه الشخصية، يَتَحَتَّم على المَرء تكوين تَصوُّره الشخصي حولَ جميع هذه الحالات إلى حَدٍّ ما. وعن نَفسي، فلستُ عالِمًا في الرياضيات، كما لست لاهوتيًا بالتأكيد".

التمرد على الأب

وبالإضافة إلى ما ذُكر سابِقًا، واجهت رويدي صعوبة أخرى في كتابته لِسيرة دورينمات الذاتية، تمَثَلَت في "عدم استعراض المؤلِّـف المسرحي لحياته الخاصة أمام العلَن"، ولاسيَما وأنه "حاول عَزْلَ نَفسه عن عائلته منذ اندلاع شُهرته العالمية. وكان دورينمات يَخشى العلاقات الحَميمة بشكلٍ كبير ودائم، وكان حِس الجمال والوجدان لديه، يتمثَل بالجَمَال عن بُعد".

كان والِد دورينمات "رجلاً مُتسامحًا جدًا، كما كان مُناهضًا للحركة النازية في ألمانيا المُجاورة. غير أن تَمَرُّد الابن ضدّ أبيه، وصل إلى مرحلةٍ قام فيها دورينمات بالاتصال بمجموعةٍ طلابية كانت تطلق على نفسها اسم "حركة الجبهة" (وهي حركة سويسرية موازية للحركة القومية الاشتراكية في الرايخ الألماني. ولكنها لم تكُن سوى ظاهرة هامشية، على عكس الحركة الاشتراكية القومية الألمانية والفاشية الإيطالية) لبِضعة أشهُر.

السجن السويسري

في أوائل عام 1946، وبعد وقتٍ قصيرٍ من انتهاء الحرب العالمية الثانية، قَرَّر دورينمات التوقّـف عن مواصلة دراسته في جامعة زيورخ و"قَطع جميع الجسور المؤدية إلى مُمارستة لوظيفة مدنية جيَّدة، ليُصبِح كاتبًا من دون أن يَملك أيّ مُؤَلّـف يُقَدِّمه". وفي العام نفسه، تزوج دورينمات من المُمَثِلة لوتي غايسلر.

وفي أعماله المُبكرة، عالج الكاتب السويسري الجو الطائفي السائد آنذاك في مَسقط رأسه في منطقة إيمينتال (الواقعة في الجانب الغربي من وسط سويسرا) وذِكرياته عن حقبة الحرب العالمية الثانية. وحَسب بيتر رويدي، كانت إحدى الهواجس، التي رافقت دورينمات خلال هذه المدة، هو التَصور بكونه مُحاصرًا في سويسرا، التي تجنبَت أخطار هذه الحرب، بمعنى أنَّ هذا الموقع المَحمي، كان سِجنًا في الوقت نفسه.

وحسب رودي، فإنَّ هذا هو الموضوع ذاته الذي ظهرَ ثانية خلال الأعوام الأخيرة من حياة دورينمات، والذي انعكس في خطابه الشهير المُسمّى "خطاب هافيل" (لتكريم الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافيل، الذي كان أحد الرموز المناوئة للشيوعية في بلاده ومهندس إسقاط الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا السابقة إبان "الثورة المخملية" في نوفمبر من عام 1989). وقد حَمَل خطاب دورينمات يومها عنوان: سويسرا- السجن؟

التحول إلى الثراء

اشتهر فردريش دورينمات بوصفه كاتبًا مسرحيًّا على النِّـطاق العالمي في عام 1958 من خلال مسرحيته ذات الطابع الكوميدي / التراجيدي "زيارة السيدة العجوز". وكان دورينمات، حسب كاتب سيرته الذاتية، "عبقريًّا كبيرًا في الاقتراض"، وكما يقول رودي، لم يُعانِ دورينمات، حتى قبل ثَرائه، من عَوَزٍ مالي.

وفي روايته لحادثٍ طريفٍ حدث لدورينمات، قال رودي: "بعد العَرض الفرنسي الأول لمسرحية "السيدة العجوز"، أخبَر دورينمات ناشره الألماني بأنَّه في حاجة ماسة لمبلغ 20,000 فرنك سويسري. وقد سأله الأخير مُتَعجِّـبًا عن وقتِ وكيفية تسوية هذا المبلغ من قِبَل الناشر السويسري. وعند نزول دورينمات من القطار في محطة السكة الحديدية في بازل، وجد ناشره السويسري بانتظاره حامِلاً باقة زهورٍ كبيرة جدًّا وهو يزفُّ إليه نبأ وصول اعتماده البَنكي إلى 60,000 فرنك سويسري. وكانت هذه هي نقطة التحوّل في حياة دورينمات.

شخص غير مرغوب فيه

في عام 1969 تولّى الكاتب والمؤلف المسرحي فردريش دورينمات إدارة مسرح مدينة بازَل السويسرية إلى جانب فيرنير دوغلين، (الذي كان يعمل كمدير مسرح وأحد أوائل المُخرجين الناطقين بالألمانية، الذين قاموا بتقديم مسرحيات لصامويل بيكيت والبير كامو وبول كلوديل باللغة الألمانية). ويُعَـلق بيتر رويدي على هذا الحدث بالقول: "كان دورينمات يتمنى حدوث شيء كهذا، أن يكون له مسرحه الخاص، كما كان الحال مع الشاعر والكاتب والمُـخرج المسرحي الألماني بيرتولت بريخت في مدينة برلين".

غير أنَّ برلين كانت تأوي حوالي 30 مسرحًا في عهد بريخت وكان من المُمكن، والحال هذه أن يعكس واحدًا من هذه المسارح، الطابع الشخصي لمُديرها. غير أن الحال كان مُختَلِفًا في مسرح مدينة بازل، الذي كان يعرِض أعمالاً بالأقسام الكلاسيكية الأربعة للمسرح (وهي التمثيل بفروعه: التراجيدي والكوميدي والدراما والمسرح الموسيقي ومسرح الرقص والباليه والقسم الرابع، المُتمثل بمسرح العرائِس).

وكان مسرح مدينة بازل، هو المسرح الكبير الوحيد في المدينة آنذاك. ولهذا السبب، كان يتَوَجَّـب "إدخال" بعض الأعمال المسرحية الأُخرى، بِغَضِّ النظر عن جَـوْدتها، لِغَرَض ملء الجدول في بطاقة الاشتراك. ولم يكُـن بالإمكان عَرض الأعمال المُتَّـسِمة بـ "الجمالية الصارمة" حَصرًا، وهو أمرٌ لم يستطع دورينمات إدراكه.

وكان مسرح مدينة بازل السويسرية، يحتلّ الصدارة ما بين مسارح أوروبا، الناطقة باللغة الألمانية في ذلك الوقت. وكان دوغلين، الذي شارك دورينمات في إدارة هذا المسرح، مَحبوبًا من قِـبَل الصحافة التي تخصِّص بعض صفحاتها للتَّـسلية والأخبار غير السياسية، أو ما يُطْـلَق عليه بالفرنسية Feuilletons. وبعد الإشكالات التي حدثَـت بين دورينمات وشريكه الإداري، "لم يفقِـد الكاتب والمؤلِّـف المسرحي أهميته في صُـحف التسلية الألمانية الكُبرى فحَسْب، بل إنَّها اعتبرته شخصًا غير مرغوب فيه أيضًا"، حسب رودي.

مواقف محتدّة مع حِـسّ الفكاهة

تستند شهرة دورينمات على "أعمالٍ قليلة فقط"، أطلَقَ عليها تسمية "دائمة الخُضرة". أمّا أعماله الأخيرة وقصائده النثرية، فلم تحظَ بالاهتمام الصحيح، المطلوب على الإطلاق، وهو أمر مُـؤسف، حَسب بيتر رويدي، الذي يقول: "لم تكُـن الشهرة التي اكتسبها دورينمات خلال ثمانينيات القرن الماضي، مُستَنِـدة على أعماله الأدبية، ذلك أنها كانت بين جُمْهُور لم ينَتمِ يومًا إلى قُرّاء دورينمات".

وقد اشتهر الكاتب والمؤلف المسرحي من خلال مقابلاته، التي لا تُحصى، ومن خلال آرائِه ومواقفه المُحتَدّة تجاه القضايا اليومية، حيث كانت لديه وِجهة نظره المُتَّـسِمة بالفِـطنة وحِـسّ الفُـكاهة والردود غيْـر المتوقعة حول جميع المواضيع.

ويقول بيتر روَيدي، الذي عَرف دورينمات لِعِدّة سنوات، بأنَّه كان يكتُـب ويرسُـم بشكلٍ مُنتظِـم كل يوم حتى وفاته. وقد دارت بين الاثنين عدّة محادثات خلال هذه الحقبة.

التغلُّـب على المقاومة

ويقول مؤلِّـف السيرة الذاتية للكاتب السويسري: "كان دورينمات يبدأ عمله صباح اليوم التالي في الساعة التاسعة على أكثر تقدير. كما كان لدورينمات رأي، مَفَاده بأنَّ مرض السكَّري الذي كان يُعاني منه طيلة عقود من الزمن، والذي كان يُسفِـر عن نوبات من التَّعب وتَغَيُّر في المزاج، كان مُـفيدًا لعمله في الواقع. وكان الكاتب والمؤلف المسرحي يعد مرضه هذا كنوعٍ من المُقاومة، التي تتطَلَّب منه التغلّـب عليها. وفي آخر حديث أجْريَ معه قبل وفاته بأسبوعين، قال دورينمات: "لو لم يكـن لَدَيَّ مرض السكَّري، لكـنت قد مُتُّ بسبب صحتي منذ وقتٍ طويل".

سيرة مُختَصَرة لفريدريش دورينمات

5 كانون الثاني/يناير 1921: ولادة فريدريخ دورينمات في بلدية "كولونفينغن" Konolfingen   في كانتون برن.

 1941 - 1946: درس دورينمات الأدب والفلسفة في جامعتيْ برن وزيورخ. وفي عام 1946، تزوج من الممثلة لوتي غايسلر.

 1947: الانتقال إلى مدينة بازل. وفي 19 نيسان/أبريل من العام نفسه، افتُتِح العرض الأوَّل لمسرحية "مُسَجَّل في" في مدينة زيورخ.

10 كانون الثاني/يناير 1948: العرض الأول لمسرحية "ضريرٌ في بازل" والانتقال إلى بلدية "ليغريتس" Ligerz، الواقعة على بُـحيرة بيل (بيين) في كانتون برن.

23 نيسان/أبريل 1949: العرض الأول للمسرحية الكوميدية "رومولوس العظيم" في مدينة بازل.

1950-1951: صدور رواية "القاضي والجلاّد" على شكل مُسلسل في صحيفة "شفايتسيريشه بيوباختر" Schweizerische Beobachter، التي تَصدر كل أسبوعين وتَخْتَص بتقديم الاستشارات للمُستهلكين.

1952: الانتقال إلى كانتون نوشاتيل.

26 آذار/مارس 1952: العرض الأول للمسرحية الكوميدية "زواج السيد ميسيسيبي" في مدينة ميونخ الألمانية.

29 كانون الثاني/يناير 1956: العرض الأول للمسرحية الكوميدية / التراجيدية: "زيارة السيدة العجوز" في مدينة زيورخ، والتي تمَّ عَرضها فيما بعد في كلٍّ من العاصمة الفرنسية باريس (عام 1957) ونيويورك (عام 1957 أيضًا) ومدينة ميلانو الإيطالية (عام 1960) ومُـدن أخرى. كما صدرت رواية "الفخ/ الانهيار"، التي حوَّرها دورينمات إلى مسرحية إذاعية بتكليف من راديو بافاريا.

1968: بدء العمل في مسرح مدينة بازل، الذي تخلّى دورينمات عنه في تشرين الأول/أكتوبر 1969، إثر خلافات مع الإدارة وإصابته باحتشاء العضلة القلبية أو ما يُسَمّى أيضًا بـ "الجلطة القلبية".

1969 - 1971: المُشاركة في تحرير المجلة الأسبوعية الجديدة "سونتاغس جورنال" Sonntags-Journal.، الصادرة في مدينة زيورخ.

1981: إصدار النصوص النَثرية "المتاهة" من 1 إلى 3، وتشتمل على: حرب الشتاء في التِّـبت، خسوف القمر، المُتَمَرَد.

1983: مُنِح الكاتب السويسري شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة زيورخ.

1984: زواج الروائي والمؤلف المسرحي مرة ثانية من المُخرِجة والصحفية والمُمثلة شارلوت كير.

14 كانون الأول/ديسمبر 1990: وفاة دورينمات، نتيجة سَكْتَةٌ قَلْبِيَّة في كانتون نوشاتيل، قبل بلوغه عيد ميلاده السبعين بنحو ثلاثة أسابيع.

بيتر روَيدي

عمل رويدي كرئيس للقسم الثقافي في مجلّة "فيلت فوخه" Weltwoche الأسبوعية، الصادرة في كانتون زيورخ. كما يعمل ككاتبٍ مُستَقِل منذ نحو 20 عامًا.

تولَّـدت فكرة كتابة سيرة ذاتية عن الكاتب والرسام والمؤلف المسرحي فريدريخ دورينمات، قبل وفاته بحقبة قصيرة. وفي خريف عام 1990، خَطَطَت المجلة الأسبوعية "دي فيلت فوخه" للقيام بِنَشر سلسلة من المقالات عن دورينمات بمناسبة حلول ذكرى ميلاده السبعين.

وفي الوقت نفسه اتفق كل من دورينمات ورويدي على قيام الأخير بكتابة السيرة الذاتية للكاتب السويسري، استنادًا على سردِه الخاص لحياته. وقد التقى الاثنان لأجراء أوَّل مُحادثة قبل أسبوعين من وفاة دورينمات، التي صادفت يوم 14 كانون الأول/ديسمبر من عام 1990.

وقد تحوّلت سلسلة المقالات، التي كان يُفتَرَض نشرها لمناسبة عيد ميلاد دورينمات السبعين، إلى نعي مُتَعَدِّد الأجزاء في مجلة "فيلت فوخه" Weltwoche  الأسبوعية. ومن المتوقَع صدور الجزء الأول من السيرة الذاتية لدورينمات في خريف عام 2011 من قِبَل دار نشر "ديوجين".


عدد القراء: 6508

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-