عصر الصورةالباب: فنون

نشر بتاريخ: 2017-11-07 10:32:14

فكر - المحرر الثقافي

خاص: مجلة فكر الثقافية

 

 

إن التفكير مستحيل من دون صور.

                                          "أرسطو"

 

إننا نعيش بالفعل في عصر الصورة.

                                   "آبل جانس"

 

مع التطور التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، انتقلت الصورة الفوتوغرافية من مجال العمل الاحترافي لتصبح أداة سهلة في يد كل فرد يقدم بها نفسه بالطريقة التي يرغب، فمن سمات عصرنا الراهن أنه «عصر الصورة»، ما يعني هيمنة الصورة وسيادتها لتكون إحدى أهم أدوات عالمنا المعرفية والثقافية والاقتصادية والإعلامية.

وقد ساهمت الثورة الكبيرة التي شهدتها مجالات التكنولوجيا الرقمية في التغيير الراديكالي للعالم الذي نحيا فيه، كما أنها لعبت دورًا حاسمًا في الطريقة التي نتفاعل بها مع هذا العالم من حولنا، ومع بعضنا البعض كذلك. منحت تلك التكنولوجيا قدرًا أكبر من الاستقلالية والسيطرة للفرد وغيّرت من تصورنا لمفاهيم أساسية مثل الزمان والمكان والمجتمع، وبذلك تغيرت أنماط تمثيل ذلك الواقع عما كانت عليه في مراحل سابقة.

ما نشاهده الآن مع الثورة الرقمية أعطى الصورة معطيات، فأصبحت دلالاتها لا ترتهن إلى مقاساتها التقنية وأبعادها الضوئية بل تنبع من المشاهد التي تعبر عن حدث ما أو مؤثرات من تدبير المصور.

وقد ساعدت الصورة الرقمية على سرعة تغيير الأزياء والموضة وأنماط الحياة في بيئات محلية كانت مغلقة ومعزولة، وأحدثت تحولاً كبيرًا في تجربتي الزمان والمكان بالنسبة للوعي الفردي والجمعي. فسرعة الاتصال المرئي والمسموع بين الأفراد وسرعة تداول المعلومات والصور أدت إلى إيجاد علاقات جديدة مع بعدي الزمان والمكان. وإذا كانت حقبة التلفزيون والقنوات الفضائية والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية قد عملت على انضغاط الزمان والمكان، كما يصف الباحث ديفيد هارفي في كتابه "حالة ما بعد الحداثة"، فإن الصورة الرقمية والشبكة الالكترونية قد همشتا الزمان والمكان بوصفهما سياقًا قسريًّا يؤطر عمليات التواصل والتفاعل البشري ويحددها.

وقد تحول المتلقي العادي من مستهلك للصور والرموز إلى مستهلك ومنتج في الوقت ذاته من خلال ما يعرف بالمدونات ورفع تسجيلات الفيديو القصيرة على مواقع متخصصة مثل (اليوتيوب You Tub) ومواقع التواصل الواسعة الانتشار مثل (الفيس بوك Facebook). وفي محاولة منها لاحتواء هذه التغييرات المتسارعة لجأت تلك الشركات والشبكات الإخبارية العالمية إلى تخصيص جوائز صحفية خاصة بفئة صحافة المواطن، تمنح للأشخاص الغير متخصصين الذين يعملون على إنشاء  مدونات صحفية أو رفع تسجيلات فيديو أو تسجيلات صوتية تعمل على تغطية أحداث بارزة في مناطق النزاعات المسلحة الخطرة. وقد ساهمت بعض تلك المدونات والتسجيلات بالفعل في نقل حقيقة ما يجري على الأرض للعالم، في الوقت الذي غابت فيه التغطية الصحفية والاعلامية المحترفة.

يعرف إدوار هريو بأن «الثقافة هي ما يبقى للإنسان عندما ينسى كل شيء». الصورة تنعم بقدرة التسلل والإقامة الطويلة في الذاكرة، فقد ينسى أحدنا كتابًا قرأه قبل عشرين عام ولكنه بالتأكيد لن ينسى مشهدًا بصريًّا أو صورًا لا سيما تلك التي تحفل بجرعة عالية من الجاذبية والدهشة.

ولا بد من الإشارة إلى أن للصورة مميزات وخواص تجعلها على قدر من الأهميـة لا يمكن إغفاله. فالصورة قادرة على التوصيل الناجح بتأثير أكبر من تأثير الكلمة، وهـو مـا يستخدم في الدعاية عمومًا، وفي الحروب النفسية وفي الإعلام والاتصال الجماهيري.

كما أن الصورة في ذاتها تدعم الحقيقة، والحكمة القديمة التي تقول «من رأى ليس كمن سمع» إشارة إلى أهمية الصورة ودورها التأثيري الكبير للحد الذي جعلها بديلاً عن الخبرات الشخصية التي يمر بها الفرد، كما أننا أصبحنا نكون الكثير من الأفكار عن غيرنا من خلال الصورة، فهناك الكثير من البلاد لم نزرها لكن لدينا الكثير من المعلومات عنها وعن حياة أهلها من خلال الصورة، كما أننا لم نقابل كل من نعرفهم لكن الصورة ظلت شاخصة وحاضرة في تكوين أفكارنا نحوهم، ولاشك أن التطور التكنولوجي الذي نعيشه في أقنية نقل الصورة وتداولها، ومنها وسائل التواصل الشخصي والإعلام الجديد والتي ساهمت في أن يكون الشخص ذاته منتجًا للصورة وليس متلقيا فقط لها، زاد من انتشارها، الأمر الذي جعلها بحق ثقافة تبنى عليها الخبرات والمواقف.

وقد نقلت الصورة الثقافة بمعناها الاصطلاحي من برجها العاجي ونزلت بها بين الناس، فإذا كانت الكلمة هي وسيلة الثقافة لدى النخب فإن الصورة هي حيلة باقي أفراد المجتمع بمختلف مستوياتهم التعليمية وهم القطاع الأكبر المستهدف، فالنخب غالبًا هم صناع الرسالة وغيرهم جمهورها، كما أن الكلمة في شكلها المجرد تخاطب العقل في حين الصورة تتجه إلى العقل والعاطفة، حيث سبقت الصورة أحيانًا الكلمة. ومن يتفحص النصوص المقروءة على مدار التاريخ تجد أنها لكي تخترق عقل ووجدان القارئ اتجهت إلى رسم صور في ذهن المتلقي، كما أن الأفكار المجردة سعت إلى البحث عن صور تتقرب بها إلى المتلقي.

إن من يملك أدوات صناعة الصورة يملك أن يلون العالم كما يشاء، ويقدم نفسه كما يشاء وكما يود أن يراه الآخرون، ليس في عالم السياسة فحسب ولكن في الفن والأزياء وتشكيل الوجدان والسلوك، لأن قوة الصورة بلونها وحركتها ومضمونها الذي يعبر عما يصل للمتابع مختصرة الزمان والمكان وعناء التحليل والاستيعاب، وهو ما يجعلنا بحاجة إلى التفكير بجد في إعادة صياغة ما لدينا من فكر وثقافة وإبداع وتاريخ عبر الصورة باعتبارها الذاكرة المرئية للشعوب، فضلاً على أن ثقافة الصورة باتت ثقافة العصر.

 

المصادر:

- د. خالد الخاجة، ثقافة الصورة.. ثقافة العصر، صحيفة البيان، التاريخ: 26 مايو 2015.

- علاء سرحال، صحيفة الحياة، تأثير الصورة الرقمية في البرمجة الذهنية، التاريخ:  5 سبتمبر 2016 .

- د. معن الطائي، جديد عالمنا: قوة الصورة الرقمية والمجتمعات التفاعلية، صحيفة قاب قوسين الثقافية، 23 يونيو 2014.

-  هبة فتوح، ورقة بحث: ثقافة الصورة الإعلامية:

http://www.tourathtripoli.org/phocadownload/dirasset_fi_ali3lam/sakafet%20alssoura.pdf


عدد القراء: 17141

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-