جين أوستن وتطور فن الرواية الإنجليزيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-17 11:15:08

فكر - المحرر الثقافي

يرى بعض النقاد وعلى رأسهم إيان وات Ian Watt أن جين أوستن تمثل قمة تطور فن الرواية البريطانية في القرن المذكور. وفي رأي ف.ر ليفيس F.R.Leavis أنها تفوقت على من سبقها في فن الرواية، وذلك لاهتمامها بموضوع الشكل وعنايتها بالقضايا الأخلاقية.

جين أوستن (1775 - 1817) Jane Austen روائية إنكليزية عاشت معظم حياتها بعيدًا عن أضواء الشهرة وضجيج المدن. ولدت في ستيفنتن Steventon من مقاطعة هامبشير Hampshire، وهي بلدة صغيرة متواضعة، عادية في تقاليدها. كان والدها راعيًا للأبرشية، وقد استطاع بحكم مركزه وشخصيته أن يوفر للأسرة مكانة اجتماعية حسنة مما يسّر لها الاختلاط بطبقة راقية من المجتمع، عرفت الكاتبة منها أنماطًا متعددة من الشخصية الإنسانية. كما أن والدها كان أكثر الناس تأثيرًا في حياتها.

قضت جين أوستن خمسة وعشرين عامًا في ستيفنتن، وعند تقاعد والدها سنة 1801 انتقلت الأسرة إلى باث Bath البلدة السياحية المعروفة. وتوفي والدها سنة 1805 فأخذت الأسرة تنتقل من مكان إلى آخر إلى أن استقرت سنة 1809 في بلدة تشوتُن Chawton، ومن هنا قامت أوستن بعدة زيارات للندن. مرت الكاتبة بتجربة حب واحدة لم تنته بالزواج. وفي سنة 1816 أقامت الأسرة في ونشستر Winchester حيث كانت الكاتبة تتلقى العلاج، وتوفيت في العام التالي.

شهد القرن الذي ولدت فيه جين أوستن تطور الثورة الصناعية وما نتج عن ذلك من تحولات اقتصادية واجتماعية أدت إلى ظهور الطبقة المتوسطة، وأسهمت مع الثورة الفرنسية (1789) في طرح قضايا على مختلف الأصعدة؛ عالجها مفكرون أمثال آدم سميثAdam Smith وإدموند بيرك Edmund Burke ووليام غودوين William Godwin. وهكذا عاشت جين أوستن في عصر كان المجتمع الإنكليزي فيه في حالة تحول سياسي واجتماعي، ولم تكن الحروب النابوليونية إلا إحدى معالمه.

ومع أن جين أوستن عاشت حياتها بعيدًا عن مجتمع الأدب والأدباء، فإن معرفتها بأدب القرن الثامن عشر كانت جيدة. فقد عرفت روايات صموئيل ريتشاردسونSamuel Richardson، وأعجبت بصموئيل جونسونSamuel Jonson وجورج كرابGeorge Crabb ووليام كوبرWilliam Cowper ، وهناك إشارات في رواياتها إلى بعض كتاب القرن من أمثال ألكسندر بوبAlexander Pope، وهكذا فإن تراث جين أوستن الأدبي يعود في معظمه إلى القرن الذي شهد المراحل الأولى لتطور الرواية البريطانية على أيدي صموئيل ريتشاردسون وهنري فيلدنغ Henry Fielding ويرى بعض النقاد وعلى رأسهم إيان وات Ian Watt أن جين أوستن تمثل قمة تطور فن الرواية البريطانية في القرن المذكور. وفي رأي ف.ر ليفيس F.R.Leavis أنها تفوقت على من سبقها في فن الرواية، وذلك لاهتمامها بموضوع الشكل وعنايتها بالقضايا الأخلاقية.

أنجزت جين أوستن ست روايات في حياتها لم تحقق لها الشهرة آنذاك لكنها تحققت بعد وفاتها.

بدأت جين أوستن حياتها الأدبية في نطاق أسرتها، فقد قامت في التسعينيات من القرن الثامن عشر بتأليف عدد من الروايات التي تسخر فيها من بعض جوانب الأدب الإنكليزي. وأهم كتاباتها في هذه الحقبة رواية «نورثنغر آبي» Northanger Abbey، وهي نقد ساخر لفن الرواية البريطانية في القرن المذكور ولاسيما الرواية العاطفية والقوطية (الأدب القوطي) Gothic literature. كما قامت في أثناء الحقبة ذاتها بكتابة أولية لروايتين هما «العقل والعاطفة» Sense and Sensibility ، وقد نشرت سنة 1811، و«كبرياء وتحامل» Pride and Prejudice التي نشرت سنة 1813. ثم أتبعتهما بـ«مانسفيلد بارك» Mansfield Park سنة 1814 و«إيما» Emma سنة 1816، و«الإقناع» Persuasion وقد انتهت منها سنة 1816، ولكنها نشرت مع «نورثنغر آبي» سنة 1818. وتركت الكاتبة عند وفاتها جزءًا من رواية سُمِيت «سانديشن» Sandition.

يتمثل عالم جين أوستن الفني بشريحة من المجتمع البريطاني لا تتعدى أربع أسر أو خمسًا متباينة بعض التباين في المستوى الاجتماعي والمادي. وتبتعد الكاتبة غالبًا عن المدن الكبيرة وتتجنب الفئات الدنيا، وهي تنأى إذ تصوّر العلاقات الاجتماعية عن جموح الانفعال والصراع الطبقي. وتتخذ رواياتها شكل الملهاة Comedy، سواء في التصوير الساخر للعادات الاجتماعية أو في تحريك العمل الفني نحو نهاية سعيدة، تقوم على انتصار الحب قيمةً إنسانية وزواج البطل والبطلة مع وجود المصاعب المحدقة بهما، وهي تؤدي في واقع الأمر إلى تحديد أوضح لهوية شخصياتها والعالم المحيط بتلك الشخصيات. ويسهم الحوار في هذا الصدد إذ تستخدمه الكاتبة بحذق فائق لرسم الشخصية وكشف عناصرها الخفية، ولكن فهم ما ترمي إليه يتطلب قراءة واعية ذكية. وتجعل سخرية الكاتبة من كل هذا أمرًا يثير الضحك والتأمل في الوقت نفسه. وهكذا تجمع جين أوستن بين الواقعية realism والأخلاقية moralism، أي بين القدرة على تصوير الواقع ونقده من دون الانزلاق الفاضح نحو النزعة التعليمية didacticism.

وقد انتقد بعض الدارسين جين أوستن لضيق أفق عالمها وافتقاره إلى النواحي الفكرية والاجتماعية في زمن الثورتين الفرنسية والصناعية. ومع ذلك فقد أقر بعضهم بصدق وصفها لعالمها، وإن أخذوا عليها الاهتمام بمعالمه السطحية. وقد أقرت هي نفسها بضيق عالمها إذ قالت: إنها تعمل بفرشاة دقيقة على قطعة عاجية عرضها بوصتان اثنتان، وهذا وصف صادق لطريقتها الفنية فهناك مع ضيق الرقعة تفاصيل دقيقة متعددة. وتعترف في بعض رسائلها بعدم قدرتها على تأليف رواية تاريخية أو رسم شخصية تتسم بسعة الثقافة وعمق العاطفة. ويرى بعض النقاد أن جين أوستن ترتبط باتباعية القرن الثامن عشر في منهجها النقدي الساخر وبقيمها الاجتماعية والأخلاقية، إذ تركز على مفهومات النظام والهرمية الاجتماعية والتعقل والانضباط بأسلوب هو نفسه مرآة هذه الأفكار.

غير أن الهدوء المخيم على روايات جين أوستن الرئيسة يحركه فكر ناقد ساخر. ففي تصورها لمعرفة الذات، وهو موضوع يشغلها كثيرًا، ترى الكاتبة أن محدودية هذه المعرفة أمر يحتمه تسلط الأنا الفردية، وعلى هذا فإن معرفة العالم تبقى محدودة. وهنا تتدخل سخرية الراوية narrator التي تجد موقعها الطبيعي في عالم يسيطر عليه سوء الفهم والمغالطات في أبعادها النسبية وفي مستواها المطلق. وفي عرضها العلاقة بين الجنسين تركز الكاتبة على أبعادها المادية وعلى تبعية المرأة وخضوعها النظري لتفوق الرجل الاجتماعي، وما يترتب على ذلك من شد وإرخاء في لعبة أشبه ما تكون بشد الحبل. ويرى بعض النقاد أن هناك تمردًا على وضع المرأة أو على الأقل تعاطفًا معها. وما ضيق الرقعة الفنية التي يتصف بها معظم رواياتها إلا تعليق على الأسر الاجتماعي والمادي الذي تعيشه المرأة. وهكذا ففي معالجة جين أوستن لهذا الموضوع تظهر الأسس الاقتصادية للأسرة، ومن ثم للمجتمع كله، وما قد يؤدي إليه ذلك من عبث بالعواطف الإنسانية وانهيار الأسس الأخلاقية والفكرية للمجتمع. وعلى هذا تبدو روايات جين أوستن وكأنها تتكون من توتر خفي بين تيارين أحدهما محافظ والآخر متحرر liberal، ولذا فإن قراءة أي رواية لها تعد تحديًا كبيرًا للقارئ، إذ عليه أن يحدد، على ضوء تفاصيل الحبكة والتعليقات والتلميحات الذكية للرواية، أثر كل تيار في صياغة العملية الفنية وفي الناتج الفني والفكري لكل رواية، الأمر الذي قد يفسر جزئيًّا استمرار اهتمام النقاد بفن جين أوستن وفكرها، مما يؤكد ثبات مكانتها في تاريخ الأدب الإنكليزي عامة والرواية البريطانية خاصة.

لقد كان اختيار جين أوستن نصرًا نسويًّا أولاً، ونصرًا أدبيًّا ثانيًا لاسم روائية تقع ضمن أشهر الكتاب المؤسسين لفن السرد الذين يعشقهم سكان هذه البلاد، إلى جانب كل من الروائي تشارلز ديكنز والكاتب المسرحي شكسبير. هي الرمز النسوي الأكثر شهرة في عالم الأدب المكتوب بالإنجليزية برغم وجود بعض الأسماء التي ظهرت لاحقًا، إلا أن الهوس بها لا يمكن مقارنته أبدًا بفرجينيا وولف التي جاءت بعدها بقرنين من الزمن، فوولف رمز للمثقفين البريطانيين وهمومهم النخبوية، بينما تبقى أوستن رمزًا إنجليزيًّا تحديدًا، أكثر شعبية لدى قطاع أكبر من القراء. إنها تقارب «الأخوات برونتي» في الشعبية لكنها سبقتهن جميعًا إلى اقتحام عالم الكتابة بسبب ولادتها قبلهن في القرن الـ17.

وبعيدًا عن الكتابة شغلت أوستن الإعلام البريطاني على مستوى آخر، إذ عرضت لها دار سوذبيز للمزادات لوحة البورتريه الأصلية الوحيدة المعروفة لها وهي من توقيع الفنان جيمس أندروز بالألوان المائية وقد استلهمتها رسوم بورتريهات أخرى عبر الزمن، إذ لم تكن أوستن موجودة مدة اختراع الكاميرا فهي مولودة أواخر القرن الـ18. ومع ذلك لم تجلس أمام الفنان ليرسمها، لقد أنجز البورتريه بعد رحيلها بسنوات، عندما كلف أحد أحفاد العائلة وهو إدوارد أوستن لي هذا الفنان عام 1869 بإنجاز لوحة ترافق نشر أول كتاب سيرة ذاتية لجين أوستن وحمل توقيعه. ولم يكن لدى الأسرة رسمًا لجين أوستن سوى اسكتشات رسمتها لها أختها كاسندرا (محفوظة الآن لدى متحف البورتريه الوطني)، إلا أن الحفيد لم يقتنع أنها تعبر عن الخالة فعلاً، صاحبة الخطو الخفيف والواثق معًا، والملامح التي تشي بالصحة والحيوية، لذا كلف الفنان بإنجاز لوحة البروتريه معتمدًا على اسكتشات كانت قد رسمتها لها أختها إضافة لتفاصيل من ذاكرة الحفيد.


عدد القراء: 9931

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-