كرملين موسكو يحكي عبق التاريخ وروعة الحاضرالباب: قصة مكان

نشر بتاريخ: 2017-11-07 11:01:35

فكر - المحرر الثقافي

يقع كرملين موسكو على تل "بوروفيتسكي"، وذلك على الضفة اليسرى لنهر موسكوفا، حيث يصب فيه نهر نِغلينّايا. ويبلغ ارتفاع التل نحو 25 مترًا. وكانت الأرض التي يقع عليها الكرملين حاليًا في الماضي البعيد عبارة عن غابات صنوبر كثيفة. وتشتق تسمية "بوروفيتسكي" عن كلمة "بور" الروسية التي تعني "غابة الصنوبر".

يقول علماء الآثار ان أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد شهدت أول قدم لإنسان تطأ تل "بوروفيتسكي". وقد أنشئت هنا أول مستوطنة سلافية وضعت أساسًا لمدينة موسكو في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي.

ويعود أول ذكر لاسم مدينة موسكو في المدونات التاريخية إلى عام 1147. وقد ضم الكرملين خلال قرون عديدة قصور القياصرة الروس. وكان القيصر الروسي إفان الثالث قد أمر في القرن الخامس عشر باستدعاء مهندسين معماريين من روسيا وإيطاليا لتجديد الكرملين. وتم على أساس الجمع بين تقاليد فن العمارة الروسي والهندسة المعمارية الإيطالية في عصر النهضة بناء ميدان الكاتدرائيات. وبدأت تظهر بعد ذلك في الكرملين مبان وكنائس وقصور جديدة.

ويتميز القصر بالفخامة والثراء، حيث يضم أكثر من 700 غرفة، وبتصميم داخلي فخم يجمع أنماطًا معمارية عدة من عصور النهضة إلى البيزنطية. بجانب قاعة الاستقبال الرئيسية الضخمة، وخمس قاعات احتفالية كبرى، التي تضم لوحات الرخام الشرفية المنقوش عليها أسماء نحو 10 آلاف من الضباط الروس، الذين تم منحهم أعلى وسام في الجيش الروسي.

وحولت السلطات بعد ثورة أكتوبر 1917 الكرملين إلى مقر لأجهزة الحكم العليا. أما في عام  1990 فقد أدرج الكرملين في قائمة اليونسكو كإرث ثقافي عالمي. ويعبق الكرملين حاليًّا بأريج التاريخ في كل مكان فيه، فهناك المدافع والأجراس القديمة، ومخادع القياصرة، والكنائس والكاتدرائيات القديمة. كما يضم الكرملين قاعة الأسلحة التي تعرض فيها أوسمة وشعارات الدولة، وعروش القياصرة، وملابسهم ومجوهراتهم، والأواني الذهبية والفضية، والأسلحة القديمة، وغنائم الحروب. ولا بد لكل زائر للكرملين أن يشاهد (ملك المدافع) الذي يعد أكبر سلاح في العالم، والذي صمم في روسيا في القرن الثامن عشر ويتجاوز وزنه 200 طن. وقد تم صب هذا المدفع العملاق (عيار 890 ملم) الذي يبلغ وزنه أكثر من 39 طنًا في موسكو في القرن السادس عشر. وقد وضعت أسفل المدفع 4 قذائف تزن كل واحدة منها ألف كغم. وما إن تذكر عاصمة روسيا الاتحادية (موسكو) حتى يتبادر إلى الأذهان الكرملين والساحة الحمراء، ومن الطبيعي أيضًا أن تكون المحطة الأولى للسائح أو الزائر زيارة الكرملين والساحة الحمراء في وسط العاصمة موسكو. حيث تعد من المواقع التاريخية الأبرز في العالم كما تشكل قلب تاريخ موسكو ومركزه. وبذلك يزور الكرملين الذي يُعد رمز روسيا وأحد متاحفها التاريخية الثقافية الغنية حوالي مليوني سائح سنويًا. وقد اكتسب هذا المكان (الساحة الحمراء) شهرته لما شهده من مجازر الثورة البلشفية عام 1917م لتصبح فيما بعد الموقع الرئيسي للعروض العسكرية أيام الشيوعية. تراها دائمًا مزدحمة بالمشاة الروس والأجانب وتعد زيارتها من أجمل الأوقات التي يعيشها السائح لدى زيارته لروسيا، كما تجدها دائمة الحركة مكتظة بالزوار حتى في أوقات الليل وساعاته المتأخرة وفي أصعب الظروف المناخية عندما يشتد البرد وتتساقط الثلوج خاصة أنه محاط بأجمل المنشآت التي يطغى عليها اللون الأحمر، كما يستطيع رؤية قصر الكرملين الرئاسي وزيارة مقابر كبار الشخصيات الروسية، أمثال الرئيس الشيوعي لينين ورائد الفضاء الأول غاغارين والعالم كورتشاتوف والكاتب ماكسيم غوركي. وتعني كلمة الكرملين (القلعة) وهي بالإضافة إلى الساحة الحمراء فن معماري فريد النمط يعود تاريخه إلى ما يزيد على ثمانمائة وخمسة وخمسين عامًا. حيث كانت البداية قلعة خشبية أقامها الأمير يوري دولجوروكي في عام 1147 على إحدى التلال السبع للمنطقة في جزئها المطل على ضفاف نهر موسكو الذي استمدت المدينة منه اسمها اختارها على أطراف إمارة سوزدال لموقعها المتميز عند ملتقى الطرق التجارية في قلب الأراضي السلافية. وتقول كتب التاريخ إنه وما بين ذلك التاريخ وحتى مطلع القرن السادس عشر جرت في نهر موسكو مياه شهدت خلالها المدينة العديد من حالات الازدهار والانحطاط فيما قضت الحرائق على رمزها المسمى بـ "الكرملين". وبالمناسبة فقد حرصت العديد من المدن على إقامة مثل هذه القلاع التي راحوا يسمونها بالكرملين في العديد من عواصم الإمارات والمقاطعات مثلما حدث في نوفغورود وفلاديمير وقازان. وقام ايفان الثالث ببناء الكرملين مستعيضًا بالأحجار جدرانه الخشبية التي كانت عرضة للنار الذي ترابط فيما بين زواياه بثمانية عشر برجًا منها نيكولسكايا وسباسكايا الذي يعد المدخل الرئيسي الذي يفضي إلى الميدان الأحمر. ويمكن للزائر أن يشاهد نصبًا تذكاريًّا في أطراف (الساحة الحمراء) أمام كاتدرائية بوكروفسكي فاسيلي بلاجيني التي أقيمت عام 1561 في ذكرى انتصار إيفان الرهيب على التتار واستيلائه على قازان. إذ يقال إن القيصر إيفان الثالث (الرهيب) استدعى هؤلاء المعماريين ليسألهم عما إذا كانوا يستطيعون إقامة مثل هذه التحفة المعمارية الفريدة النمط بقبابها التتارية الجميلة مرة ثانية، وحين أجاب المعماريون بالإيجاب قام بفقء أعينهم حتى لا تظهر إلى النور تحفة معمارية مماثلة! وعلى مقربة من ذلك المكان يرى الزائر منصة كانت تستخدم ساحة لتنفيذ أحكام الإعدام فيما استخدمت لاحقًا كمنصة للخطباء من الحكام ولإعلان المراسيم وقرارات القيصر على أن الكرملين الذي تحولت عنه الأنظار منذ انتقال السلطة إلى سان بطرسبورغ بعد بنائها في مطلع القرن الثامن عشر على أيدي القيصر بطرس الأول وعادت إليه بعد انتقال لينين في مطلع 1918 فيتخذه فلاديمير بوتين اليوم مقرًا لرئيس الدولة وعدد من مساعديه. كما أنه لا يقتصر وحسب على مقار السلطة الرسمية بل ويتسع أيضًا للكثير من الكنائس والكاتدرائيات ذات القباب الذهبية المعروفة ومنها كاتدرائية أوسبينسكي التي كان فيها يتم تنصيب القياصرة وكاتدرائية ارخانجلسك التي تضم قبو ورفات عدد من قياصرة روسيا منذ القرن السادس عشر إلى جانب كاتدرائية بلاجوفيشينسكي التي كانت أشبه بكنيسة خاصة لعائلة القيصر. وكانت هذه الكاتدرائيات التي تحيط بساحة الكاتدرائيات في قلب الكرملين قد سبق وتحولت إلى متاحف إبان سنوات الحكم الشيوعي فيما عادت إلى دورها الطبيعي مع مطلع سنوات البيريسترويكا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وعلى مقربة من هذه الكاتدرائيات يشاهد زائر الكرملين ما يسمى بـ (قيصر المدافع) أكبر مدافع العالم الذي يبلغ طول ماسورته خمسة أمتار ويزن ما يزيد على خمسة أطنان والذي يستقر إلى جوار (جرس الأجراس) الذي يزن بدوره ما يزيد على مائتي طن ويبلغ ارتفاعه ما يزيد أيضًا على ستة أمتار فيما يستقر إلى جواره جزء من جداره يبلغ وزنه 11.5 طن انفصل عنه نتيجة حريق الكرملين عام 1737 ولم يكن قد استقر في موقعه فوق برج أجراس إيفان العظيم. ومن معالم الكرملين أيضًا عدد من المتاحف الشهيرة مثل متحف السلاح الذي يضم عددًا من أشهر مقتنيات العائلة القيصرية من مجوهرات وكنوز وغنائم وتحف أجنبية وعربات حرب. وهناك كذلك ساعة سباسكي الشهيرة والتي تحمل اسم برج سباسكايا فضلاً عن (قصر الكرملين الكبير) الذي أقيم في مطلع الستينيات خصيصًا كمقر لعقد مؤتمرات الحزب فيما اتخذ ساحة للحفلات الموسيقية والعروض الفنية ذات الأهمية الخاصة فيما شهد مولد الثورة الديمقراطية التي تمثلت في اجتماعات مؤتمر نواب الشعب في عام 1989. أما إدارة الرئيس أو الديوان فتستقر اليوم في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي على مقربة من الساحة الحمراء. أما الساحة الحمراء فتمتد من كاتدرائية فاسيلي بلاجيني (بوكروفسكي) أمام بوابة الكرملين في طرفه الشرقي عند برج سباسكي وحتى نهاية جداره من الطرف الشمالي عند مبنى المتحف التاريخي كانت تسمى بالسوق. وقد كان المكان بالفعل ساحة كبرى تجمع الباعة والمشترين وحتى بعد تحول الاسم مع القرن السابع عشر إلى الميدان الأحمر أو الساحة الحمراء. والأحمر هي الكلمة السلافية القديمة التي تعني (الجميل) وأُطلقت عليه بسبب منظره الجميل وتصميمه المعماري المتميز بأحجار أرضيته البازيلتية التاريخية وما يحيط به من مبان تاريخية وجدران الكرملين ذات اللون الأحمر. وكان يوجد على ضفاف نهر موسكو مرفأ تجاري ترسو فيه السفن الآتية من الجنوب محملة بالجلود والمعادن والأحجار الكريمة وغيرها من احتياجات المواطن ما جعل السوق في ازدهار متواصل، فيما احتفظ بأهميته التجارية ردحًا طويلاً من الزمن حتى تحول مع مطلع القرن العشرين واندلاع ثورة أكتوبر 1917 إلى القيام بدور إيديولوجي بعد انتقال سلطة البلاشفة إلى الكرملين في 1918. وفي هذا المكان كانت تقام الاستعراضات العسكرية والتظاهرات الجماهيرية المنظمة في الأعياد القومية السوفياتية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. وفي ذلك الوقت كانت الجيوش تبدأ طريقها إلى الجبهة من هذا المكان الذي شهد في التاسع من مايو/أيار العرض العسكري التاريخي الذي ألقيت خلاله رايات الفرق والألوية العسكرية الفاشية عند إقدام القادة السوفيت الذين اتخذوا ضريح لينين منصة لهم. وقد ظل الأمر هكذا حتى آخر سنوات الاتحاد السوفيتي السابق ومطلع التسعينيات يوم أصدر الرئيس السابق بوريس يلتسين أمره بحظر إقامة المظاهرات الشعبية ذات الطابع الإيديولوجي في هذا المكان ثم عاد الرئيس فلاديمير بوتين إلى استخدام هذا المكان ساحة لإقامة الاستعراضات العسكرية في المناسبات القومية والتاريخية في ظل رقابة رسمية تامة.

ومن أهم معالم الساحة الحمراء (ضريح لينين) والتي تعود قصة إقامته إلى تاريخ وفاته في يناير/كانون الثاني عام 1924 عندما صدر قرار إقامة ضريح تاريخي يليق بدفن زعيم الثورة البلشفية، وخلال ثلاثة أيام فقط صمم المعماري شوسيف هذا الضريح الذي أعيد بناؤه لاحقًا من أحجار الجرانيت وأفخر أنواع الرخام فيما صار منصة تقام أمامها الاستعراضات العسكرية يعتليها في المناسبات التاريخية والقومية زعماء الحزب والدولة. وكان الحزب الشيوعي السوفيتي قد أقر أن يكون الضريح مكانًا يليق أيضًا بالزعيم السوفيتي الأسبق ستالين في عام 1953 غير أن الحزب عاد وبعد إعلان إدانته لظاهرة عبادة الفرد وإعادة النظر في سياسات ستالين ليصدر قراره بنقل جثمان ستالين ودفنه على مقربة من الضريح أي في المكان نفسه الذي تستقر فيه اليوم جثامين الكثيرين من قادة الحزب والدولة ومنهم بريجنيف واندروبوف وتشيرنينكو ممن تعتلي مقابرهم تماثيل نصفية بوصفهم عظماء الدرجة الأولى. أما الآخرون من مشاهير العلماء ورواد الفضاء فقد استقر رفات جثامينهم في زجاجات وضعت في تجويفات أعدت خصيصًا للاحتفاظ بها في جدار الكرملين المطل على الميدان الأحمر خلف ضريح لينين. غير أن هناك مقابر أخرى تسمى بمقابر عظماء الدرجة الثانية تقع في أطراف موسكو على مقربة مباشرة من (دير العذارى) والذي دفن فيها خروشوف وغيره من العظماء ممن لم تكن القيادة الحزبية راضية عنهم بالدرجة التي يليق معها أن يحظوا بشرف الدفن في الساحة الحمراء وهي التي صارت بدورها مزارات سياحية لما فيها من نصب تذكارية تشكل تحفًا فنية فريدة النمط. وبقي ضريح لينين مزارًا سياحيًّا يقصده الحزبيون المتشددون من أنصار الفكر اللينيني والسياح الوافدون على موسكو في الوقت الذي يتواصل فيه الجدل السياسي والاجتماعي حول عقلانية الإبقاء على جسد لينين (محنطًا) في هذا المكان مما يتناقض مع التقاليد الأرثوذكسية.

 

المصدر:

- صحيفة الشرق الأوسط، 04 يناير 2017 م.

- صحيفة الرياض، 21 نوفمبر 2006م - العدد 14029.

- موقع RT. ttps://arabic.rt.com

- موقع DW. http://www.dw.com


عدد القراء: 7932

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-